أوراق في السيرة و الأخلاق - والصلح خير.. - قراءة في مكاسب صلح الحديبية-

منذ 2016-02-17

صلح الحديبية يُعد بحق صفحة مشرقة في تاريخ الأمة الإسلامية؛ وحجة داحضة للافتراءات التي دأب المستشرقون على الترويج لها؛ والزعم بأن الجماعة المسلمة الأولى سلكت سبيل القهر والتسلط في حمل القبائل والدول المجاورة على اعتناق الإسلام.

إذا كان للثورة فلسفتها؛ وللغضبة المُضرية شعراؤها؛ فإن للصلح مقصده الأسنى الذي يتخطى حدود كل فلسفة وشعر! ورغم أن تاريخ الأمم حافل بملاحم الصدام التي أُهريق فيها الدم لأجل قضية عادلة؛ وفي أحيان كثيرة إرضاء لغرور حاكم؛ إلا أنه لم يعدم وقفات جليلة يستعيد فيها موكب الإنسانية رشده وتوازنه؛ وترجح كفة النبل أمام كل المطامح الضيقة والمكاسب الرعناء!

وصلح الحديبية يُعد بحق صفحة مشرقة في تاريخ الأمة الإسلامية؛ وحجة داحضة للافتراءات التي دأب المستشرقون على الترويج لها؛ والزعم بأن الجماعة المسلمة  الأولى سلكت سبيل  القهر والتسلط  في حمل القبائل والدول المجاورة على اعتناق الإسلام.

انقضت ست سنوات من الجهاد العسكري مخلفة وراءها حالة من الانسداد والعداء السافر. ست سنوات لم يتقابل خلالها المسلمون والقرشيون إلا في ساحة المعركة. طرف يسعى لردم العقائد الفاسدة؛ والعودة بالناس إلى منبع التوحيد الصافي؛ وطرف آخر يُدافع عن صيته وتجارته؛ ويتواطأ مع الجبهة اليهودية للفتك بأبناء عمومته.

في هذا المناخ المتوتر يعلن النبي صلى الله عليه وسلم عزمه التوجه إلى مكة لأداء العمرة؛ فيصحبه ألف وأربعمائة من المؤمنين الواثقين؛ بينما يتلكأ الأعراب ومن شاكلهم من المنافقين. إنها في رأيهم عمرة المغرم لا المغنم؛ وقريش لن تتوانى عن صد المسلمين بل واستئصال شأفتهم ذبا عن مهابتها!

يبلغ الموكب "ثنية المرار"؛ على بعد أميال قليلة من مكة؛ فتبرك "القصواء" (1) إيذانا ببدء التدبير الإلهي الصرف لمحطة فاصلة في مسار الدعوة الإسلامية؛ ويكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن رغبته العميقة في السلم؛ والتأسيس لعلاقة هادئة بقوله «لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» (رواه أحمد)؛ ويبلغ اللين النبوي إزاء تشدد مبعوث قريش؛ أثناء  كتابة بنود الصلح؛ حدا يُثير اندهاش الصحابة؛ وتنفلت له الأعصاب!

هذا عمر بن الخطاب رضي الله يعترض قائلا للرسول الكريم:

- ألست نبي الله حقا؟

- فيجيب النبي صلى الله عليه وسلم: «بلى»!

- قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟

- قال: «بلى»!

- قال: فلم نُعطى الدنية في ديننا؟

- قال: «إني رسول الله؛ ولست أعصيه؛ وهو ناصري» (متفق عليه)

نعم؛ إنه رسول الله!

تلك حقيقة لم تغب بكل تأكيد عن أذهان الصحابة؛ لكن ست سنوات من الإيقاع العسكري المتلاحق؛ والحرص على الشورى كمبدأ في تدبير شؤون الجماعة المسلمة رسخ في الأذهان قناعة مفادها أن عمل النبوة مشروط بموافقته لمقاييس الإدراك البشري.

فكان من الطبيعي أن يندهش المسلمون لإصرار النبي صلى الله عليه وسلم على إمضاء هذا الصلح؛ وتركه الشورى على غير عادته.

وهو ما يؤكده الدكتور محمد البوطي بقوله: "إن أمر هذا الصلح كان مظهرا لتدبير إلهي محض تجلى فيه عمل النبوة وأثرها كما لم يتجل في أي عمل أو تدبير آخر؛ فقد كان نجاحه سرا مرتبطا بمكنون الغيب المطوي في علم الله وحده؛ ولذلك انتزع – كما قد رأيت – دهشة المسلمين أكثر مما اعتمد على فكرهم وتدبيرهم؛ ومن هنا فإنا نعتبر أمر هذا الصلح بمقدماته ومضمونه ونتائجه من الأسس الهامة في تقويم العقائد الإسلامية وتثبيتها" (2).

زالت الدهشة بعد أن لاحت ثمار الهدنة؛ وكشفت الأيام اللاحقة ما انطوى عليه الصلح من خير كثير؛ كما تبدى لكل ذي عقل أن تحصيل هذه المكاسب لم يكن منوطا بقوة السلاح؛ بل بتدبير رباني يتخطى حدود البشرية العادية؛ وهو ما نزلت سورة الفتح لتوكيده!

فما هي إذن أهم المكاسب التي جناها المسلمون من صلح الحديبية؟

أ- الاعتراف الر سمي بالإسلام: إن موقف قريش حيال الإسلام  والمسلمين شاهد حي على ما يمكن أن يقود إليه التعصب الأعمى من انغلاق فكري؛ وتخبط في الرأي؛ واحتكام إلى الهوى في تقييم الأشياء والأحياء!

فقريش التي ظلت عقودا تشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة وسداد الرأي؛ تنحازغداة الجهر بالدعوة إلى حميتها فتنعته بالكذب والكهانة والجنون؛ وتذيق ألوان العذاب لضعفاء لا ذنب لهم سوى انبثاق بذرة التوحيد في قلوبهم! وحتى حين يُخالف اليهود معتقدهم؛ ويشهدوا لقريش بأن وثنيتها خير من الإسلام (3) لا يتنبه عقلاؤها لما ينطوي عليه الموقف اليهودي من مغالطة على اعتبار أنهم حملة راية التوحيد قبل الإسلام!

غير أن صلح الحديبية انتزع من قريش ما ظلت سنوات تتهرب من الإقرار به وهو: أن الإسلام دين؛ وأن لأتباعه الحق في أداء ما افترضه عليهم من شعائر في بيت الله الحرام. وأن لمحمد صلى الله عليه وسلم من المكانة والمهابة في صدور أصحابه ما يجعلهم منضبطين لما يتخذه من قرارات؛ وما يعقده من مواثيق.

إنه اعتراف حرر بيت الله الحرام من الوصاية الجائرة؛ وكان له أثر واضح في نفوس القبائل المجاورة التي اعتادت الخضوع لسطوة قريش على مكة.

ب- انقسام الجبهة القرشية: وقد لاحت بوادره في موقف الحليس بن علقمة سيد الأحابيش  الذي انتدبته قريش لمفاوضة المسلمين؛ فما إن دنا من معسكر المسلمين ورأى الهدي حتى عاد مسرعا قبل أن يصل إلى الرسول؛ وأخبرهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا للكعبة؛ فقالوا: إنما أنت أعرابي لا علم لك؛ فاستشاط غضبا وصاح: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم؛ أيُصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتُخلن بين محمد وبين ماجاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد؛ فقالوا: مه؛ كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى له" (4)

ثم تلاه دخول خزاعة في عقد المسلمين وإيثارهم الانضمام لحلف محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما مثل تصدعا خطيرا لجبهة قريش وإضعافا لمركزها الحربي.

ج-  إسلام العقلاء: من ثمرات هذا الصلح كذلك أنه رفع غشاوة العصبية عن أبصار وبصائر العقلاء من قريش؛ وهيأ لهم الفرصة لمراجعة مواقفهم؛  يقول الكاتب محمد فريد وجدي: "كان لا بد من وجود هدنة يلقى فيها السلاح جانبا مدة كافية ليتمكن العقلاء من الناحيتين من التقابل والتفاهم؛ والأخذ والرد والإقناع والاقتناع حتى يكون في الجماعة رجال كثيرون انضموا إليها منقادين لأصوات ضمائرهم؛ لا مستسلمين لعامل المنفعة" (5).

فخالد بن الوليد أو عمرو بن العاص أو عثمان بن طلحة؛ وهم ممن أسلموا في فترة الصلح؛ ليسوا من طينة الرجال الذين يُذعنون للسيف؛ ويغيرون معتقدهم خوفا من البطش أو طمعها في الغنيمة. فشاء التدبير الإلهي أن ينقادوا لصوت العقل؛ ويكون إسلامهم تعزيزا للقيادة الإسلامية في بداية احتكاكها بالجبهة البيزنطية في الشمال.

د- شل النفوذ الاقتصادي لقريش: كانت هدنة الحديبية محطة تاريخية فاصلة تتحدد من خلالها سمات المرحلة المقبلة؛ وهو ما لم تتنبه له قريش التي أفقدها الطيش والتعصب وعيها؛ فكان مطلبها الأساس "ألا يحج المسلمون عامهم هذا" بدل أن تحرص على تأمين وجاهتها الاقتصادية!

فلم تكن التجارة هي المورد الوحيد لسادة مكة؛ بل إنهم كانوا يجنون مبالغ طائلة من عائدات الضرائب التي تدفعها القبائل الوافدة لأداء مناسك الحج. وبلغ بهم التشدد أن منعوا الحجاج من التزود بطعام غير طعام مكة؛ أو الطواف في ثياب غير ثيابها؛ ومن لم يجد ما يقتني به الثوب يطوف عريانا(6)

لكن عند كتابة بنود الصلح لم تشترط قريش أن يدفع المسلمون هذه الإتاوة؛ وهو ما عُد خطأ فادحا "فعندما طاف المسلمون حول الكعبة بعد عام دون وضع هذه الإتاوة تنبهت القبائل الأخرى.. إذن فقريش ليست الصاحبة الوحيدة للكعبة؛ وإلا كيف استطاع المسلمون الآتون من المدينة الطواف حول الكعبة دون وضع هذه الإتاوة؟ لذا فقد أتى الجميع في السنوات المتعاقبة إلى البيت الحرام دون عراقيل" (7)

أما العامل الثاني فهو الإحساس المتزايد بالعزلة خصوصا بعد انتشار الإسلام في اليمن؛ مما يعني أن السطوة التجارية لقريش دخلت مرحلة الانكماش ونضوب الموارد؛ وبالتالي التبعية الحتمية للحراك الاقتصادي في المدينة!

تبين لقريش إذن أن الهدنة كانت وبالا عليها وأن لا مناص من نقض الصلح والعودة إلى ساحة المعركة؛ فحققت بذلك مكسبا إضافيا للمسلمين وهو التعجيل بفتح مكة؛ وإعلاء راية التوحيد في أشرف بقاع الأرض!

إن بعض دارسي السيرة سواء من المستشرقين أو من دعاة العقلانية  الفجة سعوا جاهدين لنفي التأييد الإلهي لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وجردوا عمل النبوة من أي صلة بالسماء. فمنهم من يتحدث عن العبقرية والامتياز الذاتي؛ ومنهم من يحتج بالدراية المسبقة بالواقع السياسي والاجتماعي لجزيرة العرب؛ وآخرون ينسبون الفضل للخبرات المستلهمة من تعاليم الأديان السابقة ولكن ما إن تستوقفهم أحداث صلح الحديبية حتى  يُقروا بعجزهم عن فهم ما جرى.

يُعلق المستشرق ر.ف.بودلي على هذا الحدث بقوله: "أن يرغب القرشيون أن يُعاهدوا محمدا؛ وأن يعترفوا به كإنسان يستحق الاهتمام؛ وأن يعتبروه حاكما لجماعة عربية؛ كل ذلك كان شيئا خارج الظنون"(8)وهو بالفعل أمر خارج الظنون لمن كرهوا أن يبتغوا بفكرهم سلما للسماء!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  

(1): ناقة النبي صلى الله عليه وسلم

(2): محمد سعيد رمضان البوطي .فقه السيرة .دار الفكر سورية .1991 .ط10. ص 345-346

(3): يقول المستشرق إسرائيل ولفنسون في كتابه "تاريخ اليهود في بلاد العرب" ( كان من واجب هؤلاء ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش؛ وألا يُصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم لأن بني إسرائيل الذين كانوا مدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الاقدمين و الذين نُكبوا بنكبات لا تُحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية كان واجبهم أن يُضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين .هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عباد الأصنام إنما كانوا يُحاربون أنفسهم ويُناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة).

(4): رواه ابن إسحاق في حديث الحديبية.

(5): محمد فريد وجدي .السيرة النبوية تحت ضوء العلم و الفلسفة .الدار المصرية اللبنانية 1993.ط1.ص238 .

(6): راجع صحيح السيرة النبوية للشيخ محمد ناصر الدين الألباني .

(7) : محمد فتح الله كولن.النور الخالد.دار النيل للطباعة و النشر .2007. ط1.ص 384  

(8): ر.ف.بودلي.الرسول حياة محمد .مكتبة مصر.1989.ص252

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

المقال السابق
رسائل من بدر
المقال التالي
فضيلة التثبت