قبل أن تدهسنا المجاعة؟
إنقاذ شعب وإحياء أمة؟
قبل أن تدهسنا المجاعة؟
كل الطرق في مصر تؤدي إلى المجاعة، وكل المؤشرات تؤكد أن المصريين تنتظرهم أيامٌ صعبة، فالاقتصاد منهار، ولا توجد أية خطة لمواجهة المصير المظلم الذي ينتظر البلاد، بل تتفنن الحكومة في تنفيذ عملية التدمير باحتراف، والإسراع باستدعاء الجوع؛ فالإنتاج قد توقف، والمصانع أغلقت وبيعت، والزراعة فسدت، ونهر النيل تم التنازل عنه لأثيوبيا، وتم تبديد الأرصدة في مشروعات وهمية، وأنفقوا ما يزيد عن تريليوني جنيه في مشروعاتٍ غير ذات قيمة، ليس من بينها بناء مصنعٍ واحد ولا مشروعٍ إنتاجي، ولا مزرعةٍ للقمح والحبوب لتأمين رغيف الخبز.
وفقا لكل المؤشرات التي نراها بسبب توجهات الحكم الحالي، الذي يعتنق أجندة خارجية تعادي كل ثوابتنا الدينية والوطنية ويعمل في الإتجاه المعاكس، فإن المجاعة قادمةٌ، ويوم تدهمنا لن يكون في استطاعة أحد وقف تداعياتها، فهي كالزلزال سيضرب كل شيءٍ ولن يقتصر على طوائف أو طبقات، أو محافظات بعينها، ولن يفرق بين حاكم ومحكوم، مؤيدٍ أو معارض، ولن يفيد يومها نشر الجيش في كل المحافظات في 6 ساعات!
وبدلاً من استدعاء تجربة سيدنا يوسف عليه السلام لمواجهة المجاعة والقحط بشكلٍ علميٍ مخلص، راحوا يطلبون المساعدة من الذين أشرفوا من قبل على تدمير الاقتصاد وبيع القطاع العام، وإبعاد الحكومة عن دورها في قيادة الاقتصاد، ونقل ملكية كل شيء من ممتلكات الدولة لحفنة من اللصوص، فيما عرف بالخصخصة، راحوا إلى صندوق النقد والبنك الدولي ليتولى الإشراف على إدارة عملية الإجهاز على مصر وشعبها، وكأنهم يسلمون الذبيحة للجزار ليقضي عليها وينهي وجودها.
مجاعات مصر
المجاعات تاريخياً تأتي في نهاية عهود، فهي نتيجةٍ للفساد السياسي، وعلامة النهاية لأنظمةٍ لا تتحمل مسئولياتها في توفير كسرة الخبر وشربة الماء لمواطنيها، فالمجاعة أنهت الحكم الإخشيدي وكانت سبباً في فتح الباب أمام الفاطميين الذين رحب بهم الشعب المصري لإنقاذه، وتكرر ذات الأمر في نهاية العهد الفاطمي فكانت سبباً في زوال الفاطميين، وفتح الطريق أمام الأيوبيين الذين ذاقوا من نفس الكأس، بسبب المجاعة، وغاب ملكهم وجاء المماليك، والتاريخ يكرر نفسه والسنن الكونية لا تتوقف.
من المهم أن نعرف ما حدث في المجاعات السابقة لنكون على بصيرة، وليقوم كل مخلص بدوره لتجنب هذا المصير المروع الذي بدأنا نشعر بمقدماته، ونرى إرهاصاته يوما بعد يوم، نتيجة التدمير الممنهج الذي يجري لكل شيء، وكأننا أما قطار موت منطلق نحو الهاوية كجلمود صخرٍ حط من علٍ.
المستنصر والعادل
رصد المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي 18 مجاعة ضربت مصر عبر التاريخ، وكشف المآسي التي عاشها المصريون بسبب الغلاء والجوع، وتحدث عن الأوبئة التي كانت تصاحب هذه المجاعات بسبب كثرة الموتى ورائحة الموت.
أرجع المقريزي في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" سبب المجاعات إلى "سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد". واتفق المقريزي وغيره من المؤرخين على ارتباط المجاعة بنقص الفيضان وتراجع الزراعة، وقلة المحاصيل وفناء الثروة الحيوانية، وظهور الغلاء.
كانت أخطر هذه المجاعات ما عرف بالشدة المستنصرية التي وقعت في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر، وفقدت فيها مصر ثلثي سكانها، وعم الخراب كل أنحاء البلاد، وكذلك المجاعة التي ضربت مصر في زمن العادل الأيوبي والتي شابهت في نتائجها الكارثية مجاعة المستنصر.
يقول المقريزي: "وقع في أيام المستنصر الغلاء الذي فحش أمره، وشنع ذكره، وكان أمده سبع سنين. وكان ابتداء ذلك في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، حيث أكلت الكلاب والقطط ، فبيع الكلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا. وتحرز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سلب وحبال فيها كلاليب، فإذا مر بهم أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه".
وعن المجاعة الثانية الأكثر فداحةً في تاريخ مصر يقول المقريزي: "وقع غلاءٌ في الدولة الأيوبية وسلطنة العادل أبي بكر بن أيوب، في سنة ست وتسعين وخمسمائة، وكان سببه توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن العادة، فتكاثر الناس من القرى إلى القاهرة من الجوع، ودخل فصل الربيع، فهب هواء أعقبه وباء وفناء وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع ".
ويعد كتاب عبد اللطيف البغدادي من أهم الكتب التي رصدت المجاعة في زمن العادل، وهي عبارة عن مشاهداته حيث جاء البغدادي إلى مصر عام 597 هـ وقت المجاعة وشاهد بنفسه فظائع مروعة، روى قصصاً منها مرعبة، حيث فقد الناس عقولهم وانتشرت الفوضى في كل مكان، وامتلأت الشوارع بجثث الموتي، وأشار إلى أنه كطبيب استفاد من معاينة آلاف الهياكل العظمية في تصحيح أخطاء جالينوس.
موت ثلثي السكان
في بداية المجاعة هرب معظم الأثرياء بأموالهم تجاه العراق والشام والمغرب، فأفلت البعض، وقتل أكثرهم، حيث اعترضهم البدو واللصوص على رؤوس الطرق، وانتشر السلب والنهب، وغاب الأمن، وتقطعت البلاد، خاصة بعد أن هجر سكان القرى والمدن منازلهم واتجهوا إلى القاهرة بحثاً عن الطعام.
المؤرخ بن تغري بردي رصد تفاصيل ما تعرضت له مصر زمن المجاعة في كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" وعن تأثير المجاعة الديموغرافي أشار إلى أنه قد " جلا من مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحد، والجوع الذي لم يعهد مثله في الدنيا، فإنه مات أكثر أهل مصر".
تعددت الروايات في كتب المؤرخين التي أكدت أن مصر خسرت معظم سكانها في المجاعات، فكانوا يكفنون الآلاف يومياً، ثم لم يقووا على التكفين فبدأوا يلقون بالموتى في النيل يحملهم إلى المتوسط، ثم لم يقدروا على حمل الجثث، فكان أهل البيت يخرجون من مات أمام البيت ويلقونه في الشارع!
ونظرا لكثرة الموتى وانتشار الجيف كثرت الأمراض وظهرت الأوبئة التي أجهزت على من لم يقتلهم الجوع، ففي القرية التي كان فيها خمسمائة نفس لم يتأخر بها سوى اثنين أو ثلاثةوكانت الأزقة كلها بالقاهرة ومصر لا يرى فيها من الدور المسكونة إلا القليل، حتى أن العادل قام في مدة يسيرة بمواراة نحو مائتي ألف وعشرين ألف ميت، فإن الناس كانوا يتساقطون في الطرقات من الجوع، وتعطلت الصنائع، وتلاشت الأحوال، وفنيت الأقوات والنفوس حتى قيل: سنة سبع افترست أسباب الحياة. فلما أغاث الله الخلق بالنيل، لم يوجد أحد يحرث أو يزرع، فخرج الأجناد بغلمانهم وتولوا ذلك بأنفسهم
الأطماع الخارجية
نتج عن المجاعة ضعف الحكم المصري أمام الأطماع الخارجية، ففي ظل مجاعة الفاطميين والجوع الذي ضرب الشعب المصري هاجم الصليبيون الشام وارتكبوا المذابح واقتربوا من مصر وكادوا يحتلوها لولا ظهور صلاح الدين الأيوبي الذي أطاح بالفاطميين، وأعاد مصر لأمتها وهزم الصليبيين.
وتكرر ذات الأمر في نهاية العهد الأيوبي حيث استغل التتار حالة الضعف التي عاشتها مصر وسعوا لاحتلالها بعد احتلال بغداد واجتياح الشام، فكان هذا الخطر مدعاة لظهور المماليك بقيادة قطز فأنقذوا مصر والأمة.
مصر الجائزة الكبرى
تأتي أهمية دراسة ما حدث لمصر في زمن المجاعات من باب العبرة والاتعاظ، وتأتي ضرورة استيعاب التجارب السابقة لتجنب الكوارث التي ابتلعت من كانوا قبلنا؛ فقراءة التاريخ ليست للتسلي، وإنما للاستفادة ولتنبيه الغافلين، قبل أن تدور عجلة المجاعة المخطط لها، فتطحن العظام وتبيد الحرث والنسل.
لا نضيف جديدا عندما نقول أن ما وصلت إليه مصر حاليا من انهيار، نتيجة لمكر معادي مدروس، ينفذ منذ عقود، ومن الواضح أن مصر بالنسبة للقوى الاستعمارية والصهيونية انتهى دورها كوسيط وسمسار، ثم كخادم وجندي حراسة، وحان وقت تدميرها للخلاص منها، فالوقت وقت تفكيك الدول العربية الكبيرة إلى دويلات صغيرة، وتقليل السكان، وتعيين الجواسيس حكاما لها، بما ينهي القوى الرئيسية في قلب العالم العربي.
إن الحشد العسكري الغربي بالمنطقة ليس هدفه فقط سوريا والعراق، فنحن أمام تدفق للجيوش الصليبية، هو الأخطر والأكثر تنوعا منذ الحروب الصليبية، ومصر هي الجائزة الكبرى، ويظنون أن الفرصة مواتية للإجهاز عليها، بمساعدة حالة الاختطاف التي تعيشها.
لقد تم تدمير العراق وتفكيكه، ونشاهد عملية تدمير الشام بمنتهى القسوة بالصوت والصورة، ويأتي الدور على مصر بالتدمير الذاتي، فهل سينجحون فيما خططوا، أم سيحدث الاستيقاظ في اللحظة الأخيرة، لإزاحة الكابوس، ووقف السقوط في دوامة المجاعة، وإنقاذ شعب وإحياء أمة؟
عامر عبد المنعم
كاتب صحفي
- التصنيف: