خطب مختارة - [123] الكسوف والمعاصي والفواحش

منذ 2016-08-10

إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله ينجليان بأمر الله وينكسفان بأمر الله؛ فإذا أراد الله عز وجل أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفاتهم كسفهما باختفاءِ نورِهما كلِّه أو بعضِه؛ إنذارًا للعباد وتذكيرا لهم لعلهم يحدثون توبة فيقومون بما يجب عليهم من أوامر الله؛ ويُبْعِدُون عما حَرُمَ عليهم من نواهي الله.

الخطبة الأولى

الحمد لله الملك القهار العظيم الجبار خلق الشمس والقمر وسخر الليل والنهار، فسبحانه من إله عظيم خضعت له الرقاب ولانت لقوته الصعاب، توعد بالعقوبةِ من خرج عن طاعته {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [فاطر: 45]، ويجازيهم على أعمالهم يوم الحساب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له من غيرِ شكٍ ولا ارتياب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب؛ وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا ربكم، واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته قال تعالى: {وسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [ الجاثـية: 13]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ*وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنهار. وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:32-34].

إخوة الإسلام إن الله سخر لكم ذلك وهو في غنىً عنكم، وأنتم أشدُّ ما تكونون إليه افتقارا  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، أيها المسلمون إن الله سخر لكم الشمس والقمر دائبين، لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب، ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول والأزمان، سخر الله الشمس والقمر يسيران بنظام بديع وسير سريع {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]، لا يختلفان علوا ولا نزولا ولا ينحرفان يمينًا ولا شمالًا ولا يتغيران تقدمًا ولا  تأخرًا عما قدر الله لهما في ذلك {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

أيها المسلمون إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللهِ الدالة على كمال علمه وقدرته؛ وبالغ حكمته؛ وواسع رحمته؛ آيتان من آيات الله في عِظَمِهِما؛ آيتان من آيات الله في نورهما وإضاءتهما {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]؛ آيتان من آيات الله في سيرهما وانتظامهما {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ . لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يـس:38-40]

إخوة الإيمان، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله ينجليان بأمر الله وينكسفان بأمر الله؛ فإذا أراد الله عز وجل أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفاتهم كسفهما باختفاءِ نورِهما كلِّه أو بعضِه؛ إنذارًا للعباد وتذكيرا لهم لعلهم يحدثون توبة فيقومون بما يجب عليهم من أوامر الله؛ ويُبْعِدُون عما حَرُمَ عليهم من نواهي الله، ولقد كثر الكسوف في هذا العصر؛ فلا تكاد تمضي السنةُ حتى يحدثَ كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا؛ مرة أو مرتين، وما ذلك إلا لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا ونسوا أهوال الآخرة؛ وأترفوا أبدانهم وأتلفوا أديانهم؛ أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة المحتومة.

وإن من المؤسف أن كثيرًا من أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف فلم يقيموا له وزنًا؛ ولم يحرك منهم ساكنًا، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم وجهلهم بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الكسوف؛ واعتمادهم على ما عُلم من أسباب الكسوف الطبيعية؛ وغفلتهم عن الأسباب الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يُحدِث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية، فالكسوف بلا شك له أسبابٌ طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون؛ ويتهاون بها ضعيف الإيمان.

فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق والتكبير هذه سبعة أمور أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم عند حدوث الكسوف، ولقد كسفت الشمس في عهد  النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في آخر حياته في تسع وعشرين من شوال في السنة العاشرة من الهجرة حين مات ابنه إبراهيم؛ وذلك في يوم شديد الحر فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا إلى المسجد؛ وأمر منادي ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالا ونساءً؛ فقام فيهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وصلَّوا خلفه؛ فكبر وقرأ الفاتحة وسورة طويلة بقدر سورة البقرة يجهر بقراءته ثم ركع ركوعًا طويلًا جدًا ثم رفع وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنها أقصر من الأولى ثم ركع ركوعًا طويلًا دون الأول ثم رفع وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وقام قيامًا طويلا نحو ركوعه ثم سجد سجودًا طويلا جدا نحوا من ركوعه ثم رفع وجلس جلوسا طويلا ثم سجد سجودا طويلا ثم قام إلى الركعة الثانية فصنع مثل ما صنع في الأولى لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام ثم تشهد وسلم وقد تجلت الشمس، ثم قام فخطب خطبة عظيمة بليغة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:« أما بعد فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده لينظر من يحدث منهم توبة وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره وفي رواية فادعوا الله وكبروا وتصدقوا حتى يفرجَ الله عنكم وفي رواية حتى ينجلي».

وأمر صلى الله عليه وسلم الأُمَّة بالعتق، وقال: يا أُمّة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبدُه أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا، وأيم الله يعني والله لقد رأيت منذ قمت ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي؛ هذا حتى الجنة والنار؛ رأيت النار يحطم بعضها بعضًا، فلم أَرَ كاليوم منظرا قط أفظع .. إلى آخر موعظته البليغة العظيمة.

عباد الله، إن فزعَ النبي صلى الله عليه وسلم للكسوف وصلاتَه هذه الصلاة وعَرْضَ الجنة والنار عليه فيها ورؤيتَه لكل ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة ورؤيتَه الأمّة تفتنُ في قبورها وخطبتَه هذه الخطبة البليغة وأمرَه أُمَّتَه إذا رأوا كسوف الشمس أو القمر أن يفزعوا إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والتكبير والصدقة وأمرَه بالعتق؛ كلُّ هذا يدل دلالة واضحة على عظم الكسوف، وأن صلاة الكسوف مؤكدة جدا حتى إن بعض العلماء قال إنها واجبة وأن من لم يصلها فهو آثم وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنها فرض كفاية.

أيها الإخوة؛ صلى نبيكم صلى الله عليه وسلم ركعتين؛ في كل ركعة ركوعان وسجودان؛ بقراءة جهرية؛ ومن فاتته الصلاةُ مع الجماعة فليقضِها على صفتها إلا أن ينجلي الكسوف، ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة؛ ومن فاته الركوع الأول فقد فاتته الركعة؛ لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة. أيها المسلمون؛ اعتبروا بآيات الله واتعظوا بها وأحدثوا توبة لعل الله  يتوب عليكم؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. اللهم إنا نسألك أن توفقنا لتعظيمِك والخوفِ منك، وأن ترزقنا الاعتبارَ بآياتِك والانتفاعَ بها؛ إنك جواد كريم برٌّ غفور رحيم.

الخطبة الثانية

أيها المسلمون فلقد سمعتم شيئا من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انتهى من صلاة الكسوف وسمعتم فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد أغير من الله أن يزني عبدُه أو تزني أَمَتُه، وهذا فيه إشارة إلى عظم الزنا؛ وأنه سبب للعقوبات التي ينذر الله عباده منها بهذه الكسوفات.

أيها المسلمون؛ إن الزنا مَحْقٌ للناس؛ فسادٌ في الأنساب، فسادٌ في المجتمع؛ فسادٌ في الأخلاق، ولذلك حذر الله منه ووصفه بالفاحشة فقال: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]، وأمر الله تعالى بإتلاف من زنى وهو محصن أن يرجم بالحجارة حتى يموت من الدنيا؛ لأنه عضو فاسد حيث زنى بعد أن من الله عليه بالنكاح. يجب علينا جميعا أن نكون حذرين من هذه الخصلة الذميمة وهذا الخلق السافل بأن نفعل كل ما يكون عونًا في القضاء عليه، ونبتعد عن  كل سبب يقرب منه لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [ الاسراء: 32].

إخوة الإسلام؛ إن للزنا أسباًا كثيرة منها ضعف الإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم:   «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» [صحيح البخاري: 2475]، لأنه لو كان مؤمنًا بالله وعظمته وما رتب على الزنا من عقاب لم يباشر الزنا، ولو تذكر عظمة الله ما جلس بين فخذ امرأة لا تحل له. ومن أسباب ذلك ما يُرى من تبرج النساء عند الخروج إلى الأسواق وغيرها إغراءً في اللباس والطيب مما يفتن الرجال، وكذلك الاختلاط بين الرجال والنساء في دوائر العمل والتعليم وغيرها، ولهذا يجب عليكم أنتم أيها الرجال وأنتم أصحاب المسؤولية وأنتم الذين قال الله فيكم {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34].

وقال فيكم رسوله صلى الله عليه وسلم:   «الرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته» [صحيح البخاري: 893]، يجب عليكم أن تمنعوا نساءكم من الخروج على هذه الأوجه المحرمة. ومن أسباب الزنا أيضًا ما يشاهد في كثير من الفضائيات وغيرها من التفسخ والتعري مما يدعوا إلى الفساد والانحلال ويشجع على الفواحش، فاحذروا أيها المسلمون كلَّ أسبابِ الزنا فإنه فساد الديار وهلاك الأمم. احذروا على أنفسكم وعلى من ولاكم الله أمرهم. فإنكم مسؤولون عن هذا أمام الله، وما بينكم وبين هذه المحاسبة إلا الموت الذي يأتي بغتة.

اللهم عافنا ومجتمعاتنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين. اللهم لا تؤاخذنا بسوء أعمالنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا. اللهم تب على التائبين اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

 

المقال السابق
[122] الفتوى بغير علم والفتاوى الشاذة
المقال التالي
[124] الكعبة