أوراق في السيرة و الأخلاق - فضيلة التثبت

منذ 2013-07-15

من جملة القواعد القرآنية التي نص الحق سبحانه على إدراجها ضمن منهج تربية الجماعة المسلمة: قاعدة {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات من الآية:6]. ومعلوم أن كثيراً من النفوس جُبلت على التسرع وسوء الظن، لذا يكفيها سماع الخبر لتشرع في تفتيت الوحدة، وتشتيت الصفوف، وتدمير البنيان..

روى ابن حبان البستي في "روضة العقلاء" أن رجلاً سعى بالليث بن سعد رحمه الله، وبذل وسعه لتأليب والي مصر عليه. فدعاه هذا الأخير، فلما دخل الليث قال له: "يا أبا الحارث، إن هذا أبلغني عنك كذا وكذا". فرد الليث قائلاً: سله، أصلح الله الأمير، عما أبلغك، أهو شيء ائتمناه عليه فخاننا فيه، فما ينبغي لك أن تقبل من خائن. أو شيء كذب علينا فيه فما ينبغي لك أن تقبل من كاذب". فقال الوالي: "صدقت يا أبا الحارث!".

و لعل في مسرح الحياة العامة أُلوفاً من أمثال هذا الرجل، تتطاير ألسنتهم شرراً في كل اتجاه، لزعزعة وضع مستقر، أو لتبديد ثقة زيد في عمرو. لكن ما يحزُّ في النفس أحياناً ألا يكون السواد الأعظم من الناس في مثل تحرّز هذا الوالي عن إلحاق الأذى قبل التثبت.

إن كل مسلم يقرأ القرآن ويتدبّر ما بين دفتيه من أوامر ونواهي وعظات، لا بد أن يستوقفه الحض الإلهي على التثبت، وتقييم حامل النبأ من حيث الاستقامة والعدالة.

فمن جملة القواعد القرآنية التي نص الحق سبحانه على إدراجها ضمن منهج تربية الجماعة المسلمة: قاعدة {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات من الآية:6]. ومعلوم أن كثيراً من النفوس جُبلت على التسرع وسوء الظن، لذا يكفيها سماع الخبر لتشرع في تفتيت الوحدة، وتشتيت الصفوف، وتدمير البنيان.

وكعادة القرآن في تنويع أساليب التربية، تطالعنا سورة النمل بخبر التثبت السليماني في قصة الهدهد؛ إذ لما أطلع نبيَ الله سليمان على المعتقد السائد في مملكة سبأ، وأظهر اعتداده بما أحرزه من سبق إعلامي قائلاً: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل من الآية:22]؛ جاء الرد السليماني ممتثلاً لقاعدة التثبت: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27].

و في السيرة النبوية وقائع عديدة أبدى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حِرصاً شديداً على تبيُّن الخبر بوضوح، ومراجعة الواقعة بحذافيرها مع ناقلها قبل أن يفصل في الأمر.

لما وقع شجار بين مهاجري وأنصاري وهما يسقيان من البئر يوم بني المصطلق، استنجد كل منهما بقبيلته، فكادت تحدُث فتنة عظيمة بين مهاجري قريش من جهة، وأنصار الأوس والخزرج من جهة ثانية، لولا أن قام رجل في الصلح وهدأت النفوس. لكن عبد الله بن أُبيّ المنافق أبىَ إلا أن يُوغِر الصدور فصرّح قائلاً: "والله ما رأيتُ كاليوم مذلة، والله إن كنتُ لكارهاً لوجهي هذا، ولكن قومي قد غلبوني. قد فعلوها وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، وأنكروا منَّتنا، والله ما صِرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك". والله لئن رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل".

كان زيد بن الأرقم رضي الله عنه حاضراً، وهو آنذاك غلامٌ حديث السن، فحدّث النبي صلى الله عليه وسلم بما سمعه، فتغيّر وجهه ثم قال: «يا غلام، لعلك غضبت عليه؟»

قال: لا والله لقد سمعتُ منه.
قال: «لعله أخطأ سمعك؟»
قال: لا يا نبي الله.
قال: «فلعله شُبِّه عليك؟»
قال: لا والله، لقد سمعتُ منه يا رسول الله.

و شاع الخبر في المعسكر فأسرع ابن أُبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُنكر المقولة، ويحلف بالله ما قال شيئاً. لكن سرعان ما نزل الوحي مُصدِّقاً حديث زيد، وكاشفاً نِفاق ابن أُبي وأتباعه في سورة "المنافقون".

في معرض تحليله لهذه الواقعة، يؤكد الدكتور "منير الغضبان": "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتكم لقاعدة التثبت بوضعه لثلاثة احتمالات قبل أن يتبنى الخبر ويبني عليه!

الاحتمال الأول: أن يكون ناقل الخبر مغرضاً أو صاحب هوى «لعلك غضبت عليه؟»، قال: "لا والله لقد سمعتُ منه"، فرغم أن الأمر يتعلّق برأس النفاق إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب التأكُّد من أن الناقل ليس له غرض أو مصلحة أو هوى ضد المنقول عنه.

الاحتمال الثاني: أن يكون ناقل الخبر غير دقيق في نقله «لعله أخطأ سمعك؟»، فلا يبعد أن يكون النقل خاطئاً، فيؤدي إلى زيادة أو نقصان في الكلام يغير المعنى كله؛ وبالتالي يُتّهم بشيءٍ لا أصل له، أو زِيد عليه فغيّر معناه.

الاحتمال الثالث: أن يكون الفهم خاطئاً للكلام «فلعله شُبِّه عليك؟»؛ وهذا أكثر الاحتمالات وقوعاً في الصف المسلم أن يُفهم الكلام على غير قصده أو غير معناه، وبالتالي تتأزّم الأمور لسوءِ تفاهمٍ أو سوءِ فهم من طرف واحد، ثم تُبنى الأحكام كلها على ضوء هذا الفهم السيء، ويتصدّع الصف نتيجة أوهام لا حقائق" (د. منيرمحمد الغضبان: المنهج الحركي للسيرة النبوية. مكتبة المنار. الأردن 1990م، [ص:266-267] بتصرُّف).

إن ما يروَّج اليوم في المعترك الإعلامي والسياسي العربي من افتراء وتلفيق وتأويل فاسد للمواقف والتصريحات، يفرض على المسلم استحضاراً دائماً لقاعدة التثبت والتروي في ردود أفعاله. فالعديد من المنابر الإعلامية وهيآت المجتمع المدني التي قرّرت الاندراج ضمن خط النفاق العام، تبذل قصارى جهدها لإفشال أي مسعى للإصلاح أو حركة للتغيير. لذا فإن حُرّاس الربيع العربي مُطالبون اليوم بمزيد من التثبُّت وضبط النفس، وترجيح كفة المصلحة في التحقيق والإدانة!

بقول ابن الجوزي رحمه الله: "ما اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمُّل للعواقب كان الغالب عليه الندم. وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره، وأشد الناس تفريطاً من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبُّت ولا استشارة" (أبو الفرج بن الجوزي: صيد الخاطر. دار الكتب العلمية، بيروت 1992م، [ص:379]).

فتثبتوا؛ يرحمكم الله!
 

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 1
  • 0
  • 3,648
المقال السابق
والصلح خير.. - قراءة في مكاسب صلح الحديبية-
المقال التالي
رذيلة التبرم

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً