تكميم الفضائيات
منذ 2010-10-18
لم يكن القرار بوقف بث قنوات فضائية معظمها إسلامية على "النايل سات"، مفاجئًا للمتابعين للتطورات الأخيرة على الساحة الإعلامية، والمؤشرات البادية على دخول الإعلام الفضائي عامة، والإسلامي منه بخاصة، مرحلة تكميم الأفواه..
لم يكن القرار بوقف بث قنوات "الناس" و"الخليجية" و"الحافظ" و"الصحة والجمال"، ومن قبلها قناة "البدر"، ومعظمها فضائيات إسلامية على "النايل سات"، مفاجئًا للمتابعين للتطورات الأخيرة على الساحة الإعلامية، والمؤشرات البادية على دخول الإعلام الفضائي عامة، والإسلامي منه بخاصة، مرحلة تكميم الأفواه، وبعد أن جرت تهيئة الساحة لذلك، من خلال حرب ضروس شنها إعلام "ماسبيرو"، كان الذارع الطولى فيها لبرنامجه المدلل "مصر النهاردة"، مستهدفًا اختلاق المبررات أمام الرأي العام قبل استصدار قرارات "الذبح" و"التصفية"، بعد أن ألصق بالفضائيات الإسلامية تهمة إشعال فتيل التوتر الطائفي في مصر على مدار الأسابيع الماضية، وغض الطرف عن "الجاني" الذي أشعل نار "الفتنة الطائفية" ووضع البلاد على شفا مواجهة طائفية.
لا يمكن إنكار وجود آراء حتى بين الإسلاميين تبدي تحفظات على الأداء والخطاب الإعلامي للفضائيات الإسلامية عمومًا، وهذا شأن أي عمل إعلامي لا يحظى بالإجماع من المشاهدين، إلا أنها في المجمل شكلت حالة إيجابية برأي الكثيرين، أثرت فيها الدعوة الإسلامية، وأتاحت للمشايخ والدعاة الإطلال على جمهور عريض يقدر بالملايين، واستطاعت أن تترك خلال سنوات قليلة بصمة كبيرة في نفوس المشاهدين، وهو ما يمكن تلمس أثره بوضوح داخل كثير من البيوت، بعد أن أسهمت المنابر الفضائية الإسلامية في اجتذاب شريحة واسعة من المشاهدين لم يكن معظمهم من رواد المساجد التقليديين، وخلقت حالة من الوعي والتثقيف الديني لدى العامة والبسطاء.
غير أن ذلك لا ينفي وجود حالة من التضييق الشديد والضغوط المتصاعدة على الفضائيات الإسلامية، وصلت إلى حد التدخل في رسم خريطة برامجها، والإيعاز إليها بإبعاد هذا الشيخ أو ذاك، وفرض أشخاص بعينهم كضيوف على برامجها، لكنها مع ذلك استطاعت أن تتواءم مع تلك الظروف، من أجل الاستمرار في أداء رسالتها، وليس ببعيد ما واجهته قناة "الرحمة" ذائعة الصيت والتي يشرف عليها الشيخ محمد حسان من ضغوط استهدفت إغلاقها، وتوقف بالفعل بثها على "نايل سات" في مايو الماضي، بدعوى معاداتها للسامية وازدراء اليهود، كما زعم المجلس الفرنسي للسمعيات والبصريات في مبرراته لطلب الإغلاق، وعلى الرغم من أنها عادت للبث عبر القمر الأردني "نورسات" تحت اسم "نسائم الرحمة"، إلا أن الضغوط عليها وغيرها من القنوات الإسلامية لم تنقطع.
وهذا ربما يفسر التعاطي الحذر للفضائيات الإسلامية وابتعادها كثيرًا عن الخوض في القضايا الشائكة، على الرغم من الانتقادات التي تواجهها لهذا السبب، لكنها لم تستطع الصمت تجاه المس بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بيديه ولا من خلفه، فعندما زعم الأنبا بيشوي، الرجل الثاني بالكنيسة الأرثوذكسية في مصر، تعرض القرآن الكريم للتحريف، بعد أيام من حديثه عن المسلمين في مصر بأنهم "ضيوف" على الأقباط "أصل البلد"، في ذروة الجدل حول احتجاز كاميليا شحاتة، زوجة كاهن دير مواس المحتجزة داخل الكنيسة منذ أواخر يوليو، على خلفية توجهها إلى الأزهر لتوثيق إسلامها، كان من الضروري أن تبادر إلى اتخاذ موقف تجاه تلك الاستفزازات المتتالية، والتعبير عن رد فعل مناسب حيالها، وإلا فقدت رسالتها ومصداقيتها أمام المشاهدين.
خاصة وأن الأزمة التي تفجرت في مصر على خلفية مواقف الكنيسة اكتسبت بعدًا شعبيًا واسعًا جعل من الصعب على أي وسيلة إعلامية غض الطرف عن الخوض فيها، مع خروج العديد من التظاهرات أمام المساجد الكبرى منددة بموقف الكنيسة، وقد هب العلماء والشيوخ والمثقفون الإسلاميون نصرة لدينهم وهويتهم، بعد أن أثارهم الأمر واستفزهم، وحتى المعروف عنهم خطابهم الهادئ وعلاقتهم الطيبة بالكنيسة لم يستطيعوا التزام الصمت والوقوف متفرجين، وخاضوا معركة لم يكونوا هم المبادرين فيها بالهجوم أو الطعن في عقيدة الآخر، كما يتم الترويج له.
لكن الفضائيات التي جاء موقفها دفاعيًا في المقام الأول، وجدت نفسها متهمة بإثارة الفتنة الطائفية، وغيرها من اتهامات وجهتها لها الكنيسة وروج لها الإعلام الحكومي في مصر، ممهدًا لمجزرة واسعة ضدها، بدأت بعد أيام من قرار وزير الإعلام المصري أنس الفقي بإعادة مراجعة الفضائيات التي تبث على "نايل سات" والتأكد من أنها تلتزم بتعاقداتها، وكانت البداية بقرار الشركة المصرية للأقمار الصناعة "نايل سات" في مطلع شهر أكتوبر وقف بث قناة "البدر"، التي انطلقت في عام 2007، كقناة دينية اجتماعية تبث برامجها من القاهرة، بذريعة مخالفة ضوابط وشروط الترخص لها، بينما السبب غير المعلن هو قيامها باستضافة مجموع من علماء الدين للرد على تجاوزات الأنبا بيشوي الرجل الثاني في الكنيسة بحق المسلمين والقرآن الكريم.
لم تمض عدة أيام على القرار الذي اعتبرته "المنظمة المصرية لحقوق الإنسان"- وهي منظمة حقوقية غير حكومية- يمثل انتهاكًا صارخًا للحق في حرية الرأي والتعبير المكفولة بمقتضى الدستور المصري والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، حتى صدر قرار مماثل بإيقاف بث أربع قنوات دينية أخرى، هي: "الناس" و"الخليجية" و"الحافظ" و"الصحة والجمال" إلى حين قيامها بتوفيق أوضاعها، وهو مؤشر على حرب لا هوادة تخوضها السلطات المصرية ضد القنوات الدينية، من خلال إشهار "عصا" الإغلاق ضد أي قناة تتجرأ على تخطي القواعد المرسومة لها والخوض في "المحظور" حكوميًا، لتبدو "نايل سات" وكأنها ذراع أمني يعمل على قمع وقطع أوصال أية فضائية يراها تجاوزت "الخطوط الحمراء".
وكان المبرر - كالعادة- لإصدار قرارات الإغلاق هو رصد بعض المخالفات لشروط التراخيص الممنوحة لتلك القنوات، وتجاوزها السقف في حرية التعبير، كما جاء في حيثيات قرار أسامة صالح رئيس الهيئة العامة للاستثمار، قائلاً إن "حرية الرأي والتعبير تنتهي حدودها عند التسبب في إحداث الضرر أو الأذى للمجتمع ولا تعني تقديم مواد علمية تثير الفتن والكراهية أو تنشر ما هو غير صحيح علميًا أو فكريًا أو عقائديا بين الناس"، على حد قوله.
لكن الحجج التي سيقت لتبرير قرارات الإغلاق لم تكن مقنعة، بعد أن أحجمت عن الإشارة صراحة إلى تلك الضغوط التي مارستها قيادات الكنيسة وعلى رأسها البابا شنودة على الحكومة المصرية سرًا وعلنًا، سعيًا إلى إخراس الفضائيات الإسلامية، بزعم إثارتها الفتنة الطائفية، وتهديد الوحدة الوطنية، والتحجج بمخالفة شروط البث يضع المسئولين في حرج بسبب حالة من الفوضى الفضائية، والتعامي- عمدًا- عن قنوات تمارس التخريب الأخلاقي ليل نهار دون أن ينبس مسئول ببنت شفة متوعدًا بإغلاقها ووقف إشارة البث عنها، كما فعل مع القنوات الإسلامية.
والأغرب أن هناك العديد من القنوات المسيحية التي تستفز مشاعر المسلمين ومع ذلك تواصل البث على "نايل سات"، مثل قناة معجزه وقناة ctv وقناة أغابي التابعة للكنيسة التي تناولت بشيء من الحدة حادثة الهجوم على المسيحيين في نجع حمادي قبل شهور، دون أن يحاسبها أحد على ذلك، ولم تطل أيًا منها قرارات الإغلاق، على الرغم من خطابها الطائفي ضد المسلمين، وكانت جهات البث أكثر رفقًا تجاه قناة "أون. تي. في" المملوكة للملياردير المسيحي نجيب ساويرس، حين اكتفت بتوجيه الإنذار إليها، على الرغم من الدور "المشبوه" الذي تلعب تلك القناة وشقيقتها "أو. تي. في"، اللتين لا يخفي مالكهما إطلاقهما لمواجهة ظاهرة التدين في مصر.
وقد وضع المسئولون عن البث شرطًا للعدول عن قرارات الإغلاق، استجابة إدارة تلك القنوات للعديد من الشروط، حتى تخرج من ثلاجة التجميد وتستأنف البث بعد انتهاء عقوبة "التأديب والتهذيب والإصلاح"، من خلال "توفيق أوضاعها"، ويندرج تحت هذه الأخيرة، عددًا من الشروط والمتطلبات، على رأسها تطوير خطابها الإعلامي، والاستعانة بوجوه نسائية في برامجها المختلفة، وعدم التعرض للانتخابات البرلمانية المقررة في أواخر نوفمبر، أو الانتخابات الرئاسة في العام القادم، وتفادي إثارة قضايا تخص الأديان على شاشتها، وهو ما يكشف عن مكمن القرار في التعامل بحزم غير مسبوق تجاه الإعلام، ضمانًا لتمرير سيناريوهات مصيرية يجري الإعداد لها.
والهدف من ذلك هو عدم إغضاب الكنيسة في مصر المخطط لها أن تلعب دورًا حاسمًا في تمرير تلك السيناريوهات، والتي لا تخفي موقفها المؤيد لها، عبر ممارسة التوجيه السياسي لرعاياها، وتحفيزهم على التصويت بكثافة في الانتخابات، لصالح الحزب "الوطني" الحاكم، ويفسر ذلك المسارعة إلى فض الاشتباك الراهن على الساحة، من أجل "ترضية" للكنيسة الغاضبة من المظاهرات، والهتاف ضد البابا شنودة، والتناول لإعلامي المصاحب للأزمة المستمرة منذ أسابيع.
فالنظام وجد مصلحته في أن يعمل على تهدئة الوضع في هذا التوقيت تحديدًا، وقبل شهر ونصف من إجراء الانتخابات البرلمانية، سعيًا لإغلاق الملف وطي صفحته، لتفادي أي جدل أو توتر قد ينعكس بالسلب عليه، وهو ما يفسر حالة "التسامح" التي قوبلت بها في البداية موجات الغضب تجاه الكنيسة، والسماح للمسلمين بالتظاهر، حتى لا يؤدي كبت مشاعر الغضب إلى حدوث انفجار، قد يعيد خلط الأوراق والترتيبات الجارية، في ظل حالة الاحتقان التي تخيم بشكل عام على الأجواء بالبلاد.
كان إذا من الضروري أن يسارع النظام الذي ما فتئ يؤكد أن حرية الإعلام والتعبير مصونة إلى "التضحية" وتقديم تلك القنوات ذات الشعبية والجماهيرية، "كبش فداء" وذبحها "قربانًا" إلى الكنيسة، ردًا على خروجها عن الأطر المسموح لها بالعمل في نطاقها، وتجاوزها الحدود المرسوم لها بعناية، بسبب اشتباكها مع الأحداث الأخيرة في الشارع المصري، وإلا بماذا يفسر انتظاره كل هذا الوقت حتى يتذرع باختراقها تراخيص وشروط البث، على الرغم من التحريض المستمر ضدها منذ فترة طويلة، تحت مبرر وقف "فوضى الفتاوى" وبرامج "الطب البديل" وغيرها.
يمكن أن تتضح أبعاد الصورة بشكل أكبر ومن زوايا مختلفة، إذا ما تم وضع قرارات إغلاق الفضائيات الخمس، في إطار عام، تُمثّل القنوات الدينية جزءًا منه، يستهدف في النهاية إظهار "العين الحمراء" لوسائل الإعلام الجماهيرية، والتضييق عليها، بعد أن ظلت سنوات لديها الجرأة على النقد والتعبير بحرية، والمثال الأبرز في هذا الإطار هو برنامج "القاهرة اليوم"، الذي كان يقدمه الإعلامي عمرو أديب على فضائية "أوربت"، فقد صدر قرار بإغلاق استوديوهات القناة في مصر، بذريعة وجود مستحقات مالية متأخرة عليها، على عكس رواية أديب نفسه الذي يعزو القرار لأسباب ليس لها علاقة بهذه الناحية، الأمر نفسه ينطبق على جريدة "الدستور" المعارضة، على الرغم من التحفظات على شخص رئيس تحريرها إبراهيم عيسى، بعد الإطاحة به من منصبه، فلا يمكن النظر إلى هذه الإقالة، بعيدًا عن الترتيبات السياسية والحديث عن صفقة بين النظام وملاكها الجدد.
كل هذه التطورات المتسارعة تنبئ بأن مصر مقبلة على مرحلة تتراجع فيها حرية الرأي والتعبير إلى الحد الأدنى منذ سنوات طويلة، مع دخول منعطف الصراع على السلطة مراحله الأخيرة، حتى وإن دفع النظام جزءًا من سمعته جراء وضع قيود على الإعلام، والتراجع عما يعتبره من أهم منجزاته.
المصدر: فتحي مجدي - موقع مفكرة الإسلام
- التصنيف: