لا تحْسَبَنَّ الله يغيب عن المشهد

منذ 2016-02-24

هو اللّه.. الكبير المتعال، العظيم الجليل، القهار المتكبر، الذي له ملك السماوات والأرض وهو الغني الحميد. لا يشغله عنهم تدبيره لملكوت السماوات والأرض ولا يشغله عن الحكم الحق في قضاياهم!

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "تَبَارَكَ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَىْءٍ إِنِّى لأَسْمَعُ كَلاَمَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَىَّ بَعْضُهُ وَهِىَ تَشْتَكِى زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِىَ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِى وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِى حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّى وَانْقَطَعَ وَلَدِى ظَاهَرَ مِنِّى اللَّهُمَّ إِنِّى أَشْكُو إِلَيْكَ. فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلاَءِ الآيَاتِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[المجادلة:1]"(رواه ابن ماجة والنسائي وأحمد والحاكم).

يا لقرب الله من عباده فهو معهم في كل شيء يرعاهم ويكلؤهم ويصنعهم علي عينه؛ فها هو يسمع ويري ويرعي شأن أسرة صغيرة فقيرة مغمورة سمع شكاية هذه الزوجة المكلومة وهي تجادل رسول الله صلي الله عليه وسلم وتشتكي زوجها إلي الله.!!

فلتمتلئ القلوب ثقة في وجود اللّه وحضوره وقربه وعطفه ورعايته. فاللّه حاضر لكل شئون المسلمين، جليلها وصغيرها سامع لدعائهم منصت لشكواهم مطلع علي همومهم معنيّ بمشكلاتهم اليومية، مستجيب لأزماتهم العادية لا يخفي عليه شيء من أمرهم.. وهو اللّه.. الكبير المتعال، العظيم الجليل، القهار المتكبر، الذي له ملك السماوات والأرض وهو الغني الحميد. لا يشغله عنهم تدبيره لملكوت السماوات والأرض ولا يشغله عن الحكم الحق في قضاياهم!

يقول سيد قطب في ظلال قول ربنا عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:112] والتعبير هنا بـ [ربك ] من يتولي أمرك ويرعاك بحكمته هو الله  فبرعاية اللّه للجماعة المسلمة الناشئة وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه، ويشعرها برعايته، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها في أخص خصائصها، وأصغر شؤونها، وأخفى طواياها وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره وأخذها في حماه وكنفه، وضمها إلى لوائه وظله وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف اللّه، وتنتسب إليه، وتؤلف حزبه في الأرض، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا.

وما يحدث لأوليائه من مكر أعدائه ليس بعيدا عن سمع الله وبصره وإنما يحدث بإرادته ومشيئته ولحكمة يعلمها هو وإلا ما فعلوه.

فالله حاضر شاهد لكل ما يحدث في ملكه؛ حاضر شاهد لما يحدث لأهلنا في غزة المحاصرة في سجن كبير؛ أطفال ونساء وشيوخ وعجائز وشباب؛ بلغ بهم الذل والضيق مبلغه. مرضى ينتظرون الخروج للعلاج إن لم يموتوا بانتهاء آجالهم ماتوا بانتهاء الإنسانية في أوطانهم؛ وطلبة علم ضاعت عليهم دراستهم وأصحاب أعمال فقدوها ومن انتهت تأشيرات سفرهم هموم طاغية وآلام وأحزان تعجز الكلمات عن وصفها.

والله شاهد حاضر مع أهلنا في العراق واليمن وليبيا وسوريا ومصر؛ كل هذه البلاد التي أصبحت سجون ومقابر لأهلها؛ وملايين المهجَّرين والمطاردين أطفال ونساء يبيتون في أحضان الثلوج؛ وآلاف المعتقلين والشهداء والجرحى؛ تفطرت القلوب وباتت الدموع علي الخدود؛ لا تجف دموع القهر والذل والحسرة علي ما آلت إليها أحوال المسلمين ففي كل بيت حكاية ووراء كل باب رواية...

ولكنه سبحانه يمهل ولا يهمل وما كان الله ليضيع عباده وهو ربهم.

فيا أم الشهيد ويا زوجة المعتقل ويا بنت المطارد ويا كل مصاب لا تظنن لحظة أن الله يغيب عن المشهد بل هو بلطفه وعنايته يكتب الأجر للمبتلَي ويمهل المعتدين أو يستدرجهم ثم هو آخذ بنواصيهم إلي ما كتبه عليهم من الكبت والذلة والصغار؛ فكتب الجبار المنتقم الكبير المتعالي كتب الذلة والقهر في الأرض، والعذاب المهين في الآخرة، لمن حاد الله ورسوله وآخذهم ومعاقبهم بما أجرموه في حق عباده وأوليائه مما أحصاه اللّه عليهم، ونسوه هم وهم فاعلوه! إن كانوا هم قد نسوه فإن اللّه أحصاه بعلمه الذي لا يند عنه شي ء، ولا يغيب عنه خاف.

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ؛ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المجادلة:5-6]؛ شهيد علي جرمهم وحاضر مجالس مكرهم وعليم بخيانتهم ودسائسهم فاضحهم وكاشف أمرهم في الدنيا وفي الآخرة؛ {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7]؛ وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود اللّه وحضوره، كما تملؤه برقابته واطِّلاعه.

فهو شاهد حاضر للعون والرعاية والعناية بالمسلمين والقائمين علي حدود الله والمجاهدين والمضحِّين في سبيل دينهم؛ وهو شاهد حاضر للحرب والنكاية للظالمين المعتدين الخائنين الذين يحادون اللّه ورسوله.. فليطمئن بحضوره وشهوده المؤمنون. وليحذر من حضوره وشهوده الكافرون!

فأهل الباطل منهزمون منكسرون بنكاية الله لهم فقد حالفوا شياطين الإنس والجن فالله مستدرجهم إلي حتفهم {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المجادلة:19]؛ وبما كتب الله عليهم من الذلة والمهانة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ}[المجادلة:20]؛ والحق منتصر بحضور الله وعونه وبركته وبما كتب أزلا {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:21]؛ وبصبرهم وإيمانهم وثقتهم بربهم ورضاهم به ربا وبالإسلام دينا ومنهجا وشريعة وبالرسول قدوة وزعيما {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[المجادلة:22]؛ ما داموا من حزب الله ثابتين علي الحق قائمين علي حدود الله لا يركنون إلي ظالم ولا يرضون دنية في دينهم ولا يقبلون ضيما من خائن غادر {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]؛ وهذا وعد اللّه الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق.

والمؤمن يتعامل مع وعد اللّه على أنه الحقيقة الواقعة. فإذا كان الواقع الصغير في زمن محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة، فهذا الواقع هو الباطل الزائل. الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة. لعلها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد اللّه في وقته المرسوم.

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم:60]؛ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[غافر:77]؛ وما أهون الظالمين علي الله وما أهون الانتصار للمظلومين {... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:137]؛ {... وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4]؛ كما انتصر موسي يوم أن كان طفلا رضيعا علي فرعون مصر وهو مدجج بسلاحه محصن في قصوره مغترا بسلطانه وقوته ويوم أن قال موسي لقومه حينما ظنوا أنهم إما غرقي في البحر أو قتلي بسيف الطاغية فرعون وجيشه فقال نبي الله موسي {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وما كان مع موسي يومها قوة أو سلاح إلا قوة الإيمان وسلاح اليقين ومعه فوق ذلك القوة التي لا تُغلَب والسلطان الذي لا يُقهَر معه ربه.

ومن زمن ليس بالبعيد حدث مع فرعون هذا العصر ما لم يتوقعه أحد في الخامس والعشرين من يناير وذلك لأنه كانت لله إرادة في ذلك. ويحدث كذلك مع كل فرعون اليوم والغد وقتما يشاء ربك.

 وإذا بحثنا عن حق أو ثرنا وجاهدنا فضحينا ليس بحثا عن حقوق ومكتسبات لذاتها وإن كان هذا عين الجهاد ولكن الأهم والأعظم أننا نتعبد الله بجهادنا وتضحياتنا مهما طال الأمد وعظمت التضحيات لإقامة الدين ولذلك شرع الجهاد{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] وإثبات حقوق المواطنين من إقامة الدين ومن هنا يا سادة إننا نتعبد الله بما أمرنا به لا بما تهواه نفوسنا.

والحمد لله رب العالمين.

__________________

عبدالوهاب محمود