خطب مختارة - [106] الصبر على البلاء

منذ 2016-08-04

ومن التوجيهات النبوية في الرضا بأقدار الله قولُه صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ؛ وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ؛ واستعن بالله ؛ ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا ؛ ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان » [صحيح مسلم: 2664].

الخطبة الأولى

الحمد لله الرب الرحيم؛ الحكيم بما يقضيه في كل زمان ومكان، واللطيف بعباده حين تقلقهم الهموم والأحزان، الذي وعد الصابرين أجرهم بغير عدٍّ ولا حسبان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي صبر على طاعة الله وصبر على أقدار الله وعلى إيذاء بني الإنسان، صلى الله وسلَّم  عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

 عباد الله، اتقوا الله تعالى في السراء والضراء؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، واعلموا عباد الله أن الصبر من الدين بمنـزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبرْ يصبرْه الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر، وبالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والصبر من مقامات الأنبياء والمرسلين، وحلية الأصفياء المتقين، قال الله تعالى عن عباد الرحمن: { أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان:75]. وقال عن أهل الجنة: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24:25]

عباد الله، من خلال الآيات والأحاديث استنبط أهل العلم أن للصبر ثلاثةَ أقسام؛ صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.

فأول أنواع الصبر الصبر على طاعة الله وهو أن يُلزِم الإنسان نفسه طاعة الله وعبادته؛ ويؤديها كما أمره الله تعالى، وأن لا يتضجر منها أو يتهاون بها أو يدعها، فإن ذلك عنوان هلاكه وشقائه، ومتى علم العبد ما في القيام بطاعة الله من الثواب هان عليه أداؤها وفعلها، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.

وأما النوع الثاني فهو الصبر عن معصية الله؛ بأن يمنع الإنسان نفسه عن الوقوع فيما حرم الله عليه؛ مما يتعلق بحق الله أو حقوق عباده، فمتى علم العاقل ما في الوقوع في المحرم من العقاب الدنيوي والأخروي أوجب ذلك أن يدعها خوفًا من علام الغيوب.

ونتذكر عباد الله في القسمين السابقين من الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله قولَه صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات» [صحيح مسلم: 2822]؛ وعند البخاري أيضا: «حجبت النار بالشهوات ، وحجبت الجنة بالمكاره» [صحيح البخاري: 6487]، قال العلماء: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن؛ ومعناه لا يُوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره؛ والنار إلا بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما فمن هتك الحجاب وصل إلى المحبوب؛ فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره؛ وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فمعنى هذا الحديث أن من أراد الفوز بالجنة والنجاة من النار، فعليه بفعل الطاعات واجتناب المحرمات؛ ولو وجد في ذلك مشقة على نفسه، والحقيقة أن هذه المشقة تتلاشى كلما زاد إيمان العبد؛ وقويت صلته بمولاه.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا؛ وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان؛ واجعلنا من الراشدين. اللهم آمين .

الخطبة الثانية

الحمد لله الحميد في وصفه وفعله، الحكيم في خلقه وأمره، الرحيم في عطائه ومنعه، المحمود في خفضه ورفعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في كماله وعظمته ومجده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل مرسل من عنده، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وجنده.

وأما القسم الثالث من الصبر فهو الصبر على أقدار الله المؤلمة؛ ومعناه أن يستسلم الإنسان لله فيما يقع عليه من البلاء والهموم والأسقام والمصائب، وأن لا يقابل ذلك بالتسخط والتضجر، فالله هو المتصرف بعباده كما يشاء، فلا اعتراض عليه، له الملك وله الحمد، له الخلق وله الأمر، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فالمؤمن يعلم أن البلاءَ لنـزوله أسبابٌ وحكمٌ؛ بعضها ربما يعلمها العبد وبعضها لا يعلمها إلا الله، والمؤمن يعلم أن لدفع البلاء ولرفعه أسبابًا من أعظمها لجوؤه ودعاؤه وتضرعه إلى مولاه، والمؤمن يعلم أن ما يُنْـزَلُه الله بعبده المؤمن رحمةً وخيرًا وحكمةً ورفعةً للدرجات وتكفيرًا للسيئات؛ ولذلك يكون راضيًا بما قدره الله، مسلِّما أمره إلى الله، محتسبًا الأجر والخَلَف من الله الكريم.

فالإنسان ربما يصاب بمصيبة في نفسه أو مصيبة في أهله أو مصيبة في أصحابه أو مصيبة في نواحٍ أخرى، فإذا قابل هذه المصائب بالصبر وانتظار الفرج والأجر من الله، صارت المصائب تكفيراً لسيئاته ورفعةً في درجاته، وقد وردت الآيات والأحاديث الكثيرة في ذلك فقال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}  [البقرة: 155:175].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» [صحيح مسلم: 2571]. وعَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ رضي الله عنها قَالَتْ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضَةٌ، فَقَالَ: «أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلَاءِ؛ فَإِنَّ مَرَضَ الْمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» [صحيح أبي داود: 3092]. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» [صحيح مسلم: 2572]. وقال صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ؛ وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» [صحيح مسلم: 2999].

فهذه الأحاديث وما ورد بمعناها بشرى للمؤمن؛ تجعله يحتسبُ عند الله المصائبَ التي تنـزلُ به ؛ فيصبرُ عليها ويحتسبُ ثوابَها عند الله؛ لأنه يعلم أن ذلك من عند الله تعالى؛ وأن سببها من نفسه ؛ كما قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].

ومن التوجيهات النبوية في الرضا بأقدار الله قولُه صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ؛ وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ؛ واستعن بالله ؛ ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا ؛ ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان » [صحيح مسلم: 2664].

عباد الله ؛ تفكروا في حِكَم المولى في تصريف الأمور، وأنه المحمود على ذلك، وأن أي شدة صغيرة أو كبيرة خاصة أو عامة إنما فرجها بيد من هو على كل شيء قدير، فعلينا أن نحسن الظن بالله ؛ وأن لا نقنط من رحمة الله؛ وأن نرضى بما قدر الله ؛ وأن نتذكر مع نزول أي مصيبة كثرة نعم الله علينا؛ ولطفه بنا؛ وذلك من أعظم ما يهون المصائب،  وعلينا الاعترافُ بتقصيرنا وعيوبنا ومعاصينا بين يديه سبحانه، والتوبةُ النصوح من جميع الذنوب، والقيامُ بما أمرنا الله به من الصبر واحتساب الأجر، والإيمانُ به والتوكلُ عليه؛ والعملُ بما يرضيه؛ والبعدُ عن معاصيه؛  وبذلك تكون العبودية لله في جميع التقلبات والأحوال؛ والتي هي طريق السعادتين في الدنيا والآخرة ؛ قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [التغابن: 11]

اللهم اجعلنا لِنِعَمِك شاكرين؛ وعند البلاء صابرين.

  • 42
  • 11
  • 88,490
المقال السابق
[105] الصبر على أقدار الله
المقال التالي
[107] الصحابة عند أهل السنة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً