جمعنا الحب في الله وفرقتنا الحزبية

 

 

(ملاحظة: هذه القصة حقيقية وليست من نسج الخيال)

روى لي أحد الأصدقاء، قال: كان لي أحد الإخوة في الله تعرّفت عليه منذ زمن طويل وكان يدرس في جامعة في إحدى المدن، وأنا أدرس في مدينة أخرى. وكنا نلتقي، حيث أنَّا من منطقة واحدة، في إجازة الربيع، وإجازة الصيف كل عام. وكان كل منا في غاية الاشتياق واللهفة على الآخر، فنتآخى ونتصافى ويتحف كل منا صاحبه بأخبار الدراسة والزملاء والدعوة في تلك المدينة التي يدرس فيها..

وكنا نكاد نلتقي يومياً ولم نكن نفترق في غالب الأحيان إلا عند النوم، وربما قضينا أياماً معاً في رحلة عمرة إلى بيت الله الحرام أو في نزهة مع بعض الإخوة الملتزمين.

 

ولقد عرف أهلونا قوة علاقتنا وشدة محبتنا وتآخينا، وكانوا يتعجبون منها...

يقول هذا الصديق: وبعد أن تخرج كل منا من الجامعة وعمل في المدينة التي درس فيها، تزوج هذا الأخ قبلي ثم تزوجت بعده بنحو عامين، وزادت علاقتنا متانة وقوة وصارت علاقتنا العائلية في المقام الرفيع، حيث يزورني بالعائلة وأزوره بعائلتي كلما سنحت لأحدنا فرصة..

ويقول أيضاً: كان يعجبني في هذا الأخ أنني ما جلست معه مجلساً إلا كان حديثنا عن هموم الدعوة ومشكلات الدعاة، وحاجة الأمة إلى أبنائها في هذه المرحلة الحاسمة من واقعها، حيث تكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب..
سقى الله هاتيك الأيام وتلك الليالي العامرة بالإيمان والمجالس الطيبة..

ولقد رزق كل منا، والحمد لله، بحظ وافر من الثقافة الإسلامية الأصيلة وشغف كبير بالعلوم الشرعية حيث نتذاكر ونتدارس ونقرأ ونناقش وربما تجادلنا، ولكن كانت الحقيقة هدف كل منا وسرعان ما نتفق على رأي أو يعذر كل منا الآخر. وكنا نتحدث عن بعض المشكلات التي تعرض لأحدنا ويستنصح كل منا صاحبه، وباختصار فلقد كنا متآخيين في هذه الدنيا وكنت أتذكر مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار..
 

يقول صديقي: ومرت الأيام والشهور والأعوام وإذا بالساحة الإسلامية تهب عليها أعاصير مدوية وتتلاطم فيها أمواج عاتية بفعل أيد خفية تكيد للإسلام وللمسلمين وتطبق سياسة (فرّق تسد)، وإذا بتلك المياه الصافية تتعكر، وإذا بالأمور تختلف والأجواء تتقلب وتتكهرب، حين بدأ التدابر والتقاطع والتهاجر والتحاسد بين كثير ممن يسمون بالإسلاميين في هذه البلاد الطيبة، المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين الشريفين، حتى وصل خارجها، وظهر التنابز بالألقاب وظهرت مسميات لم نسمع بكثير منها من قبل.. وامتحن كثير من الصالحين..
فلله الأمر من قبل ومن بعد، فظهرت أسماء كالجامية والسرورية والقطبية والإخوانية والسلفية، وانتشرت المصنفات وكثرت الردود..

يقول صديقي: ولم أكن أحفل بأي من هذه المسميات، وكنت أحب الصالحين من هذه الأمة وأتقرب بحبهم إلى الله، ولا تمهني هذه التصنيفات في شيء؛ لأن المقياس عندي قال الله عز وجل، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم وما درج عليه سلف الأمة. وكنت محبا ومجلا ومتبعا لأئمتنا الأعلام وفي مقدمتهم سماحة الوالد الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز وفضيلة الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي وفضيلة العلامة محمد بن صالح بن عثيمين والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ صالح الفوزان والشيخ بكر أبو زيد وغيرهم من علماء الأمة الموثوقين..
وكنت أحب من كان لهم دور في الدعوة إلى الله حتى ولو وقعت من بعضهم هفوات، ولكن...

وهنا توقف صديقي قليلاً بعد أن تنهّد طويلا..

- ولكن ماذا..

قال صديقي: وقع ما لم يكن في الحسبان على الإطلاق، ومالم يكن يدور في خلدي يوماً من الأيام..
وأيم الله إنني حتى هذه اللحظة لا أكاد أصدق ما أقول..

- ماذا تقصد بالضبظ؟ تكلم يا أخي بسرعة...

- أخي في الله الذي أحببته وآخيته قرابة العشرين عاماً، الذي كنت أتلهف وأتحرق شوقاً إليه... تغيّر لي، بل لو قلت: إنه قد تنكر لي لم أكن مبالغا...

قلت:معقول!!! وما السبب؟؟ هل حقاً تغير... ولماذا....

- لقد كنا نتقابل كل عام في الإجازة الصيفية على العادة السنوية لنا، وفي الإجازة الآخيرة وصلت إلى المنطقة التي يقطنها أهلونا، وكنت أظنه لم يصل بعد، وقد فوجئت حين علمت من أحد الأصدقاء أن أخانا هذا موجود منذ نحو عشرة أيام ولم يتصل أو يسأل عني..
فقلت:لعله معذور... والغائب حجته معه كما يقول المثل... وبادرت بالاتصال عليه، وأنا والله متلهف مشتاق متعطش إلى لقائه...
فرد عليّ بفتور، ولكن لم أدع للشيطان طريقاً، وقمت وطلبت لقاءه على الفور... فاعتذر بانشغاله مع والده...
فطلبت منه أن يحدد لي موعدا نلتقي فيه فأعطانيه بعد تلكأ ونفور... مكثت بعد الاتصال متعجباً وقد اعتراني شيء من الضيق والهم عظيم...
ومع ذلك فإن رصيد الإخوة والمحبة لهذا الأخ في القلب كبير وكبير...
فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم... ومكثت أترقب ذلك الموعد المحدد وقد سبق الاشتياق للقاءه خوف وقلق وهم ورهبة...
وجالت بي الآراء والأفكار، وداهمتني الوساوس والخطرات... لماذا هذا الفتور... ولم ذاك النفور....
هل أسأت يوما بشيء للمذكور؟؟!!
وجلست أنقّب في ذاكرتي وأفتش في زواياها وخباياها عن آخريات لقاءاتي به، هل أخطأت عليه بكلمة... هل طلب مني شيئاً ورفضته... هل سعى بيني وبينه مشاء بنميم...
المهم، جاء الموعد المرتقب... والتقيته في أصيل ذلك اليوم الذي لن أننساه ما حييت...

 

لقد كان ذلك الأصيل الجميل في مبناه الحزين في معناه حداً فاصلاً في ميدان علاقتنا، وشرخاً عميقاً في جدار أخوتنا...
والله المستعان... لقد تغير تماماً...
ورأيته شخصاً آخر...
أين دماثة الخلق الرفيع التي كانت تبهرني في سالف الأيام؟؟!!
وأين الطلاقة والبشاشة والهشاشة التي كنت أتلهف لها عاماً بعد عام...

كان بارداً فاتراً باهتاً، كأني كنت معه صباح ذلك اليوم... ولم أكن غائباً عنه نحو عام...
وكان جلّ حديثه عن ظروفه وانشغاله بأبيه وإخوانه وأصهاره وأقاربه وكثرة الارتباطات... وكأني من كوكب غير الكوكب الذي يعيش فيه...
طبعاً فإن نفس العزيز مهما أحبت وأعجبت لن تقبل اللحاق بشخص ولى مدبراً ولم يكد يعقّب...

لم يستمر اللقاء أكثر من نصف ساعة... وانصرف كل منا بعد أن اتفقنا على أن يكون الهاتف وسيلة اللقاء بيننا.... اتصلت عليه بعد نحو أسبوع فلم يرد... وبعد يومين رد متثاقلاً معتذراً بكثرة الولائم والارتباطات...
وهكذا انصرمت الإجازة الصيفية ولم ألتق به سوى لقائنا الواحد اليتيم الذي انتحى جانباً يبكي على ما خلا من الأيام الجميلة والليالي الباسمة... وذلك بعد أن كانت لقاءاتنا في الصيف تكاد تكون يومياً في كثير من الأحيان...

لقد فترت العلاقة، وسقطت الأخوّة في وهدة عميقة، فهي تئن من جروح غائرة وآلام مبرحة... وتنتظر إطلالة كل يوم من ينتشلها وينقذها من الموت... لقد حاولت جهدي أن أعيد الدفء والحياة والحيوية والنشاط إلى تلك العلاقة الفاترة أو الباردة، أو الميتة -سمّها إن شئت-، ولكن باءت جميع محاولاتي بالفشل...

وزادت المعاناة بإحساس الأهل والأقربين بتغير العلاقة، وتساؤلهم عن التغير وسبب التغيير... كيف ولا، وعلاقتنا وأخوتنا من قوتها ومتانتها كان يشاهدها العميان قبل أصحاب العيون... وكنا نحاول أن نكون قدوة لهم بأخوتنا ومحبتنا...

ولكن قدر الله وما شاء فعل... لقد كان شعوري مليئاً بالحسرة والألم والمرارة والأسى والحزن... يا الله!!! يا رب...
ما الذي حدث... وكيف حدث... أهذه الأخوة التي كنا نقرأ عنها ونسمع عنها في الدروس والمحاضرات والندوات... أهذه الأخوة في الله التي كنا نفرح ونطمئن ونغدو ونروح في ظلالها؟؟؟؟

إيييييه يا قلبي الحزين... ووجداني المكلوم... ونفسي الجريحة... وممن؟؟؟
من أعز أخ و أحسن صديق...

تصبّرت وتجلّدت، ومضيت في طريقي، وكنت وما زلت أتصل عليه بين الفينة والأخرى... وما وجدته إلا نافراً جامحاً يحاول كبت نفوره العظيم بخيوط دقيقة رقيقة من المجاملات الباهتة التي لا تسمن ولا تغني من جوع... بل بدأت تطل منه بوادر الجفاء يوما بعد آخر...


آآآآآه!!! كم أكلنا؟ كم شربنا؟ كم سافرنا ورحلنا؟ كم نمنا واستيقظنا؟ وكم قمنا وصلينا؟
كم قرأنا وتحدثنا وسهرنا؟
كم تناقشنا وتجاذبنا وتجادلنا جدل المحبين؟
كم ضحكنا وابتسمنا؟ كم لعبنا بالكرة وجرينا؟
وكم حزنّا وبكينا حين كنا نفقد صديقا عزيزاً علينا؟

كم وكم وكم!!!!!!!!!

كان ذلك بالطبع يحزنني ويؤلمني وينغّص عيشي... وقد أمضيت أياماً لا أهنأ بطعام ولا شراب، وليالي لا أهجع إلا قليلاً...
ولكن ما الحيلة وما العمل؟؟!! ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ لهان الخطب، وخف الجرح...

ولكن جاءت الطامة حين نما إلى علمي أن أخانا هذا عضو فعال في أحد الجماعات الإسلامية المعاصرة، وقد انتمى إليها قبل عدة سنوات، وليس في هذا عندي كبير إشكال، على الأقل في تلك الفترة، لكن الإشكال والمشكلة والتشاكل أن نفوره مني، وفتوره معي كان بسبب عدم انتمائي لما انتمى إليه من حزب وجماعة...

فيا للمصيبة... وهول الكارثة...

لا أدري لعله جاءه أمر من مسئوله المباشر بقطيعتي وإهمالي وإلقاء أخوتي وصداقتي ومحبتي معه طوال تلك السنين في قاع البحر...
أو صنع ذلك اجتهادا منه -وللمجتهد نصيب من الوزر!! عفوا أقصد الأجر- بعد أن أخفقت محاولاته في تدشيني في جماعته حسب مصطلحات القوم...
 

لقد تأكد لي ذلك... وأنه رغم ثقافته وعلمه وإطلاعه ودعوته، لم يستطع أن يتحرر من أغلال الحزبية البغيضة، ومن قيودها الغليظة... ولقد كنت أسمع كلمات وألمح إشارات فيما مضى، ولكني كنت أحملها المحمل الجميل، وأنزلها منزلة الظن الحسن...
ولكن بعد اكتشافي حقيقة الأمر وجمعي للأحداث والمواقف ازددت والله مرارة وألماً... لماذا كل هذا؟؟؟ لماذا يقاطعني هذا وجمع من حزبه الأكرمين؟؟؟؟
لم ارتكب جريرة أو منكراً... ولم أعمل أو أحدث بدعة... ولست صوفياً ولا قبورياً ولاشيعياً...
كما أني لست علمانياً ولا ليبرالياً ولا اشتراكياً... أحب أهل الدين والعلم والتقى، وأمشي على خطى علمائنا الأفاضل... وأحب من دعا إلى الله عز وجل دون تمييز...
ولست أعادي إلا من عادى الدين وأهله...

وأقول إن كثيرا من قيادات الجماعات الإسلامية المعاصرة والمنتسبين لها قدموا للإسلام خدمات عظيمة، مع وقوع بعض الهفوات والأخطاء... ولكن كما قيل:

 

على أنني أرى أن الأسلم والأقوم والأحسن -إن لم يكن الأوجب عند جمع من المحققين- عدم الدخول في مثل هذه الجماعات، والاعتصام بجماعة المسلمين وإمامهم والسير على نهج علمائنا رحم الله من مات منهم ووفق وسدد من بقي منهم...

فلماذا يقاطعونني؟ وعلام يهجرونني...

والغريب أن بعض هؤلاء الحزبيين، هداهم الله، ينتقدون التعصب المذهبي عند كثير من أرباب المذاهب الفقهية الأربعة... وهم متعصبون حتى النخاع لجماعاتهم وقياداتهم... وحسبنا الله ونعم الوكيل....

بل الأغرب من هذا أن كثيرين منهم ينتقدون منافسيهم ومخالفيهم ويصمونهم بالتعصب الحزبي، وهم في حمأته يسرحون ويمرحون... وكنت أقول في نفسي لأخي الذي فقدته بعد أن ضنّ عليَّ بأخوَّته ومحبته لي لحساب حزبه وجماعته... يا أخي: اعتبرني عامياً لا ملتزماً!!!
فتلطف معي ولا تقاطعني...

ولكن كما قيل:
 

سامحني يا صديقي! لقد أطلت عليك...
ولكنني علم الله أنني قد نفّست عما بداخلي قليلاً...
ولكن، ماذا أصنع وقد: جمّعنا الحب في الله، وفرقتنا الحزبية....

فرد عليَّ بتحريك شفتيه متعجباً، ولاذ بالصمت الطويل...

وقلت له آخيراً: فوداعاً يا أخوَّتي، ووداعاً يا محبتي لذلك الأخ في الله...
إني احتسبها عند ربي في كتاب... لا يضل ربي ولا ينسى...
وسوف أبقى أيها الصديق العزيز محباً للصالحين من هذه الأمة على اختلاف أطيافهم، مناصحاً وسائراً على منهج علمائنا الصالحين ودعاتنا الصادقين... { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }....



كتبه: أبو الحسين