يوم الحرية.. تأريخ لا يكتبه العبيد

منذ 2010-06-02

لقد كانت تجربة الأسطول الحر في يوم الحرية تجربة فريدة سيسجلها التاريخ كإحدى تجليات الأحرار الحقيقيين في العالم، الذين نجحوا في استقطاب المئات من أربعين دولة سيعودون إليها سفراء لقضايانا العادلة.


موعدنا يوم الحرية نهاية شهر مايو، حيث سجل أنصار الحرية في العالم كله، الإسلامي بصفة خاصة نقطة غالية في سجل المبادئ والقيم، وخسر هنالك المبطلون؛ تعاملت "إسرائيل" بتلقائيتها مع دعاة الحرية وحاملي الإغاثة والدواء لأهلنا في غزة بما نعرفه عنها وتعرفها من نفسها، فعاثت ـ كما أسلافها في البر ـ فساداً في البحر هذه المرة بعد أن فاضت بها أرض المحشر ظلماً وطغياناً، وقتلت وجرحت العشرات، وزجت بحاملي الدواء إلى سجونها.

 
بعفوية تحركت "إسرائيل" فتحسست أسلحتها حين أحاطت بها القافلة وسدت عليها منافذ التفكير التي تجيدها خسة وخبثاً؛ فلم تعي حيلة، ولجأت إلى قاموسها الدموي المعتاد؛ فكانت المجزرة، وكانت ـ كما كان أسلافها ـ تظن أنه الحل السحري، تماماً مثلما الأجداد من بني قريظة وبني النضير أرباب الخيانة والفساد؛ فيما الحياة في قتلهم والرفعة في عدوانهم..
 
 
فــفي القتل لأجيـال حياة وفي الأسر فدي لهمُ وعتق
وللـحرية الـــحمراء باب بكـل يد مضـرجة يـدق
 
وكما قال شوقي؛ فقد دق الباب، وانجلى الضباب عن أعين من ظن بالكيان الصهيوني خيراً في الغرب وأوروبا، وانفضحت سرائرهم لما بدا الزيف واضحاً والتزوير الإعلامي ممجوجاً وساذجاً..
 
 
صحيح أننا لابد أن ننظر للجريمة على أنها مفردة للطغيان والقهر، وتبياناً لقدرة "إسرائيل" على إنفاذ قولها في العالم، والاستهتار بالرأي العام لدى الشعوب الغربية، ونستطيع أن نصف هذا التحدي الصهيوني على أنه إحدى تجليات القدرة "الإسرائيلية" على "استحمار" الشعوب الأخرى وضربها عرض الحائط بكل قانون دولي أو إجراء أممي، وإمساكها بأزِمَّة الرؤساء و"الزعماء" في الغرب، وقدرتها على "استنئناسهم" وامتطاء ظهورهم.
 
وأيضاً، لا نشك كذلك في أن هذه الجريمة التي كان اغتيال المبحوح في مدينة دبي وفضيحة الموساد فيها بروفة لقياس ردات الفعل العالمية، وقدرة الكيان الصهيوني على امتصاصها، ومدى استعداد "الحلفاء" في العالم على تسكين مثل هذه القضايا لدى شعوبهم، وأن غالب الظن ينصرف باتجاه تماثل ردة الفعل على هذه الجريمة على ما جرى في دبي قبل شهور، وذوبان القضية وغيابها بمرور الأسابيع والشهور دون اتخاذ إجراء فعال ضد هذا الكيان العابث بـ"سيادات الدول" وانتهاك خصوصيات مواطنيها.
 
كل هذا صحيح، ولكن أتراها "إسرائيل" لم تكن محشورة في زاوية لم تستطع الفكاك منها إلا بارتكاب هذه الجريمة؟ وتراها نفذت خطتها دون أن يلحقها الأذى بعد العار؟ إن من يدقق في الجريمة وما استتبعها من ردات فعل كثيرة ومتشبعة يدرك حقيقة أن كثيراً من تلك الردات لن يكون لها أثر يذكر بعد عدة أيام، غير أن بعضها سيبقى جرحاً غائراً في المستقبل الصهيوني، وسيترك أثره العميق في الذاكرة الغربية برغم كل محاولات التعتيم الإعلامية الغربية الاحترافية.
 
 
رأينا - وليس جديداً - كيف تعاطى الإعلام الغربي مع الجريمة، وكيف حاول تسويق وجهة نظر الصهاينة الهزلية والغبية حول المجزرة حين أعاد بث الصور التي أذاعها القراصنة الغاصبون وهم يقتحمون سفن الأسطول وبعض المقاومة التي لاقوها من النشطاء في السفن، وجهد الصهاينة وأذيالهم في تصوير الأمر كما لو كان النشطاء هم من تسوروا على الجيش الصهيوني ثكناته وأخذوا يعيثون في جنباته تقتيلاً وترهيباً!!
 
رغم ذلك فالعقل لن يقودنا إلى التشاؤم حيال ما جرى في عرض البحر قبالة شواطئ غزة في المياه الدولية، فليست الجريمة محض شر بل هي مليئة بألوان من الفوائد لن تحدها حدود المهتمين بها، ولا أنصار القضية الفلسطينية والمؤمنين بعدالتها وحدهم، وإذا ما تجاوزنا كلاماً مألوفاً عن الضرر الذي سيلحق بسمعة "إسرائيل" جراء هذه الجريمة، وهو ما تدركه "إسرائيل" ذاتها جيداً وترسم له رؤيتها لما بعد العدوان (مهما حدثتنا بعض الروايات عن "مفاجأة" الكوماندوز الصهيوني ببأس طباخي الأسطول ونجاحهم في شل حركة المهاجمين لأول وهلة!!)، والتي يستبعد كثيراً ألا تكون قد حسبت لها سيناريوهات الهجوم المتوقعة وقادتها سياستها تجاه المحيط والعالم إلى مثل هذا السلوك ، ومن بين التداعيات التي لابد كانت مسطورة أمام مجلس الوزراء الصهيوني المصغر العلاقة مع تركيا ومصر وأوروبا التي يضم الأسطول نشطاء منها.
 
 
أقول إن تجاوزنا ذلك برمته فإننا لا نخطئ تصوراً يرسم بريشته حدود التأثيرات المتوقعة لمثل هذه العملية، ومن أبرز ذلك ما تمنحه هذه العملية لقادة تركيا من هامش تحركهم للانسلات من ربقة الاتفاقات مع الكيان الصهيوني، والعلاقات "المتميزة" التي حرصت الطغمة التركية العسكرية والاقتصادية على نسجها مع الكيان الغاصب في تركيا ما قبل "الحزب ذي الجذور الإسلامية".
 
والواقع أن سياسة "العثمانيين الجدد" تقتات على أخطاء الغير من أجل دعم برنامجها للحكم، وهي فعلت ذلك مع الاتحاد الأوروبي الذي "استجدته" ظاهرياً ليرفض انضمامها إليه ما منحها فرصة ثمينة لتقليم أظافر العسكر والمؤسسة القضائية بحجة الخضوع لشروط الانضمام الصارمة، وهي الآن تفيد من الجريمة الصهيونية في عنصرين اثنين، الأول في حصولها على صك تفويض شعبي لسياستها الجديدة المتوقعة مع تل أبيب مشفوعة بالغضب الشعبي الهائل والرغبة في "الثأر لدماء الشهداء الأتراك" في المجزرة، والقيام بما يلزم من أجل تحرير الأسرى الأتراك، ولو عبر اجراءات اقتصادية أو ما نحوها، لاسيما أن "إسرائيل" ذاتها قد عمدت إلى إذلال أنقرة في هذه الجريمة كنوع من رد الصاع بمثليه بعد حادثة السفير التركي التي قادتها حكومة إردوغان ببراعة والثاني تعزيز شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد أن أظهرت أحدث استطلاعات الرأي تراجعه قليلاً شعبياً مع احتفاظه بالصدارة (إذا صحت نتائج هذا الاستطلاع).
 
 
أنقرة ـ بعد تحرير أسراها ـ ستجد نفسها متحررة نوعاً ما في اتخاذ موقف أكثر تشدداً من تل أبيب، وربما وجدت نفسها مدعوة أيضاً إلى الاتجاه إلى العالم العربي للضغط على بعض عواصمه المؤثرة من أجل تحريك قضية المعبر على نحو يقلق الكيان الصهيوني من دون اتخاذ موقف مباشر إزاءه.
 
تل أبيب من جهتها أحرجت "حلفاءها" العرب في المنطقة، وهذا ليس جديداً لكنه يعيد قضية المعبر إلى واجهة الأحداث ويحمل ضغطاً معنوياً وشعبياً لا يستهان به على القاهرة التي عادة ما لا تستجيب لهذه الضغوط لكنها هذه المرة قد تجد من التحركات الصهيونية في منابع النيل مبرراً مقنعاً للتلويح بالتجاوب مع مطامح تركيا في مسألة المعبر ولو ظاهرياً فقط، وهو بدوره ما سوف يقلق تل أبيب كثيراً إن حصل.
 
 
من جانب آخر، لا شك في أن للجريمة آثارها في عالم القناعات والأفكار، والذين يبهرهم مشهد تمثال الحرية في واجهة نيويورك يحق لهم اليوم أن يطالبوا واشنطن بتنكيسه، والأمر نفسه ينسحب على "العالم الحر" المتخاذل عن نصرة "الحرية" وأسطولها، والذي كشف عن موقف لا يمكن لأي شريف وعاقل في العالم قبوله، ونحن هنا لا يمكننا رصد ما يمكن أن يعتمل في نفوس العقلاء في الغرب إزاء هذه القرصنة التي تحظى ـ رغم الإدانة الفارغة ـ بدعم الغرب وصمته عن اتخاذ أي إجراء فاعل ليس فقط إزاء نحر الحرية كقيمة، ولكن أيضاً نحو مواطنيها المعتدى عليهم في وضح النهار في مهمة إنسانية واضحة.
 
يقظة الضمير الحي، والتعرف إلى القضية والإسلام (حامل القضية وعنوانها) سيكون من أبرز نتائجها غير المرئية في أوروبا، والاستحقاق الذي سيواجه كل مدعي "الليبرالية" في العالم، وعالمنا العربي خصوصاً من أجل التحرك لنصرة المحاصرين، والتضامن مع أهالي وأنصار شهداء "الحرية" المذبوحة على أعتاب غزة، وتبيان أن أنصار الحرية هم في الحقيقة متدينون في عالمنا العربي وليسوا أدعياءها المنجذبين إلى "قبلة البيت الأبيض"، هو كذلك نتيجة غير محسوسة لكنها واقعة من المحيط إلى الخليج، ومأزق آخر يعانيه كل من يرى في أمريكا وحلفائها والنظم الغربية للحكم حلاً لمشكلاتنا التي صنع الغرب ذاته معظمها.
 
 
لقد كانت تجربة الأسطول الحر في يوم الحرية تجربة فريدة سيسجلها التاريخ كإحدى تجليات الأحرار الحقيقيين في العالم، الذين نجحوا في استقطاب المئات من أربعين دولة سيعودون إليها سفراء لقضايانا العادلة مهما ظن المارقون أنهم أسقطوا تجربتهم في عرض البحر، لاسيما بعدما كشفوا الكيان الصهيوني لمن ظل مغيباً في الغرب عن رؤية الحقيقة؛ فكانت القرصنة هنا تجسيداً لسياسة صهيونية "عريقة" وزيف إعلامي واضح، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
 
19/6/1431 هـ
 
المصدر: موقع المسلم