أسطول الحرية . . تصعيد الجريمة يزيد المقاومة

منذ 2010-06-01

لن تقف نتائج العدوان العسكري الإسرائيلي على أسطول الحرية "المدني الدولي الإنساني" لكسر الحصار الإجرامي حول قطاع غزة، وما أسفر عنه إجراماً وردود فعل أولى، عند حدود ما يمكن استخلاصه منها لحظة وقوع العدوان نفسه، ولا عند حدود ما صدر من تصريحات ..


لن تقف نتائج العدوان العسكري الإسرائيلي على أسطول الحرية "المدني الدولي الإنساني" لكسر الحصار الإجرامي حول قطاع غزة، وما أسفر عنه إجراماً وردود فعل أولى، عند حدود ما يمكن استخلاصه منها لحظة وقوع العدوان نفسه، ولا عند حدود ما صدر من تصريحات رسمية بصياغات مدروسة قد تستهدف تمرير مفعول "الغضب" أو "المفاجأة"، ثمّ العودة بعد فترة وجيزة إلى "روتينية" الاستخذاء محلياً وإقليمياً، ومواصلة العدوان القائم والمتواصل والمتصاعد منذ أكثر من ستة عقود، إسرائيلياً ودولياً.



الإجرام والتعامل مع الإجرام:

أوّل ما يكشف عنه العدوان العسكري على الأسطول المدني أمران اثنان على الأقلّ:

الأمر الأول: لا يوجد "خط أحمر" مزعوم بشأن تصعيد ارتكاب الجريمة في تغييب الردع قبل ارتكابها وغياب العقوبة بعد ارتكابها، ولم ينشأ ذلك بين يوم وليلة، ولا وصل إلى ما وصل إليه دون مشاركة مباشرة أو غير مباشرة في حمل المسؤولية، فمنذ بقاء هيروشيما وناجازاكي دون محاسبة ولا عقوبة، بدأت النقلة النوعية للحروب العسكرية بحيث باتت تستهدف المدنيين وتسبب الضحايا في صفوفهم بأضعاف ما تسببه على صعيد المقاتلين، ومنذ مذبحة "دير ياسين" الإجرامية بعد مسلسل إجرامي سبقها، تراجعت سياسة محاولة "الردع" الإقليمي تدريجيا إلى منحدر "التراجع" حتى بلغت مستوى "خيار السلام الإستراتيجي الوحيد".. أي الامتناع عن "محاولة الردع" جملة وتفصيلا.

إن محطة "المذبحة العسكرية ضد المدنيين في مياه البحر".. هي محطة تالية للعدوان العسكري على المدنيين في غزة ومقاومتهم الشعبية، بعد مذبحة جنين أثناء الانتفاضة، وبعد حصار "المقاطعة" أثناء قمة بيروت "السلمية"، وبعد مذابح قانا الثانية والأولى.. وإن كل ردّ فعل على ما سبق في اتجاه التراجع، كان "دعوة" مباشرة إلى تصعيد الإجرام العدواني، كمّا ونوعا.



إن الانتقال "الرسمي والشعبي" العربي، من ضجة احتجاجات شعبية محدودة، ومن تضامن رسمي استعراضي تلفازي مخادع أو مناور في التعامل مع "القتل البطيء" عبر حصار غزة لفترة تناهز أربع سنوات، إلى صمت مطبق وتواطؤ مباشر (شمل حتّى التعامل المخزي مع قوافل إغاثة دولية سابقة).. هو الذي يعطي الضوء الأخضر لطرف لا يتورّع عن تصعيد إجرامه؛ ليرتكب عملية "القتل السريع" والعلني في "المياه الدولية"، وعلى مقربة من السواحل الإقليمية لجميع الدول المعنية بقضية فلسطين.

لا يمكن تبرئة الأطراف العربية ناهيك عن الأطراف الدولية من المشاركة في حمل مسؤولية جميع ما حدث في "عرض البحر" دون أن ينتقص ذلك شيئا من المسؤولية المباشرة للطرف الذي ارتكب الجريمة.

الأمر الثاني: لا يمكن للسلام والتشبّث به أن يردع الحرب والتشبّث بها، ولا للمفاوضات المباشرة وغير المباشرة، والعلنية والسرية، والانفرادية والجماعية، أن تمنع المذابح الصغيرة والكبيرة، الهمجية والوحشية، ولا يمكن للعلاقات الدبلوماسية وغير الدبلوماسية، الرسمية وشبه الرسمية، الكاملة والجزئية، إن توقف مسلسل ارتكاب الجرائم، ولا يمكن للتخلّي عن حق التسلّح الذاتي أن يخفف خطر التسلّح المعادي، ولا للاستنجاد بقوى دولية متواطئة أن يلغي المسؤولية عن تواطؤ محلي وإقليمي، ولا لضرب المقاومة الشعبية وحصارها وملاحقتها أن يدعم دعاة سلام مزعومين في صفوف جبهة عسكرية عدوانية.

ليست المشكلة -وبالتالي المسؤولية- محصورة في عشوائية الإجرام العدواني وتصعيده، بل تشمل أوّل ما تشمل عشوائيةَ التعامل مع الإجرام العدواني وعدمَ التصدّي له.



المراجعة الشاملة المطلوبة:

من العسير عند متابعة فترة الإعداد لأسطول الحرية من أجل كسر حصار غزة، أن يوجد تفسير للصمت الرسمي في المنطقة العربية إلى حد بعيد، دون ترجيح أن نوايا العدوان العسكري على المدنيين كانت معروفة لدى من يسلك طريق "الصمت"، ثم يمكن أن تصدر المواقف السياسية الرسمية على حسب النتائج، ويمكن أن تتخذ صيغة باتت تقليدية ممقوتة: "حذّرناهم.. ولم يصغوا للتحذير"، أي أنّ "المسؤولية" هي مسؤولية الضحايا الذي خاطروا بأنفسهم ولا تقع على عاتق "المسؤولين" الذين لا يخاطرون بشيء من أجل كسر الحصار الإجرامي -ناهيك عمّن يشارك فيه- وشبيه ذلك ما كان أثناء الحرب العدوانية ضدّ القطاع، وما كان أثناء الحرب العدوانية الأخيرة ضد لبنان، وما يتردّد في التعامل مع كلّ من يرفض سياسة التسليم المطلق ويطالب ببعض "الممانعة" وبعض التصدّي على الأقلّ.

لا يكفي وصف ذلك بأنه مجرّد تهرّب من المسؤولية، فهو في حصيلته مشاركة مباشرة في حمل المسؤولية عمّا يترتب عليه على أرض الواقع من اطمئنان الطرف الذي يرتكب عدوانا إجراميا أنه لن يجد "ردّا" فعالا من أيّ مستوى.



وقد استُخدم في تسويغ التراجع تعبير السياسة العقلانية الواقعية إلى درجة الابتذال لتشويه حقيقة صدوره عن ضعف الشعور بالمسؤولية أو افتقادها.

إنّ ممارسة السياسة "العقلانية الواقعية" في ميادين السياسة اليومية، في التعامل مع أطراف "عقلانيين واقعيين"، يمكن أن توصل إلى نتائج إيجابية، وربما بعض الخسائر، وذاك شأن العلاقات بين الدول عموماً، إنما لا يمكن وصف التشبّث بالتراجع تجاه من يتشبّث بالعدوان أنه سياسة عقلانية واقعية أصلاً، وما مارس ذلك الذين واجهوا النازية عندما بلغت أقصى مداها تسلّحاً وعدواناً وإجراماً، ولا يمارس ذلك أحد تحت عنوان "الحرب على الإرهاب"، ولا تمارسه دول عديدة فيما تطرحه وتستخدمه من وسائل للبطش بمعارضة داخلية وقمعها وترسيخ الاستبداد.

لم يعد المطلوب من الدول العربية أن تراجع قطاعاً واحداً من قطاعات سياستها في قضية فلسطين، مثل حصار غزة والتحرّك رسميا لكسره، بدلاً من مواقف الخذلان تجاه المتضامنين المدنيين دولياً، فقد أصبح جميع جوانب السياسات الرسمية في حاجة إلى "انتفاضة رسمية" شاملة ومشتركة، تشمل المصالحة بين الدول العربية التي تطالب الأطراف الفلسطينية بالمصالحة.. وتضع العصي في عجلاتها، وتشمل تعبئة القوى الشعبية في طريق "بدائل إستراتيجية" قويمة بدلا من التنديد بمن يتحرّك منها بإمكاناته المحدودة على طرق المقاطعة ومناهضة ما يُسمّى "التطبيع" واعتبارها هي الخصم بدلا من العدوّ الذي يمارس العدوان دون انقطاع.

لا يعود ما يوصف بالعجز العسكري تجاه تفوقّ عسكري إسرائيلي مدعوم غربياً إلى أسباب عسكرية محضة، بل يعود في الوقت نفسه إلى سياسات تنموية وتطويرية عقيمة، على مستوى قُطري ومستوى مشترك، وسياسات حكم استبدادي عقيمة، لا تحقق حتى المصلحة الضيقة المحدودة على صعيد أنظمة الحكم نفسها.. إنه العجز الذي يعود إلى قلب سلّم الأولويات رأسا على عقب.



إن العجز العسكري من صنع التراجع عن الإعداد لمواجهة عدوان محتم، وهو قطعة واحدة من قطع فسيفساء السياسات المقلوبة المتبعة، فإقرار الحريات يوصل إلى استقرار الأنظمة، بينما يوصل فرض الاستقرار بالقوة إلى قمع الحريات وغياب الاستقرار، وتوصل مكافحة الفساد إلى التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي، بينما توصل محاولات التنمية مع نشر الفساد إلى استفحاله وإخفاق التنمية، وتوصل التبعية الأجنبية إلى الهوة الفاصلة بين أنظمة الحكم والقوى الشعبية، بينما يوصل احتضانها والاعتماد عليها وتعبئتها إلى تعزيز موقع الأنظمة دوليا في مواجهة الهيمنة الأجنبية بدلا من الخضوع لها عبر التبعية المحلية.

ليس العدوان على المدنيين في عرض البحر شاهداً على عجز عسكري في المنطقة، بل هو شاهد أيضاً على صناعة العجز السياسي والاقتصادي والإداري، ومرآة عاكسة لنتائج القعود عن تأمين المتطلبات الأولوية للقدرة على التصدي لعدوان قائم متواصل، بل عن مجرّد الإعداد من أجل التصدي لتصعيده على الأقل.



مستقبل المتضامنين مع فلسطين:

لن تضيع حصيلة جهود المتضامنين عالمياً مع غزة وأهلها، أو فلسطين وأهلها، وهذا ما يشهد عليه تنامي حجم ما يقدّمونه من عطاء إنساني جليل، ابتداءً من تحرّكاتهم الأولى من قبل جريمة قتل راشيل خوري على أرض فلسطين، مروراً بالقوافل الشعبية التي انطلقت رغم العوائق من قلب مصر نحو غزة وبالاعتصامات على حدود رفح، وصولاً إلى تلاقي وحدات أسطول الحرية على جمع أناس مدنيين، وآخرين رسميين، من مختلف أنحاء العالم، من العامة والكتّاب والصحفيين والنوّاب والساسة المتقاعدين.

إنّ المقاومة الشعبية المتصاعدة بفلسطين ولبنان وأخواتهما، هي التي جعلت المقاومة الشعبية تتصاعد للتضامن مع فلسطين وأهلها، على مستوى عالمي عابر للحدود، لمواجهة ما تصنعه هيمنةٌ عابرة للحدود ولمختلف الميادين، ولن ينفرد بها الميدان.

لن يمكن في عالمنا المعاصر الفصل بين مقاومة الهيمنة المتعجرفة في البر والبحر والجو في نطاق قضية فلسطين، عن مقاومة الهيمنة المتعجرفة في مناطق أخرى من العالم وميادين أخرى من حياة الأسرة البشرية.



لقد بدأت تتساقط الحدود ما بين أشكال المقاومة.. مثلما تساقطت الحدود ما بين أشكال الهيمنة الدولية والمحلية، العابرة لساحات القتال من أفغانستان إلى فلسطين، والعابرة لمنابع طاقة النفط والغاز إلى ساحات احتكار الطاقة السلمية النووية تحت عنوان حظر انتشار السلاح النووي.

ولهذا لا بد من زيادة التواصل والتلاحم والتخطيط والتنسيق ما بين مختلف صور المقاومة ضدّ عدوان مسلّح، في كل مكان، وبين مختلف صور التضامن الشعبي مع ما نُشر من فقر ومجاعات في أفريقيا، وحتى ساحات مناهضة استمرار ما تصنع صناديق الرهانات بالمجتمعات الثرية والفقيرة على السواء عبر الشبكة المالية الدولية فيما بينها.



إن عالمنا المعاصر يتغيّر.. ومن العلامات المميزة للتغيير ذلك الازدياد التدريجي والانتشار التدريجي لمقاومة مختلف أشكال انتهاك العدالة والحقوق والحريات وإنسانية الإنسان، وإن فلسطين تجمع ذلك كلّه في ساحة واحدة، كما أنها تشهد تاريخياً على مسيرة الانتهاكات من بداياتها الأولى، سواء بتزامن وعد بلفور مع تغيير الخارطة الجغرافية للعالم بعد الحرب العالمية الأولى، وحقبة توزيع النفوذ على قوى "الانتداب" الاستعماري، أو بتزامن النكبة الكبرى بفلسطين مع توزيع النفوذ على قوى "الاستغلال" المادي على خارطة النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.



إنّنا إلى جانب ما نعايشه من معاناة الضحايا وذويهم، وآخر أفواجهم ضحايا العدوان على أسطول الحرية، نرى رأي العين، أنّ الذين ينضمّون إلى قافلة مقاومة الإجرام المتصاعد كما في فلسطين وما حولها إلى قلب البحر الأبيض المتوسط، ليسوا هم الذين "يسبحون عكس التيار" كما يقال، بل يمارس ذلك أولئك الذي يمتنعون عن التحرّك على طريق المقاومة، محليا ودوليا، بمختلف أشكالها، ومختلف ميادينها.

وهذا ما يعزّز التأكيد أنّ المستقبل لفلسطين.. وللمتضامنين مع الحق والعدالة والتحرير في فلسطين، وأن المستقبل للإنسان.. وللمتضامنين مع الحقوق الإنسانية على كل صعيد في أنحاء العالم، أمّا من لا يتخلّى عن سياسة العجز والتخاذل الآن، باسم "خيار إستراتيجي وحيد" أو سوى ذلك من المسميات، فيمكن أن يجرفه التيار آجلا أو عاجلا.

 

المصدر: مبيل شبيب - موقع المختار الإسلامي