خطب مختارة - [124] الكعبة
هذه هي الكعبة التي ابتناها الخليل عليه السلام، وتعبّد فيها وإليها عبر القرون تعبد خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى . بناها الخليلُ، وبعث حولَها محمدٌ، وهما خير البشرية عليهما السلام، ويهدمها شِرِّيرٌ من أشرار الناس عند فسادهم، وذهاب أهل الإيمان. وبين البناء والهدم تاريخ للكعبة حافل بالأحداث، مليء بسير الرسل والصحابة والعلماء والدعاة الطائفين والعاكفين في ساحات الكعبة، وأخبار العُبَّاد والصالحين والركع السجود المجاورين عندها.
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين؛ جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنًا؛ يثوبون إليه من بلدانهم لعبادة ربهم سبحانه، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وأهليهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا شعائره وحرماته، والتزموا أمره ونهيه، وقفوا عند حدوده، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32].
عباد الله: للبشر على اختلاف أجناسهم وأديانهم شعائرُ يعظمونها، ومعتقداتٌ يوقنون بها، وأزمنةٌ ينتظرونها، وأماكنُ يقدسونها.
وشَرُفت أمةُ الإسلام عن سائر الأمم بأنها أمة عظَّمت ما يستحق التعظيم، وقدَّست ما هو جدير بالتقديس، بالطريقة المشروعة، فهُدِيت للمعتقد الصحيح، وجانبت ما سوى ذلك من الباطل؛ فكانت أمةً معصومة من الاجتماع على الجهل أو الهوى.
وإن أشرف بناءٍ في قلوب المسلمين الكعبةُ المشرفة، وبقعتُها أقدس البقاع؛ فإليها تهوي أفئدتهم، وإليها تَحِنُّ نفوسُهم، وبمشاهدتها تتحرك مشاعرهم، وترق قلوبهم.
كم من دعوات رفعت حولها!! وكم من عبرات سكبت أمامها!! وكم من قلوب تقطعت تريد بلوغَها والتعبدَ عندها!! يُرَخِّصُ المؤمنُ كلَّ شيء من الدنيا ليصل إليها.
الكعبة وما الكعبة ؟! هي ذلكم البناء القديم، والبيت العتيق، أول بيت وضع للناس، وأول بناء للعبادة بُني على الأرض، رفع الخليلُ وابنُه عليهما السلام بنيانَه، ووضعه على أساس كان موجودًا قبله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ} [الحج:26]، ابتناه الشيخُ وابنُه الشابُّ حتى أتماه وأحكماه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة:127]، فتتابعت أجيال على التعبد فيه، وطافت به أممٌ تِلو أمم .
انفردت الكعبة بأن التعبد عندها تعبد بحق، والطواف حولها طواف بحق، واستقبالها استقبال بحق: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة:149].
كما امتازت الكعبةُ بأنها تَضْرِب في عمق التاريخ البشري، لم يتغير مكانُها، ولم يُطمر تاريخُها، ولم يتخذِ المؤمنون بناءً غيرها، ولم يختلفوا عليها، ولم يملوا من التوجه إليها، وكلُّ مؤامراتِ هدمِها أو صرفِ الناس عنها باءت بالفشل الذريع؛ فالكعبة هي الكعبة منذ زمن الخليل إلى يومنا هذا، وإلى أن ينـزل المسيحِ عيسى ابنُ مريم فيطوف بها.
ذكر أهل التواريخ أنها انهدمت مرة فبناها العمالقة، وانهدمت أخرى فبنتها جُرهم، وكانت العرب تعظمها وتكسوها؛ كما أخبرت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فقَالَتْ: « » [صحيح البخاري: 1592].
وأشهر ما نُقل في ذلك أنها احترقت أو هدمها السيل والنبي صلى الله عليه وسلم في ريعان شبابه قبل أن يبعث بالنبوة، فوهت أركانها، فهدمتها قريش بعد ترددٍ؛ خوفًا من العذاب، وأعادت بناءها، حَتَّى إِذَا ابْتَنَوْا فَبَلَغُوا مَوْضِعَ الرُّكْنِ اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ؛ أَيُّ الْقَبَائِلِ تَلِي رَفْعَهُ؟! حَتَّى كَادَ يُشْجَرُ بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: تَعَالَوْا نُحَكِّمْ أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، فَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَكَّمُوهُ، فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ أَمَرَ سَيِّدَ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَأَعْطَاهُ نَاحِيَةَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَرَفَعُوا إِلَيْهِ الرُّكْنَ فَكَانَ هُوَ الذي وضعه.
وقبل هذه الحادثة بخمس وثلاثين سنة ابتنى أبرهة كنيسةً وزيّنها وأحكمها، أراد أن يحولَ الناس إليها بدل الكعبة، وأمر العرب بقصدها في الحج، فلم يحجوا إليها، بل أحدث بعضهم نجاسة فيها؛ لأنهم رأوا أن الكعبة بيت الله المعظم، قد توارثوا تعظيمه منذ زمن الخليل عليه السلام، فعَظُمَ في نفوسهم أن تزاحَم الكعبةُ بغيرها، فسيّر أبرهة جيشًا عظيمًا لهدمها جَبُنَت قريشُ عن مواجهته ففرت في الجبال، فانتصر الله تعالى لبيته، وأهلك أبرهةَ وجندَه، وجاء خبر ذلك في سورة الفيل.
وسار تبّعُ اليماني إلى الكعبة يريد هدمها، فهاجت عليه ريح ردته عنها حتى ثاب إلى رشده، وتاب عن قصده.
لقد حفظها الله تعالى بيتًا لعبادته، وقبلة لصلاته، ومقصدًا لنسكه: {جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97].
وفي أول الإسلام كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم لبيت المقدس حتى نزل قول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فكانت الكعبة قبلةَ المسلمين إلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله تعالى.
فزادها ذلك تعظيمًا وتشريفًا حين صيّرها الله تعالى قبلة للمسلمين، فيتوجهون إليها من كل أقطار الأرض، فهي تستقبل في كل صلاة، سواء كانت فرضًا أم كانت نفلاً، وسواء صليت جماعة أم فردًا.
وبنيت مساجدُ المسلمين في كل الأرض على اتجاه واحد هو اتجاه الكعبة، ومن يصلي في البنيان أو في العراء يستقبلها، وأهم سؤال يشغل المسلمَ إذا سافر إلى أي بلد من بلدان العالم سؤالُه عن اتجاه الكعبة.
والذبيحة توجه للكعبة تقربًا إلى الله تعالى بذبحها، والميت يوضع في قبره فيوجه للكعبة، وقد جاء في الحديث أنها قبلة المسلمين أحياءً وأمواتًا، والداعي يستقبلها في دعائه، وفضلت الصلاة في المسجد الذي حوى الكعبة بمائة ألف صلاة عما سواه من المساجد، وينسب المسجد إليها، فيقال: مسجد الكعبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مسجده في المدينة: « » [صحيح مسلم: 1396].
ومن تشريف الله تعالى للكعبة أنها لا تستقبل في قضاء الحاجة مهما كان الإنسان بعيدًا عنها، كما في حديث أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «
» [صحيح مسلم: 264].ومادامت هذه الأمة تعظمها فهي على خير، ولا يزول الخير عنها إلا بزوال تعظيم الكعبة من قلوبهم؛ كما جاء في الحديث: «
».وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغرس تعظيم الكعبة، واحترام حرمتها، والحفاظَ على قدسيتها في قلوب أصحابه رضوان الله عليهم.
نسأل الله تعالى أن يحرسها، وأن يدحر أعداءها، وأن يرزقنا تعظيمها، وأن يحفظ عمَّارها، وأقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
عباد الله: ما فضلت الكعبة لجمال جدرانها، أو ثمنية بابها وميزابها، أو فخامة كسوتها، فكل ذلك يوجد ما هو أفخم منه وأجمل وأعلى ثمنًا، وإنما فضلت الكعبة لموضعها، فقد جعله الله تعالى مباركًا، وفضّله على غيره من البقاع، وشَرَعَ فيه عبادةً تخصه كالطواف به، وتقبيلَ الحجر الأسود؛ ولذا قال الفقهاء: لَوْ زَالَتْ الْكَعْبَةُ -وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- صَحَّتْ الصَّلاةُ إلَى مَوْضِعِها.
والظاهر من الأحاديث أن الكعبة تبقى إلى آخر الزمان، ويرد الله تعالى عنها عدوان المعتدين، ويردهم على أعقابهم خاسرين، كما في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صحيح البخاري: 2118].
» [ويطوف بها المسيح ابن مريم عليهما السلام بعد نزوله وقتله الدجال كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « » [صحيح البخاري: 5902].
فإذا انتهى زمن المسيح عليه السلام وقبضه الله تعالى إليه، وفسد الناس، هدم الأحباش الكعبة، يهدمها رجل منهم، جاءت صفته في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «
» [صحيح البخاري: 1596]. وقَوْله: ( ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ ): تَصْغِيرُ السَّاقَيْنِ، صَغّرَهُمَا لِدِقَّتِهِمَا وَحُمُوشَتِهِمَا. وفي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « » [صحيح البخاري: 1595]).وفي حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «
» [صحيح البخاري: 1596]هذه هي الكعبة التي ابتناها الخليل عليه السلام، وتعبّد فيها وإليها عبر القرون تعبد خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى . بناها الخليلُ، وبعث حولَها محمدٌ، وهما خير البشرية عليهما السلام، ويهدمها شِرِّيرٌ من أشرار الناس عند فسادهم، وذهاب أهل الإيمان. وبين البناء والهدم تاريخ للكعبة حافل بالأحداث، مليء بسير الرسل والصحابة والعلماء والدعاة الطائفين والعاكفين في ساحات الكعبة، وأخبار العُبَّاد والصالحين والركع السجود المجاورين عندها.
هذه قبلتكم -يا أمة محمد- لتفاخروا بها، وتتوجهوا إليها بقلوبكم كما توجهت إليها أجسادكم في صلواتكم، فتحققوا العبودية في أعلى درجاتها، وأسمى معانيها، فأروا الله تعالى من أنفسكم خيرًا، واعملوا في شهركم المقبل برًّا {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة:27].
- التصنيف:
- المصدر: