أليس للعلماء حق كغيرهم؟
مقال قديم كتب عام 1995م بقلم الإمام الشيخ محمد أيوب إمام الحرم النبوي رحمه الله تعالى.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد،
فإنه -في كل يوم من أيام هذه الدنيا- نسمع أن فلانًا من الناس -رجلًا كان أو امرأة- قد اختاره ربه إلى جواره، وانتقل إلى رحمة الله لانتهاء أجله {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل من الآية:61]، لكن الناس -للأسف الشديد- يختلفون في الوفاء بحق ذلك المتوفى باختلاف شخصيته، من حيث إخبار من يعزّ على هذا الميت من قريب أو صديق أو حبيب أو عزيز، ونشر خبر وفاته، حتى يتمكنوا من شهود جنازته، والاشتراك في مراسم دفنه، فهناك فئة من الناس من العلماء والصالحين وعباد الله المؤمنين من يموت ولا يسمع بموته، إلا أناس قليلون لا يذكرون، وقليل جدًا من يحضر جنازته، ويشارك في دفنه!
وفئة أخرى من الناس، وبالأخص إذا كانوا من أصحاب الجاه والمنصب في الدولة، أو ممن اشتهر بشركته ومؤسسته وتجارته، أو كان من أهل الفن والغناء والطرب، ومن يشابههم تجد الدنيا كلها تقوم وتقعد؛ الهواتف، والبرقيات، والتلكسات تشتغل، والصحف المحلية تملأ صفحاتها بنشر خبر وفاته، وموعد الصلاة عليه، والمكان المخصص لقبول التعازي بدقة متناهية، فيتمكن عدد كبير جدًا من حضور الصلاة عليه، ويشهد جنازته، ومراسم دفنه عدد لا يستهان به؛ كل ذلك لأجل شهرته بين المجتمع، ومعرفته عندهم.
أليس لعلمائنا وقرّائنا؛ بالخصوص من أمضى عمره، وأفنى حياته في خدمة كتاب الله عز وجل حق في ذلك كغيرهم؟ بلى، والله لهم حق أعظم وأكبر من غيرهم، لكن النفوس جُبلت على الاهتمام بأهل الدنيا، والتساهل والتهاون بأهل الآخرة؛ أهل العلم والإيمان، أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهؤلاء إن كانوا بعيدين عن اهتمام الناس، لكن مكانتهم عند الله باقية، فهو سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا من عباده المؤمنين. نسأل الله أن نكون منهم. آمين.
في يوم الخميس الموافق 28 من شهر شعبان انتقل إلى رحمة الله تعالى فضيلة الأستاذ الدكتور محمود سيبويه أحمد البدوي؛ عالم فاضل من علماء القراءات، ورئيس قسم القراءات سابقًا، وتولى التدريس بكلية القرآن بالجامعة الإسلامية منذ تأسيسها عام 1394هـ، قرابة عشرين عامًا حتى تاريخه.
وقد كتب الأخ الزميل غازي بنيدر العمري في جريدة المدينة بملحق التراث في 13/11/1465هـ ترجمة وافية عن فضيلته رحمه الله من تاريخ ولادته إلى يوم وفاته، وتطرّق لتأريخ حياته العلمية والعملية، وعن أعماله وأساتذته ومشايخه، فأعطى الموضوع حقه -إن شاء الله تعالى- وخاصة هي برواية ابنه الأكبر أحمد بن محمود بن سيبويه البدوي -حفظه الله- الذي يعمل حاليًا بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، فشكر الله للجميع، وأجزل لهم الأجر والمثوبة.
ولكنني كنت أتمنى أن يكتب هذا كغيره عن المتوفين، بعد وفاته مباشرة، باعتبار أن الأخ غازي بنيدر، وبقية زملائه، كالشيخ عبد الغفور البنجابي، الذي يعتبر من أوائل خريجي كلية القرآن الكريم، وممن لهم السبق في التتلمذ على فضيلة الدكتور محمود رحمه الله ولكنه اكتفى بالكتابة عن شيء يسير جدًا عن حياة شيخه، وحقه أكثر من ذلك.
لست -الآن- في مقام التأنيب، ولربما يكون لهم عذر في حالة واحدة، وهي رغبتهم في أن يكون من يكتب عن فضيلته ممن لديه معلومات وافية من زملائه وأقرانه وكبار تلامذته، وممن لازمه من أيام دراسته إلى تاريخ وفاته، أمثال أصحاب الفضيلة مشايخ القراءات الذين شاركوه في خدمة كتاب الله تعالى وتدريسه وتعليمه من حوالي أربعين عامًا تقريبًا أو أكثر، ولربما يكون ذلك سبب التأخير في الكتابة عن فضيلته، حيث جاءت كتابة الأخ غازي بعد مضي خمسة وسبعين يومًا تقريبًا من تاريخ وفاته.
وقد راودتني نفسي مرارًا من يوم وفاته أن أكتب عن فضيلته شيئًا ولو بسيطًا مما اعلم عنه، ولكن أخرت ذلك على أن يتولى الموضوع مَن هو اعرف وأعلم، وأحق مني بذلك، ومِن الذين أكرمهم الله بالتتلمذ على فضيلته، أو المشاركة معه في التدريس بالكلية.
وقد كنت أتمنى تلقي علوم القراءات من مشايخ القراءات بكلية القرآن الكريم منذ تأسيسها عام 1394هـ وكنت -في ذلك الوقت- طالبًا في السنة الثانية بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، وقد سررت حينها جدًا حينما تأسست الكلية، إذ كنت أتوقع أن يحقق الله رغبتي في تعلم علوم القراءات؛ التي كنت مشتاقًا إليها، وأتتلمذ على أمثال فضيلته رحمة الله عليه وقد بذلت قصاري جهدي في الالتحاق بالكلية المذكورة، ولكن اللوائح والأنظمة حالت بيني وبين ذلك، فأقنعت نفسي بأن الخيرة فيما اختاره الله سبحانه وتعالى.
والذي زادني حرصًا على مواصلة المرحلة الجامعية في كلية القرآن الكريم، ندرة التخصص، ووجود علماء أفاضل متخصصين في القراءات ورسم القرآن الكريم وضبطه، من أمثال فضيلة الشيخ عبد الفتاح عبدالغني القاضي، وفضيلة الشيخ عامر السيد عثمان، وفضيلة الشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي -رحمهم الله جميعًا رحمة الأبرار، وأسكنهم فسيح جناته، ونفع الله بعلمهم، وتقبل منهم خدمتهم لكتابه العزيز- حيث كانت فرصة عظيمة في التلقي من أمثال هؤلاء الأفذاذ، إضافة إلى فضيلة الدكتور محمود سيبويه رحمه الله وزملائه الكرام، كفضيلة الشيخ عبد الرافع رضوان الشرقاوي، وفضيلة الشيخ محمود عبد الخالق جادو، وفضيلة الشيخ عبد الرازق علي موسى، وفضيلة الشيخ عبد الحكيم عبد السلام خاطر، وفضيلة الشيخ حماد السيد مفرح وغيرهم من مشايخ القراءات في كلية القرآن الكريم، الذين استفاد عدد لا يستهان به منهم من أبناء العالم الإسلامي، طيلة عشرين عامًا، ولازالوا يستفيدون -بحمد الله تعالى- فأسأل الله تعالى أن يبارك في أعمارهم، وينفع بهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما أسأله -جلت قدرته- أن يوفقني ويوفق كل من يرغب تعلم علوم القراءات وأن يمكننا جميعًا من دراسة القراءات العشر المتواترة، وعرضها عليهم، كيف لا وهي متصلة السند المتواتر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ولا أنسى -في هذا المقام- أن أشكر خادم الحرمين الشريفين على أن أتاح لي الفرصة لتسجيل كامل المصحف الشريف برواية حفص عن عاصم بأمره الخاص، تحت إشراف أصحاب الفضيلة لجنة التسجيلات مشايخ القراءات، وعلى رأسهم فضيلة شيخي وأستاذي الشيخ أحمد عبد العزيز الزيات حفظه الله، وبارك في عمره ونفع بعلمه، والذي تشرفت بعرض كامل القرآن الكريم على فضيلته برواية حفص عن عاصم، وحصلت على إجازة خطبة من فضيلته عام 1412هـ.
وقبيل وفاة فضيلة الدكتور محمود سيبويه رحمه الله كنت أخطط في عرض القرآن الكريم بكامله عليه برواية ورش عن نافع، رغبة مني في تسجيل مصحف كامل بهذه الرواية، لكن ظروفه الصحية حالت بيني وبين إتمام هذه الرغبة، إلى أن اختاره الله إلى جواره، فرحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه فسيح جناته، إنه سميع مجيب. ومع ذلك فلا أيأس وليس أمامنا إلا العزم، والتوكل على الله تعالى، والبدء في عرض ذلك على بقية المشايخ حفظهم الله ومتعنا بحياتهم.
وعودًا على بدء، فأقول إنني زاملت أصحاب الفضيلة مشايخ القراءات، ومنهم فضيلة الدكتور محمود رحمه الله من عام 1397 / 1398هـ منذ أن عينت معيدًا بكلية القرآن الكريم في قسم التفسير وعلوم القرآن إلى هذا العام 1415هـ، فقد كان -رحمه الله- مثالًا للخلق النبيل، والصفات الحميدة، والسلوك الحسن، واكتسبت منه خبرات كثيرة في أمور الامتحانات، وكيفية الاستعداد لها، وتمكين الطلاب من أداء امتحاناتهم على الوجه المطلوب، بعد تهيئة كافة الأسباب والسبل لهم، فقد شاركت في عضوية لجان الامتحانات سنوات عديدة.
كما شاركته في عضوية مجلس الكلية عامين، وتمتعت بسماع حلقات كثيرة من دروس القراءات المسجلة بإذاعة المملكة العربية السعودية في مسجد الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، كما تمتعت بسماع مناقشات لرسائل (الماجستير) و(الدكتوراه) نوقشت في الجامعة الإسلامية، وغيرها من الجامعات وكانت لفضيلته نشاطات علمية أخرى غير ذلك.
ولا يخفى أن فضيلته كان عضوًا للجنة طباعة المصحف الشريف، وعضوًا في الهيئة العليا بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل كل ما قدمه من عمل صالح في ميزان حسناته، ومن الصدقات الجارية، وأن ينفع به، ويجعله من العاملين لعلمه، ووفق أولاده، وجعلهم من صالحي عباد الله المؤمنين، وأكرمهم بالدعاء لوالدهم بعد مماته، وتلك النافعة له يوم القيامة -إن شاء الله تعالى- كما أخبر بذلك سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: « » (صحيح مسلم؛ برقم: [1631])، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فرحم الله أبا أحمد رحمة الأبرار وجمعه في دار كرامته مع النبين الأطهار والشهداء والصالحين الأخيار، وجعل القرآن الكريم شفيعًا له يوم القيامة، وجعلنا وإياه ممن يقال له يوم القيامة « » (صحيح ابن حبان؛ برقم: [766])، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وأن يجعلنا وإياه من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على إمام القراء، وخاتم الأنبياء، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
محمد أيوب بن محمد يوسف
إمام الحرم المدني سابقا
- التصنيف:
- المصدر: