السينما التي تعرف طريقها
بسم الله الرحمن الرحيم
كنا أشبالا صغار نجلس أمام شاشة التلفاز نتابع أفلام بواكير سبعينات القرن الماضي .. كانت رحلة ترفيهية إمتاعية بالدرجة الأولى، لكن صانعوا الأفلام كانوا لا يرونها كذلك، بل كانوا يعرفون طريقهم ويرسمون خططهم لإضفاء بصمة جديدة على أفق المجتمع المتدين المحافظ، وتغيير شكل الأفكار والتصورات ولكن بهدوء، فكانوا يخططون ونحن منساقون.
لا أحدثكم عن الممثلات المتبرجات في مجتمع قل أن تجد فيه امرأة حاسرة الرأس إلا نصرانية، ولا أحدثكم عن مشاهد البارات والخمور، أو مشاهد المغنيين وقد أصطف خلفهم أسطول من الراقصات العاريات .. تلك كانت مشاهد غريبة على طفولتنا الطاهرة، وعصية على أن نتآلف معها، لكن صانعوها أرادوا على الأقل أن نأخذ فكرة عن المجتمعات الملوثة، أو على الأقل أن يخدشوا حيائنا ولو حتى خدوشا بسيطة.
لكن الخطير الذي غير وجه المجتمع، هي سياسة اللعب على الأفكار، ودوما فتنة الشبهات أعظم خطرا من فتنة الشهوات.
شيخ الكتاب:
كانت كتاتيب تحفيظ القرآن منتشرة في ربوع الوطن .. في القرى وفي الحارات وفي الأزقة، وكان الحديث عن الأفاضل مسبوقا بالعبارة الشهيرة: «أتم حفظ القرآن في صباه»، وكان شيخ الكتاب شخصية لها اعتبارها ووزنها، وكيف لا هو الذي يربط النشء بالقرآن، ويصوغ أحاسيسهم على هديه وإيقاعه، وكان للشيخ هيبة أينما حل وذهب، ووجاهة عندما يحضر في المشكلات، فالكل يصدر عن رأيه، ويخضع لحكمه، ولما لا وهو الذي حمل القرآن في صدره، ولا يوجد بيت إلا وللشيخ الفضل على أفراده كبارا كانوا أو صغارا.
لكن السينما كان لها هدفا آخر، وكان سدنتها يحزنون لعلو صوت القرآن على صوت الألحان، فصورت شيخ الكتاب بصورة كريهة تمجها النفوس، فهو الشيخ الكفيف، صاحب شخصية دونية مفتاحها الطعام والشراب، فيستطيع أي أب أو تلميذ أن يشتري ذمته ببعض الطعام، أو درهم أو دينار، ثم هو في الكتاب غليظ الطبع عتل جواظ، الكل يرتعب منه، والطفل بين يديه يلقي حفظه من الآيات الكريمات وهو يرتعش خوفا من بطشه.
كانت صورة منفرة ولكنها متكررة، يكاد لا يطرق موضوع الكتاتيب في مشهد إلا وتجد هذه الصورة النمطية للشيخ المبتذل .. وإن كانت هذه الصورة موجودة أفرادا قلائل، إلا أن التكرار حولها لنمط سائد، في حين يظهر المرشد النفسي أو التربوي المنمق الهندام وهو يتحدث عن احتواء الطفل والحوار معه وتفهم دوافعه في صورة رقيقة وحساسة تأخذ بالقلوب وتكره الدين وأهله.
ومع مرور الوقت نجحت السينما، وانقرضت الكتاتيب، اللهم إلا أفرادا في القرى، وغاب المحفظين والحفظة، ونشأ جيل في مجملة لا يعرف إلا الكاتشب وأكل الشيبسي والهامبرجر، وسائر الملذات.
حتى اللغة العربية طالها نفس المخطط الرهيب، وتولى كبره الممثل النصراني نجيب الريحاني «أستاذ حمام» مدرس اللغة العربية، الأهبل لكنه طيب القلب، والساذج الذي تعلم بعد ذلك فنون العشق، والمبتذل الذي تعلم حسن الهندام في محراب الغرام.
وين هنادي يا خال؟!:
فيلم «دعاء الكروان» .. كانت هنادي الصبية الجميلة خادمة عند الباشمهندس الشاب السكير .. راودها عن نفسها، ثم راودته عن نفسه، ووقعا في الفاحشة، فما كان من خالها المغوار إلا أن أخذها وقتلها وواراها في التراب .. القصة كانت ماكرة لأبعد الحدود، فهنادي الرقيقة ضحية الظروف والمجتمع! والخال كان رجلا فظا غليظ الصوت متجهم الوجه، وأخت هنادي تسأله في حزن وأسى السؤال الشهير: وين هنادي يا خال؟ فيرد بفظاظة: هنادي راحت في الوبا.
انقلبت الموازين فصارت الخطية ضحية تستدر شفقة وعطف المشاهد، وصارت الرجولة مستهجنة لأنها ثأرت لعرض بعدما فرطت فيه ابتداء.
القهوة الشعبية:
القهوة الشعبية حظيت في الأفلام والشاشات باهتمام رهيب، فيها تدار الحوارات السياسية والاجتماعية، وهي منتدى لبث الشكوى بين الأصدقاء، والشيشة من لوازمها، وربما تواجد فنان بعوده يطرب السامعين .. تضليل لواقع مغاير تماما للحقيقة، وتضخيم لقزم لا نعرف من رواده إلا شراذم الناس وسوقتهم، بل إن أصحاب المهن المرموقة في المجتمع يأنفون من الجلوس على تلك المقاهي، فلا تجد طبيب أو أستاذ جامعة أو دبلوماسي أو طيار .. يرتاد مثل هذه الأماكن، بل حسب علمي أن رجال القضاء محظور عليهم رسميا الجلوس على قهوة شعبية.
إنها محاولة دءوب لترسيخ صورة القهوة في المجتمع، وتضخيم لدورها، وبالمقابل تقزيم لدور المسجد وحلقات العلم، رغم أن السلف كانوا يقولون: "إنما يعرف الرجال بالمساجد". كما كان دعائهم للميت: "اللهم إنا نشهد أنه كان من المصلين".
ورويدا رويدا تقبل الناس فكرة القهوة، بل شاركت النساء الرجال في الجلوس عليها، وتدخين الشيشة التي تقتل أنوثتهن، ونجحت السينما في غرضها وابتلعنا الطعم ووقعنا في شراكها إلا من عصم الله تعالى.
صورة الملتحي:
الملتحون شريحة وضيئة في المجتمع، وكيف لا وهي فئة استنت بالسنة، وانسجمت مع الفطرة، فيهم الصالح وما أكثرهم، وفيهم أيضا الطالح وتلك سنة الله في خلقه.
لكن السينما التزمت دوما العداء مع الإسلاميين عامة والملتحين خاصة، وأول ما يشد انتباهك في هذه القضية أن منظر اللحية لابد أن يكون مقززا، مع مراعاة أن تبعث في وجدان المشاهد النفرة. رغم أن كثير من الملتحين يجمل منظرهم باللحية. وهي من تمام الرجولة والفحولة. وما زالت اللحية زينة للرجال طيلة عمر البشرية إلى وقت قريب، فما عرف حلق اللحى إلا في المتأخرين. لكن الخصومة مع هيبة ومنظر اللحية تصل لدرجة الإجماع السينمائي.
إن السينما الترفيهية من وجهة نظرنا، كانت سينما توجيهية إلى حد كبير، وصناعة النجوم على شاشاتها يعرف الجميع أنها صناعة قذرة، وأن أوساط الفن أوساط مشبوهة، ولذلك تجد الأسر الكريمة تثور لو فكرت إحدى بناتهن في الانخراط في دنيا الفن، على عكس ما أوهموا الناس بأن المجتمع كله يلهث وراء النجومية والشهرة والثروة.
مَثّل أهل الفن لنا السعادة وأوهمونا أنهم يعيشون فيها، وحياتهم ما كانت إلا شقاء في شقاء، وإلا فأين السندريلا التي ماتت إما مقتولة أو منتحرة، وأين النجم الذي مات بسرطان الرئة من فرط التدخين، وأين الذي مات من الإدمان .. وأين وأين.
كانت السينما تعرف طريقها
وكنا نحن الساذجين. بل وقد يتحسر أحدهم على الأيام الخوالي، أيام الفن الجميل!!
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: