حوارات إلهية!
أليس يحتشد في القرآن عدد ضخم من محاورات الله للملائكة؟ ولآدم وزوجه؟ وللنبيين من بعده؟ ومثل ذلك مع الصديقين، والشهداء، والمؤمنين. ومع الضالين والمشركين منه ما مضى وانقضى، ومنه ماهو آتٍ يوم القيامة؟
قال قَتَادَةُ: "لَمَّا أُهْبِطَ إبْلِيسُ
قال: رَبِّ لَعَنَتْنِي، فَمَا عَمَلِي؟
قال: السِّحْرُ
قال: فَمَا قُرْآنِي؟
قال: الشِّعْرُ
قال: فَمَا كِتَابِي؟
قال: الْوَشْمُ
قال: فَمَا طَعَامِي؟
قال: كُلُّ مَيْتَةٍ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
قال: فَمَا شَرَابِي؟
قال: كُلُّ مُسْكِرٍ
قال: فَأَيْنَ مَسْكَنِي؟
قال: الْأَسْوَاقُ
قال: فَمَا صَوْتِي؟
قال: الْمَزَامِيرُ
قال: فَمَا مَصَائِدِي؟
قال: النِّسَاءُ".
(ذكره عبد الرزاق في (المصنف)، والسفاريني في (غذاء الألباب)، ورواه الطبري في (تهذيب الآثار)، والطبراني، وابن أبي الدنيا عن أبي أمامة مرفوعاً، وفي سنده (علي بن زيد الألهاني): متفق على ضعفه، وقال ابن القيِّمِ في إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: "الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا وَقْفُهُ").
قرأت قديمًا كتبًا في الحوار وضرورته، ووجدت بعضهم يستدلون بأن الله (حاور) إبليس.. تساءلتُ في نفسي: هل يسمى ما ورد في القرآن بهذا الشأن حوارًا؟ ولم لا يسمى حوارًا؟ وما هو الحوار؟
أليس نوعًا من الترادّ والتراجع في القول؟ وقريب منه الجدال، والمؤمن يجادل ربه يوم القيامة؛ كما في الصحيح. أليس يحتشد في القرآن عدد ضخم من محاورات الله للملائكة؛ في قصة آدم، وفي غيرها؟ ولآدم وزوجه؟ وللنبيين من بعده: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وأيوب، وسليمان؟ ومثل ذلك مع الصديقين، والشهداء، والمؤمنين. ومع الضالين والمشركين من ذرية آدم، ومن بني إسرائيل، ومن غيرهم، منه ما مضى وانقضى، ومنه ما هو آتٍ يوم القيامة: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات:24].
ماذا يسمى هذا النص؟
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ . قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ . قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ . قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ . قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا} [الأعراف من الآيات:12-18].
الله يُمهل الشيطان، ويسأله -وهو أعلم- ويسمع جوابه ومغالطاته، ويرى كبرياءه ويصبر عليه، وبيده إهلاكه فورًا! الله يستجيب لطلبه بالإمهال والإنظار إلى يوم القيامة، ويستمع إلى تَحَدِّيه ووعيده لذرية آدم، ويجيب بقوله سبحانه: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف من الآية:18].
غاب المنطق عن إبليس، وبقي الحوار يُعلِّمنا كيف نصبر على طيش الخصوم، كيف نقيم الحجة بهدوءٍ وتروٍّ، كيف نسعى لإظهار الحق على لسان الخصم، وليس لمجرد الإفحام والتوريط، وتدوين الهزيمة والفشل، كيف نُوصِّل المعلومة الصحيحة بالحوار، ونستخدم الإقناع بدل التلقين، كيف نصغي لمحدثنا ولو كان يقول ما لا يستحق الإصغاء، كيف نتيقّظ لألاعيب الكلام ومخادعاته، كيف نتوقف عن الحوار حين يتحول من الحجة -ولو كانت واهية أو باطلة- إلى التهديد والوعيد.
وفي شأن آدم وحواء:
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ . قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [الأعراف من الآيات:22-24].
عتاب محب، وجوابُ معترف.
الحوارات الإلهية سؤال ممن يعلم السر وأخفى، ويعلم وسوسة النفس، والأمس واليوم والغد عنده سواء. وهو يُربِّي خلقه على التعبير عن دخيلة نفوسهم ومشاعرهم، والكشف عن بواطنهم؛ أكانت صدقًا مطابقًا للأمر، أم توهُّمًا، أم كذبًا، أم ادعاءً؛ لأن حكمته اقتضت أن يكون الثواب والعقاب والرفع والخفض بموجب ما يحدث من الناس وليس بموجب العلم الإلهي السابق، ولذا خلق الناس ومنحهم الإرادة، وأعطاهم الخيار.
دعوة الأنبياء كانت حوارًا بالتي هي أحسن، وصبرًا على الأذى، لم يكن فيها تطميع بعاجل الدنيا، وما كان فيها من وعد بالنصر فهو للحق والإيمان وليس لأحد بعينه.
سلمان بن فهد العودة
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-
- التصنيف:
- المصدر: