الرحى التي لا تطحن شيئاً
تونس لن تتقدم، شاء من شاء وأبى من أبى، وتونس عليها مراجعة هويتها وقيمها، والعزم على توبة أخلاقية تتم بها مصالحة مع السماء، وساعتها أبشروا بالنصر والظفر. هذا الكلام أعرف جيداً أن الساسة لا يفهمونه، وأن البعض لا يستسيغونه، وأنه ربما يكون نشازاً في عالم السياسة الذي لا يفهم غير لغة المصالح، بل سيقول عني البعض أنني مغيب مجنون، ولكني مجنون -بزعمكم- تربى على قول الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا صلاح أمرك للأخلاق مرجعه … فقوّم النفس بالأخلاق تستقم إذا أصيب القوم في أخلاقهم … فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
قال الرئيس التونسي السابق ورئيس حزب «حراك تونس الإرادة» المعارض محمد المنصف المرزوقي إنّ "ديمقراطية بلاده مغشوشة ومهددة"، منتقداً بشدة أداء الأحزاب الحاكمة التي تولت السلطة عقب الانتخابات التشريعية والرئاسية أواخر عام 2014.
وأكّد المرزوقي أنّ "الديمقراطية مهددة بتوافق سياسي مغشوش" في إشارة لحكومة الوحدة التي تشكلت قبل أيام بمبادرة من الرئيس الباجي قائد السبسي خلفاً لحكومة الصيد.
وأضاف أنّ "هناك محاولة لتسويق صورة خاطئة عن تونس في الخارج بكونها الاستثناء، لكن الحقيقة غير ذلك، فالثورة قد أجهضت بشكل ناعم"، على حد تعبيره.
وتابع: "أنا كمعارض سياسي أنبه العالم الخارجي بأن الصورة التي يسوقونها على تونس خاطئة فالديمقراطية مغشوشة ومهددة".
وانتقد المرزوقي بشدة تعاطي الأحزاب الحاكمة مع الأوضاع الاقتصادية التي زادت تدهوراً بسبب "تفاقم المديونية وغياب التنمية وانتشار الفساد"، على حد تعبيره.
وكلام المرزوقي واقع متوقع، أما توقعه لأن تونس لم تأخذ بمقومات النهضة التي تقوم عليها الدول، وبالأخص المعايير الدينية والأخلاقية، تزامنا مع المعايير السياسية والاقتصادية، وهذا الذي تعمد المرزوقي غض الطرف عنه بحكم ليبراليته المفرطة، حيث ينادي المرزوقي -مثل سائر الليبراليين- "بضرورة فصل الدين عن الدولة لأن كل تجربة تاريخية لكل الشعوب تثبت أن المزج بينهما دوماً يقع لصالح الدولة التي تستعمل الدين كغطاء للاستبداد، فالدولة بطبيعتها سياسية والسياسة صراع مصالح، والدين داخل هذه المنظومة ليس سوى ورقة في يد الفرق السياسية".
وإذا تطرقنا لحالة المجتمع التونسي نجد العجب العجاب لبلد المفترض أنه عربي مسلم، لكنه في حضيض المنظومة الدينية وأخلاقية –إلا من رحم الله- مما جعلها في جفوة بينها وبين السماء، وسلبت التوفيق الذي لن تناله إلا برضا العزيز الرحيم، مدبر الأمر، وموفق أهل طاعته، ومذل أهل معصيته.
لقد كانت السنوات الأخيرة التي تلت ثورة يناير 2011 في تونس، أصعب فترة على المستوى الاقتصاديّ، إذ تدهورت مؤشّرات الاستهلاك والإنتاج في كل القطاعات، نتيجة ارتفاع الأسعار وتآكل القدرة الشرائيّة للمواطن. غير أن الكحول والسجائر حصراً حافظت على عرشها في سلمّ الاستهلاك، وهو ما أثبتته منشورات حكومية ودولية كان آخرها التقرير الصادر عن منظمّة الصحّة العالميّة. فقد رصد نسق استهلاك الجعة والخمور في مختلف دول العالم، حيث جاءت تونس في صدارة الدول العربيّة بمعدلّ استهلاك سنويّ تجاوز 26 لتراً للفرد الواحد، بل تفوّقت على دول أوروبيّة، كفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
وبعكس جيرانها الأوروبيّين، لم تفرّط الدولة في هذا القطاع، بل تمسّكت باحتكار إنتاجه وتوزيعه ليتحوّل إلى أحد أهمّ موارد الدولة وآلية أساسيّة في تعديل عجز الموازنات العموميّة.
كما أكدت «الغرفة الوطنية التونسية، لمنتجي وموزعي المواد الكحولية» أن مليوني تونسي من بين "سكان تونس البالغ تعدادهم 11 مليون نسمة" يستهلكون 200 مليون قارورة خمر، و300 مليون علبة وقارورة جعة سنويًّا.
وفي تونس الدعارة ليست من المحرمات، فالقبلات والمداعبات بين الجنسين متاحة في شوارع العاصمة دون خجل، وفي أزقة المدينة العتيقة بالعاصمة تونس، وبالقرب من جامع الزيتونة، محلات بغاء رسمية تحتل زقاق «عبد الله قش»، وظاهرة الدعارة بشكل علني ظاهرة نادرة في بلد عربي.
لقد ألهم محل البغاء السينما التونسية أفلاماً جعلت منه مكاناً مميزاً مفعماً بالأحلام، وفي السابق حين لم تكن الحريات الجنسية متوفرة بقدر كبير، كان المكان مثالياً للتجارب الجنسية الأولى للشبان، لكنه اليوم صار معظم رواده من الطبقة الكادحة، ممارسة البغاء قانونية في عبد الله قش، وفرق صحية تعتني بالمومسات.
مهنة المومس في بطاقة الهوية الوطنية «موظفة في وزارة الداخلية»، وأغلبيتهن في الأربعين من العمر تقريباً، فقراء المنشأ. تعرفهم المصالح البلدية جيداً، وتوفر لهن بانتظام مراقبة وخدمات صحية.
ولعل أكثر ما يثير الدهشة هو مهنة «موظفات في وزارة الداخلية» التي تحملها بطاقات هويتهن لتفادي تعرضهن للمضايقة، ولتسهيل أمورهن الإدارية. ويقال أنهن في المقابل مصدر وشاية للشرطة، كما تدفع المومسات ضرائب، وهذا النظام فريدٌ من نوعه في العالم العربي.
وبعض الفتيات التونسيات وجدن في ما يعرف بـ «رتق العذرية» أحد الحلول لتجاوز الممارسة الجنسية قبل الزواج وللالتفاف على رغبة الرجل التونسي في الزواج من شابة بكر، وهلعه من أن يتفطّن بُعيد الزواج بأن قرينته ليست عذراء، ولا تتطلّب عملية زرع البكارة الاصطناعية في تونس مالاً كبيراً، إذ تتراوح بين 400 إلى 700 دينار.
المرزوقي وسائر الليبراليين والعلمانيين لا يستسيغون مثل هذا اللون من النقد، خاصة وأن الرجل ربيب فرنسا طيلة 15 سنة، حيث تقدس العلمانية الغربية الحريات لدرجة الجنون، وبلا ضابط ولا حد، وترى أن المنظومة الأخلاقية والدينية عفا عليها الزمن، وأنها نوعاً من القيود والرجعية.
فمتى يفهم هؤلاء أننا أمة لا قوام لها إلا بالدين، ولا وحدة لها إلا باليقين بشرع رب العالمين، وأن نهضتها معقودة بأخلاقها، وأن بهرج الحضارة الغربية يحمل في طياته عوامل فنائه وانهياره.
إن التجربة التاريخية –التي يغالط حولها المرزوقي- لخير شاهد على حيوية الدين الإسلامي في تجميع المفترق، وتوحيد المتنافر، ورفع المتهاوي، وعصر سليمان القانوني ومحمد الفاتح، وصلاح الدين، ويوسف بن تاشفين، ونصر عين جالوت، وأكتوبر 73 وغيرها وغيرها من المفاخر التي تناساها الليبراليون.
وهل تجربة أردوغان الفريدة بتركيا اليوم إلا تجربةٌ إسلامية بامتياز، وتفرد في زمن الانبطاح العربي، وهل الدين إلا مراعاة الحقوق وأداء الواجبات، وبسط العدل على الكبير والصغير والغني والفقر، ومجافاة الفساد والرشوة والمحسوبية واحتكار السلطة، ونبذ الظلم بكافة أنواعه حتى ولو من قبل الطوائف والأقليات الأخرى.
إن الفكر الليبرالي يتجاهل عن قصد قوة التيار الإسلامي بالشارع العربي، وقدرته من منطلق عقيدته الراسخة في حكم شرع الله على تجاوز كبوات الأمة، وإلا فمن كان يملأ ميدان التحرير بمصر بملايين من أنصاره سوى التيار الديني، وحدث عن حشود رابعة، واكتساح الإسلاميين للانتخابات في الجزائر ومصر ولكن يد البطش لم تسلم لهم سلطةٌ ولم تعط لهم فرصة.
لاشك أن هناك معركة شرسة على التيار الإسلامي، لكن المؤسف أن الليبراليين العرب طرفاً فيها، في وقتٍ نحن في أمس الحاجة للوحدة والتآلف، والمرزوقي نفسه لما سجن أربعة أشهر أفرج عنه بوساطة وتدخل من مانديلا الذي لم يتحرك للوساطة للإفراج عن الشيخ الفاضل «علي القطان» الذي قال لمبارك اتق الله فسجنه الطاغية 15 سنة ظلما وعدوانا، لم يتحرك مانديلا لأن السجين مسلم محسوب على التيار الإسلامي، ولم يتحرك العالم تجاه مذابح بورما لأن الضحايا مسلمين، ولم يتحرك العالم لإنقاذ سوريا خشية وصول الإسلاميين للحكم وتهديد أمن إسرائيل، ولم يتحرك العالم لاستقرار ليبيا خوفا من الإسلاميين.
تونس لن تتقدم، شاء من شاء وأبى من أبى، وتونس عليها مراجعة هويتها وقيمها، والعزم على توبة أخلاقية تتم بها مصالحة مع السماء، وساعتها أبشروا بالنصر والظفر.
هذا الكلام أعرف جيداً أن الساسة لا يفهمونه، وأن البعض لا يستسيغونه، وأنه ربما يكون نشازاً في عالم السياسة الذي لا يفهم غير لغة المصالح، بل سيقول عني البعض أنني مغيب مجنون، ولكني مجنون -بزعمكم- تربى على قول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه … فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
إذا أصيب القوم في أخلاقهم … فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: