من لطائف التوبة
بما أن رمضانَ فرصةٌ للتوبة والرجوع إلى الله فهذه نبذةٌ موجزةٌ يتبين لنا من خلالها بعضُ المسائل واللطائف في باب التوبة
الحمد لله الكريم التواب، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله والأصحاب، أما بعد:
التوبةَ واجبةٌ ومستحبةٌ؛ فالتوبةُ الواجبةُ تكون من فعلِ المحرماتِ وترك الواجباتِ والتوبة المستحبةُ تكون من فعل المكروهات وتركِ المستحبات؛ فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من المقتصدين الأبرار، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين.
فإن رمضانَ موسمُ الخيرات، وميدانُ التنافس في الباقيات الصالحات، وإن النفوس فيه لتَنْزِعُ عن غيِّها، وتبادرُ إلى تلافي ما مضى من تقصيرها. وبما أن رمضانَ فرصةٌ للتوبة والرجوع إلى الله فهذه نبذةٌ موجزةٌ يتبين لنا من خلالها بعضُ المسائل واللطائف في باب التوبة. فمن ذلك: أن التوبةَ واجبةٌ ومستحبةٌ؛ فالتوبةُ الواجبةُ تكون من فعلِ المحرماتِ وترك الواجباتِ والتوبة المستحبةُ تكون من فعل المكروهات وتركِ المستحبات؛ فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من المقتصدين الأبرار، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأتِ بالأولى الواجبة؛ كان من الظالمين؛ إما الكافرين وإما الفاسقين.
ومن المسائل في باب التوبة: مسألة التوبةُ النصوحِ، وهي الخالصةُ، الصادقةُ، الناصحةُ الخاليةُ من الشوائب والعلل؛ وهي التي تكون من جميع الذنوب؛ فلا تَدَعُ ذنبًا إلا تناولتْه، وهي التي يَجْمَعُ صاحبُها العزمَ والصدقَ بكُلِّيته؛ فلا يبقى عنده تردُّدٌ ولا تَلوُّم، ولا انتظار، وهي التي تقعُ لمحض خوف الله، وخشيته، والرغبة مما لديه، والرهبة مما عنده، فمن كانت هذه حالَهُ غُفِرَتْ ذنوبُه كلُّها،وإذا حَسُنَتْ توبتُه بدّل الله سيئاتِه حسنات.
ومن المسائل في باب التوبة: مسألةُ التوبةِ الخاصة، وهي التي تكون من بعض الذنوب؛ فالواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها.
لكن إذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر، قُبِلَتْ توبتُه مما تاب منه ما لم يُصِرَّ على ذنبٍ آخرَ من نوعه.
مثال ذلك: أن يتوب من الرّبا وهو مصر على شرب الخمر، فتقبل توبته من الربا وهكذا.
وقد يُتَصَوَّر أن يتوب الإنسانُ من الكثير من الذنوب دون القليل؛ لأن لكثرة الذنوب تأثيرًا في كثرة العقوبة، وصعوبة التوبة.
وبالجملة فكلُّ ذنبٍ له توبةٌ خاصةٌ، وهي فرضٌ منه لا تتعلق بالتوبة من غيره؛ فهذه هي التوبةُ الخاصةُ، وحكمها: أنها تَصِحُّ فيما تاب منه؛ شريطةَ أن يكون التائب باقيًا على أصل الإيمان.
وسر المسألة: أن التوبة تَتَبَعَّضُ كالمعصية؛ فيكون تائبًا من وجه دون وجه.
ثم إن على العبد إذا وُفِّق للتوبة من ذنب أن يسعى للتخلص من الباقي؛ لأن الإصرارَ على الذنوب يقود إلى ذنوبٍ أخرى؛ فالحسنة تهتف بأختها، والسيئة كذلك.
ومن اللطائف في باب التوبة مسألةُ رجوعِ الحسناتِ إلى التائب بعد التوبة؛ فإذا كان للعبد حسناتٌ، ثم عمل بعدها سيئاتٍ استغرقت حسناتِه القديمةَ وأَبْطَلَتْها، ثم تاب بعد ذلك -توبة نصوحًا- عادت إليه حسناتهُ القديمةُ ولم يكن حكمُه حكمَ المستأنف لها بل يقال: تُبْتَ على ما أسلفتَ من خير؛ فالحسنات التي فَعَلْتَها في الإسلام أعظمُ من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره، من عتاقة، وصِدْقِة، وصِلَةٍ، وبر.
قال حكيم بن حزام رضي الله عنه: قلت يا رسول الله، أرأيتَ أشياءَ كنت أتحنَّث بها -يعنى أتعبدُّ بها- في الجاهلية من صَدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم؛ فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم [123]).
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: "لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صدر منه في الكفر؛ تفضّلًا وإحسانًا" اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله مبيّنًا العلة في ذلك: "وذلك لأن الإساءةَ المُتَخَلِّلَة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن؛ فتلاقت الطاعتان، واجتمعتا، والله أعلم" اهـ.
ومن اللطائف في باب التوبة: مسألةُ رجوعِ التائبِ إلى حاله ومقامه قبل المعصية؛ فقد يكون للعبد حالٌ، أو مقامٌ مع الله، ثم ينزل عنه بسبب ذنبٍ ارتكبه، ثم بعد ذلك يتوب من ذلك الذنب، فهل يعود بعد التوبة إلى مثل ما كان، أو لا يعود، أو يعود إلى أنقص من رتبته، أو يعود خيرًا مما كان؟
والجواب: أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله الأول، ومنهم من يعود إلى أكملَ من حاله، ومنهم من يعود إلى أنقصَ مما كان؛ فإن كان بعد التوبة خيرًا مما كان قبل الخطيئة، وأشدَّ حذرًا، وأعظم تشميرًا، وأعظم ذلًا وخشية وإنابة، عادَ إلى أرفع مما كان.
وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور، ولم يعد بعد التوبة إليها عاد أنقص مما كان عليه.
وإن كان بعد التوبةِ مثلَ ما كان قبل الخطيئة، رجع إلى منزلته.
هذا ما رجّحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة.
وعلى هذا؛ فإنه ينبغي التفطُّن لهذه المسألة، خصوصًا من كان له حالٌ مع الله، وكان ذا خشيةٍ، وعلمٍ، وتألُّهٍ، ومسارعة إلى الخيرات، وحرص على الدعوة ونحو ذلك، ثم طاف به طائف من الشيطان فأزلَّه، وأغواه، وطوَّح به عن قصد السبيل، فن+زل عن رتبته السابقة، وفقد أُنْسَه بالله، ودبَّ إلى الضّعف والفتور وترك ما كان يقوم به من خير ومسارعة.
فهذه مسألة تعتري كثيرًا من الناس، فيستسلمون لها، ويركنون إلى خاطر اليأس، ويرضون بالدّون، فيظنون أنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى حالتهم السابقة من الخير، والقرب من الله.
فعلى من وقعت له تلك الحال ألا يستسلم للشيطان، وألا ييأس من رجوعه إلى ما كان عليه من منزلة؛ بل عليه أن يجتهد بالتوبة النّصوح، وأن يشمّر عن ساعد الجدِّ؛ لتدارك ما فات بالأعمال الصالحات؛ فلربما عاد إلى مقامه وحاله السابق، بل ربما عاد أكمل مما كان عليه، وليس ذلك ببعيد على من كان ذا نفس شريفة، وهمة عالية.
ولا بُعدَ في خيرٍ وفي الله مطمعٌ *** ولا يأسَ من رَوْحٍ وفي القلب إيمانُ
ومن المسائل في هذا الباب: أن فعلَ معصيةٍ من المعاصي لا يسوّغ فعل غيرها ولا يسوّغ ترك الطاعات ولا المجاهرة بالمعصية، أو الدعوة إليها.
ومن ذلك أن فعل المعاصي لا يسوغ للإنسان حبَّ المعصية وأهلِها، وبغضَ الطاعةِ وأهلِها ولا يسوغ له ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.
أيها الصائمون: مسائل التوبة كثيرة، ولطائفها متنوعة، وأسرارها بديعة عديدة لا يتّسع لها هذا الوقت اليسير.
اللهم إننا نسألك التوبة النصوح التي ترضيك عنا.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم
- التصنيف:
- المصدر: