بم نستقبل خير أيام الدنيا؟

منذ 2016-09-01

حري بالمسلم أن يستقبل هذه العشر بالتوبة الصادقة. ذلك أنه ما حُرِمَ أحد خيرًا إلا بسبب ذنوبه، سواء كان خيرًا دينيًا أم دنيويًا..ومن أعظم المصائب التي يصاب بها العبد أن يُحرَم من استغلال هذه المواسم المباركة؛ فالذنوب هي السبب في حرمان العبد فضل ربه عز وجل.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فخير ما نستقبل به عشر ذي الحجة من الأعمال ما يأتي:

1- مقاصد النية بإخلاص العمل لله وحده:

فأول عملٍ يجب على الإنسان أن يستحضره هو إخلاص النية لله عز وجل في جميع عباداته، وأن لا ينوي بعبادته إلا وجه الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»[1].

وهذا هو الذي أمر به الله عز وجل في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة من الآية:5]؛ أي: مخلصين له العمل. وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا . كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:18-19].

فالإخلاص لله عز وجل شرط لقبول أي عملٍ من الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه عز وجل؛ ولذلك حرصنا على التذكير به ونحن مقبلون على هذا الموسم المبارك لنجدد النية ونخلصها لرب البرية؛ لأنه تبارك وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغى به وجهه سبحانه وتعالى؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»[2].

ولنحذر مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو الرياء، ففي صحيح البخاري من حديث جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ»[3].

نسأل الله أن يرزقنا الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال والأحوال إنه ولي ذلك والقادر عليه.

2- التوبة الصادقة:

حري بالمسلم أن يستقبل هذه العشر بالتوبة الصادقة. ذلك أنه ما حُرِمَ أحد خيرًا إلا بسبب ذنوبه، سواء كان خيرًا دينيًا أم دنيويًا، يقول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى من الآية:30]. ومن أعظم المصائب التي يصاب بها العبد أن يُحرَم من استغلال هذه المواسم المباركة؛ فالذنوب هي السبب في حرمان العبد فضل ربه عز وجل.

وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ذكر جزءًا منها العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي):

"أولها: حرمانُ العلم، فإن العلم نورٌ يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.

ثانيها: حرمان الرزق: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»[4]، وكما أن تقوى الله عز وجل مجلبة للرزق، فترك التقوى مجلبة للفقر، فما استجلب رزق الله عز وجل بمثل ترك المعاصي.

ثالثها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة، يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهمّ[5].

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنةِ ضياءً في الوجه ونورًا في القلب وسعةً في الرزق وقوةً في البدن ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق".

رابعها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه.

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم"[6].

وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج من الآية:18]، وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيءٍ وأهونه.

خامسها: أن العبد لا يزال يرتكب الذنب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه؛ وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله.

وقد ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا»[7].

سادسها: أن المعصية تورثُ الذل ولا بُدّ؛ فإن العز كل العز في طاعة الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر من الآية:10] أي: فليطلبها بطاعة الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته.

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء»[8].

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إنهم وإن طقطقت[9] بهم البغال وهملجت[10] بهم البراذين[11]، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".

وقال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-:

رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ *** وقد يورثُ الذُّلَّ إدمانُها
وترك الذنوبِ حياةُ القلوبِ *** وخيرٌ لنفسِكَ عِصيَانُهَا

سابعها: أن الذنوب إذا تكاثرت طُبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال بعض السلف في قوله تعالى: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] قال: هو الذنب بعد الذنب.

وكما أن للذنوب آثارًا فإن لها عقوبات أيضًا فمنها:

أولًا: ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خيرٍ، وذهابه ذهاب الخير أجمعه.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحياء خير كله»[12].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت»[13].

ثانيًا: أنها تستدعي نسيان الله عز وجل لعبده وتركه، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، وهناك الهلاك الذي لا يُرجى معه نجاة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19].

ثالثًا: أنها تُزيل النِعم وتُحل النِقم.

قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].

وقال الله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال من الآية:53].

وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد من الآية:11].

ولقد أحسن القائل:

إذا كنت في نعمةٍ فارعَها *** فإن المعاصي تُزيلُ النِّعَمْ
وحُطها بطاعةِ ربِّ العبادِ *** فرَبُّ العبادِ سريعُ النِّقْم

رابعًا: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذمِّ والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمتقي والمطيع وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء والمفسد والخبيث.

فهذه أسماء الفسوق و{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} [الحجرات من الآية:11].

خامسًا: أنها تمحق بركة العُمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة.

وبالجملة فالذنوب تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركةً في عُمره ودينه ودنياهُ ممن عصى الله عز وجل، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق.

قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].

وفي الحديث: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ»[14]

سادسًا: أنها تجرئ على العبد من لم يكن يتجرأ عليه من أصناف المخلوقات.

قال بعض السلف رحمه الله تعالى: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي"." ا.هـ.[15].

 

والتوبة في الأزمنة الفاضلة لها شأن عظيم، لأن الغالب إقبالُ النفوس على الطاعات ورغبتها في الخير، وإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح، مع أعمال فاضلة في أزمنة فاضلة فهذا عنوان الفلاح، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67].

3- طلب العون من الله عز وجل على اغتنام هذه الأيام:

وذلك بالعزم الصادق الجاد على اغتنامها وعمارتها بما يرضي الله عز وجل فمن جدّ واجتهد أعانه الله، ومن صدق الله صدقه الله سبحانه وتعالى وهيأ له الأسباب الموصلة إلى الخير وأعانه عليها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

__________________________

* انظر لفضيلة الشيخ: (وجاءت العشر) من إصدارات مدار الوطن.
[1]- رواه البخاري [1]، ومسلم [1907] واللفظ له.
[2]- رواه مسلم [2985].
[3]- رواه البخاري [6499] باب: الرياء والسمعة -نعوذ بالله من ذلك-.
[4]- رواه الإمام أحمد في المسند [22874].
[5]- ادلهمَّ: كثفَ واسوَدَّ. انظر اللسان: [12/206].
[6]- نسبه له ابن الجوزي في [ذم الهوى]: وابن القيم في غير كتاب، ورواه ابن بطة في الإنابة: [2/293]، ط.الراية عن يحيى بن معاذ الرازي مثله، ورواه أبو نعيم في الحلية: [9/261] عن أبي سليمان الداراني.
[7]- رواه البخاري: [6308].
[8]- رواه الترمذي: [3591]، وهو في صحيح الترمذي: [3591].
[9]- الطقطقة: صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة. انظر: اللسان (مادة: طقطق).
[10]- الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة. انظر اللسان (مادة: هملج).
[11]- البراذين: جمع برذون وهو غير العربي من الخيل والبغال. المعجم الوجيز، ص: [44].
[12]- رواه مسلم، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه [37].
[13]- رواه البخاري، من حديث أبي مسعود عقبة رضي الله عنه [3484].
[14]- صحيح الجامع [2085].
[15]- الداء والدواء لابن القيم -رحمه الله- بتصرف.

Editorial notes: في الهامش رقم[7]: ذكر الكاتب الحديث بالصيغة الواردة في جامع الترمذي [2497]: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه فقال به هكذا فطار». الهامش رقم[14] ذكرالكاتب الحديث بهذا اللفظ: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإنه لا يُنال ما عند الله إلا بطاعته، وإن الله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحُزن في الشك والسُّخط» ولم نجد الحديث بهذه الصيغة.

سليمان بن جاسر الجاسر

المشرف العام على مركز واقف (خبراء الوصايا والأوقاف)