خطب مختارة - [107] الصحابة عند أهل السنة

منذ 2016-08-04

من أصول عقائد أهل السنة والجماعة التأدبُ مع صحابة رسول الله، والاستغفارُ لهم، والترضي عنهم، وإمساكُ اللسان عما شجر بينهم من خصومة واقتتال.

الخطبة الأولى

عباد الله، حديثنا اليوم عن خير جيل عرفتهم البشرية، إنهم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، إنهم السابقون الذين تمثلوا هذا الدين في أكمل صُورة، وطبقوا هدايته على نحو لا يتكرر أبدًا، إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصابيح الدجى وشموس الهدى، سادة الأمة وعنوان مجدها، هم قدوة المؤمنين وخير عباد الله بعد الأنبياء والمرسلين، أغزر الناس علمًا، وأدقّهم فهمًا، وأصدقهم إيمانًا، وأحسنهم عملا، بدمائهم وأموالهم وصل الإسلام إلى أطراف الأرض، وبجهادهم وتضحياتهم قام صرح الدين وانهدم كيان الشرك. كانوا في الحياة أولياء، وهم بعد موتهم أحياء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها.

آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين كذبه قومه، ودافعوا عنه حين آذاه الناس، وآووه حين طُرد من وطنه. قوم اختصهم الله بصحبة خليله وحبيبه، واصطفاهم ربهم بتبليغ رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم، أخلصوا دينهم لله، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. نقلوا القرآن والسنة، وهدوا العباد إليهما، فكانوا بذلك أهلًا لرضوان الله ومحبته ورحمته وجنته، كانوا بذلك طليعةَ خيرِ أمة أخرجت للناس، إنهم بحقٍّ جيل فريد في إيمانه وجهاده وعلمه وعمله وصدقه وإخلاصه، يعجز اللسان عن ذكر مآثرهم، ويعجز القلم في تعداد فضائلهم.

إخوة الإيمان، إن معرفة قدر الصحابة وما لهم من شريف المنـزلة وعظيم المرتبة من أولى المهمات المتعلقة بصلاح العقيدة واستقامة الدين، ولذا كان علماء الإسلام يؤكدون في كتب العقائد على مكانة الصحابة في الأمة، ويذْكُرون في ذلك فضلهم وفضائلهم وأثرهم وآثارهم، ويدافعون عن أعراضهم؛ إذ الدفاع عنهم دفاع عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فهم بطانته وخاصته، والدفاع عن الصحابة دفاع عن الإسلام، فهم حملته ونقلته. فنحن نحبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرّط في حب أحدٍ منهم، ولا نتبرّأ من أيِّ أحدٍ منهم، ولا نذكرهم إلا بخير، ونحن نبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم، فحب الصحابة دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.

صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسوّروا العز والشرف وتبوَّؤوا الفخر والمجد يوم أن زكاهم ربهم - الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير- ، تقلّدوا من ربهم ثناءً عاطرًا ووسامًا خالدًا، شهد لهم ربهم وكفى بالله شهيدا أنهم مؤمنون حقا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]. كما شهد لهم ربهم بصلاح سرائرهم واستقامة ضمائرهم، فرضي عنهم وأرضاهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].

بل إن شرفهم وفضلهم قد سُطِّر قبل مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصفهم ربهم بأكمل الصفات وأجمل السمات في التوراة والإنجيل؛ قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّار} [الفتح: 29]. هم أنصار خير البشر وخاتم الرسل، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]. وفازوا بتوبة الله عليهم، { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117].

إن الصحابة كانوا في السِّلْم معلِّمِين مصلحين هداةً عاملين، وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أمان لأمته، فقال صلى الله عليه وسلم: «النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد, وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي؛ فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد» [صحيح مسلم: 2531]

أما في الحروب والذود عن حياض الإسلام فقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في نصرة الدين والاستجابة لله وللرسول، يقول الله شاهدا على جهادهم وثباتهم: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران]

إخوة الإيمان، حينما نقلب دواوين السنة نجد محبّةَ النبي صلى الله عليه لصحابته ظاهرةً جليّة، ولذا حذّر ونهى عن سبهم وإيذائهم، وأخبر أن قدرهم لا يبلغه عمل عامل، روى البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه» [صحيح مسلم: 2540]. ولـمّا رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم تعب الصحابة وجهدهم في حفر الخندق وواساهم بكلمات ملؤها المحبة والرحمة، فقال: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة» [صحيح البخاري: 6414]، وقال عن أهل بدر: «لعل الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم» [صحيح البخاري: 6939]، وقال عن أهل بيعة الرضوان: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد ؛ الذين بايعوا تحتها» [صحيح مسلم: 2496].

وروى أحمد (1/379) بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمدr  خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابهِ خيرَ قلوبِ العبادِ، فجعلهم وزراءَ نبيهِ ؛ يُقاتِلون على دينه» [الصحيح المسند: 856]. وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» [سنن الترمذي:2302].

إخوة الإيمان، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عن صحابته راضيًا؛ ولا تزال أمة محمد بخير ما عرفت للصحابة حقهم وحقوقهم، فحقّ على أمة محمد إن رامت الصلاح والفلاح أن تلزم منهج صحابتِها الكرام في الاعتقاد والسلوك والعمل، حقّ على الأمة أن تنشر فضائلهم وتُسَطِّر مناقبهم، وأن تربِيَ الأجيال على سيرتهم، وأن تملأ القلوب محبة لهم. وحق لهم الدفاع عن أعراضهم والتحذير من شر الطاعنين فيهم.

اللهم ارض عن الصحابة أجمعين.

الخطبة الثانية

من أصول عقائد أهل السنة والجماعة التأدبُ مع صحابة رسول الله، والاستغفارُ لهم، والترضي عنهم، وإمساكُ اللسان عما شجر بينهم من خصومة واقتتال؛ وأن فعلهم ذلك دائر بين الأجر والأجرين، فهم إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر أيضًا. ومن أخطأ منهم في اجتهاده فإن له من السوابق الحسان والمحاسن العظام ما يوجب رِفعة درجاتهم وتكثير حسناتهم، ولا نقول إلا كما علمنا وأدبنا ربنا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

أيها المؤمنون، وبعد الكلام عن الصحابة وفضلهم لا بد أن يُعلم أن هناك من ناصب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء واتهمهم في دينهم وطعن في مقاصدِهم؛ وذلك يُبينُ لنا حقيقةَ هؤلاء الطاعنين ومكانتَهم من الإسلام. لقد طمس الله على قلوب الرافضة الشيعة، فلا هم يعرفون للصحابة فضلا ولا هم يذكرون لهم شرفًا، وإنما رموهم بسهام الحقد والعداء والافتراء، زعمت الرافضة أن الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا إلا نفرًا يسيرًا منهم، وأنهم ما أظهروا الإسلام إلا نفاقًا؛ لأطماع دنيوية ومصالح ذاتية؛ وكتب الرافضة الشيعة مليئة بمئات الروايات الصريحة لهم في تكفير الصحابة وشتمهم ولعنهم، وبالأخص الصديق والفاروق وأم المؤمنين عائشة، بل جعلوا من الطعن في الصحابة ديانة وزلفى يتقربون بها إلى ربهم تعالى، وصدق الله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].

ومن الوعيد الشديد فيمن آذى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أحمد (5/54) والترمذي (3862) والبيهقي في الشعب (2/191) عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى، ومن آذى الله فيوشكُ أن يأخذَه» [صحيح ابن حبان: 7256].

فاللهم عليك بمن آذانا في نبينا وفي صحابة نبينا في كل زمان ومكان. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن خلفائه.

 

المقال السابق
[106] الصبر على البلاء
المقال التالي
[108] الصدقة الجارية (الوقف)