رجلٌ يسعى
أنت... أنت أيها القاريء الكريم نعم أنت قد تكون سببًا في هداية إنسان وتغيير واقع علاقته بالله إلى الأفضل، فقط إن حملت ذلك الهم الذي طالما حمله الأنبياء والصالحون المصلحون من قبلك والذي كان نموذجه الواضح الناضح بحب الخير لقومه هو ذلك الذي ذكرناه في السطور السابقة، الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لذلك الخير وتلك الهداية، نموذج حبيب النجار، فسلامٌ على من حملوا تلك القيمة وتحملوا هذه الرسالة، سلامٌ على النبيين وسلام على الصالحين المتجردين في كل وقت وحين، وسلام على مؤمن آل ياسين
لم تكن الحاجة إلى ذلك الرجل ماسَّة..
ولم يكن الأمر متعينًا عليه، إن في مدينته أنبياء، ليس نبيًّا واحدًا ولا اثنين بل كان هنالك ثلاثة أنبياء!
وهو رجل عادي من عوام الناس فماذا عساه أن يزيد عليهم أو أن يضيف؟
ما الفارق الذي يمكن أن يصنعه في وجود كل هذا العدد من أفاضل الخلق وأحسنهم بيانًا وأبلغهم حجة ومنطقًا؟!
وهل بعد تكذيب مدينته لأولئك المعصومين يُنتظر له استجابة أو يُظن به قدرة على التأثير؟!
ربما دارت كل تلك الأسئلة والخواطر في ذهن حبيب النجار بينما هو في طريقه من أقصى المدينة ساعيًا مُجِدًّا في سيره ليبلغ مكان اجتماع الناس ومنتداهم، ولربما استرجع في تلك اللحظات ما لقيه المرسلون واحدًا تلو الآخر من عنت وصدود وتكذيب حتى تم التعزيز برسولٍ ثالث ورغم كل ذلك جحد الناس بل وهددوا رسل ربهم بالقتل رجمًا.
لعله قد دارت بخلده مشاهد الإهانة والتوبيخ التي قوبل بها أولئك الأخيار والتي تجعل غالب الظن بعد كل ذلك أن يلقى هو ما لقيه أئمة الحق أو أشد لكنه مع ذلك ما انفك عن السعي وما تباطأ به المسير أو قعد عن البذل!
إنه رجل يعرف هدفه جيدًا ويدرك أبعاد قضيته بشكلٍ واضح ويعلم أن مناط تلك القضية ليس مطلق ترتب الثمرة ولا حصول الاستجابة فتلك أمور بيد مولاه، لكن الصدع بالحق كان هو مبتغاه والبلاغ عن الله كان هو غاية مسعاه والدلالة على الخير والدعوة إلى أهله كانت هي مطلبه ومبعث رضاه
لذلك جاء ..
ومن أقصى المدينة سعى ..ومن أعمق أعماق نفسه صدع: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس جزء من الآية: 20].
لكن ما صفة أولئك المرسلين الذين يريد من القوم اتباعهم؟!
{اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 21]
صفتان جعلهما مؤمن سورة يٓس المعروف ب"حبيب بن مرّي أو حبيب النجار" جعلهما علة الاتباع الذي ينصح به قومه وبين أنهما حجة وصيته لهم، عدم سؤال الأجر، والهداية.
وهاتان الصفتان من أهم مناطات الاتباع على الإطلاق، أن يكون الاتباع للمخلصين الذين لا يطلبون شيئًا لأنفسهم
أي شيء..
لا يسعون لجاه ولا يطمعون في مال ولا يبتغوة شهرة ولا ثناء بدعوتهم فسؤال الأجر لا يشترط أن يكون مالًا كما يظن البعض، الأجر قد يكون جاهًا أو مكانةً أو منصبًا أو ثناءً، حتى الرغبة في الاتباع الأعمى من المدعوين قد يكون أجرًا لصاحب الدعوة، وكل ذلك مما يعكر نقاء تلك الدعوة ويهز مصداقيتها وقد يقدح في إخلاصها، ويبقى شعار الأنبياء عليهم السلام {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء جزء من الآية: 180] ناصعًا نقيًّا نافيًا انتظار الأجر ..أي أجر
وإن من أبرز موانع القبول ومن أشد أسباب النفور من الدعاة ضد تلك الصفة ومقابلها أن يشعر المدعو أن الداعي يريد شيئًا منه..يريد شيئًا لنفسه، يريد من المدعو ماله أو ثناءه أو حتى انقياده وتهليله لكل خطواته
أن يشعر أنه يريد دنيا أو شيئًا من عرضها الزائل ووجاهتها الفانية، ولقد سأل حبيب النجار الرسل الثلاثة عن الأجر الذي يريدونه مقابل دعوتهم فأجاب الرسل كما أجاب كل من قبلهم وبعدهم من الرسل: أنهم لا يبتغون أجرا من البشر وقد ورد ذلك في العديد من الآثار وكان ذلك بداية تأثر حبيب النجار بهم واقتناعه بدعوتهم خصوصًا بعد أن تبين الصفة الأخرى
الهداية
{وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس جزء من الآية: 21] ومحل الهداية الوحي المنزل {فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة جزء من الآية: 2] { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء جزء من الآية: 9]
فالمستحق للاتباع هو ذلك المهتدي بنور الوحي والمسترشد بتوجيهات التنزيل، إذاً فهم المخلصون المتجردون المهتدون، هم الهادون المستغنون عن الناس والمفتقرون لرب الناس، وهؤلاء هم الأحق بالتصديق، حين أدرك ذلك وفهمه لم تكن دعوة حبيب النجار لنفسه، ولم يكن مطلبه لذاته، ولم يجعل مسعاه لمصلحته، بل قد أعلن تجرده في مفتتح كلامه قائلًا: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس جزء من الآية: 20]
لم يقل اتبعوني فأنا العبقري الأوحد....ولم يزعم أنه الملهم الفذ الذي لا ينبغي أن تنصرف أعين الخلق عنه
ولم يدع لنفسه الفضل ولم يوح إليهم بوجوب إعلائه وتعظيم جنابه، بل أشار إلى المعصومين وأهل الوحي المرسلين وأخبر دونكم هؤلاء فاتبعوهم فهم الأحق بالاتباع، كم كانت دعوته متجردة نقية، كانت صدعًا بحق خالص لا تشوبه من شوائب حظ النفس شائبة، فهؤلاء المرسلون الذين لا يسألونكم أجرًا ولا يطلبون شيئًا لأنفسهم هم الأولى بالاتباع، كان هذا لسان حال حبيب النجار وما لخصه لسان مقاله في كلماته التي خلد ذكرها المولى في كتابه قائلًا: {اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 21]
لقد كان تجردهم قدوةً لتجرده وإخلاصهم أسوة لتفانيه ولذا لم يطلب هو الآخر أجرًا ولا طمع في مقابل وهو يضع نفسه كجزء من منظومة الصدق المتكاملة التي كان هدفها الأوحد إعلاء كلمة الله وتوحيده بالعبادة والقصد وبذل الوسع لإبلاغ الرسالة، بلا أجرٍ ولا مقابل لدى الناس، فقط الأجر لدى رب الناس، ولقد جاء، جاء حبيب النجار من أقصى المدينة، وجاء من قبله المرسلون
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [ يس: 13] ، ومن قبلهم ومن بعدهم جاء المزيد من النبيين والمرسلين، {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّـهَ ۖ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14]
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ ۖ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ۚ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44]
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 113]
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّـهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]
{فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36]
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]
في هذه الآيات وغيرها كثيرًا ما يستعمل لفظ "المجيء" ومشتقاته عند وصف حركة الداعين إلى الله وأصحاب الرسالات، إنهم قوم لا ينتظرون في بيوتهم أو على أرائكهم الوثيرة، إنهم قوم لا يكتفون بتلك الدعوة الوجيهة التي يُتصدر بها المجالس وتحتشد بالمريدين والمحبين ويشار إلى صاحبها الوجيه المهيب بالبنان، للأسف البعض ظن أن هذا المشهد الأنيق الوجيه للمحاضر الذي يلتف حوله المريدون، المشهد الوحيد والمبتغَى لمن سلك سبيل الدعوة إلى الله، وهذا وإن كان مقبولًا في مواطن التعلم الأكاديمي فإنه لا يصح أن تقتصر عليه النظرة والتصور
خصوصا في شأن البلاغ والدعوة إلى الله سبحانه، إن حملة الرسالة الصادقين يتحركون لبلاغ رسالتهم ويأتون أقوامهم ويبحثون هم عن المدعو حيث كان ولا ينتظرونه حتى يأتيهم راغبًا وحده، تلك الحركة والإتيان والمجيء هي الأقرب لهدي الأنبياء والمرسلين، وهي سلوك من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين من أولئك الغيورين الباذلين المضحين، ثم يستمر حبيب النجار في دعوته مزينا تلك الدعوة بألطف الألفاظ وأرق المعاني.
{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس جزء من الآية: 22]
إنه يخاطب هاهنا الفطرة ويحاور المنطق ويمس أوتار الفكر بأسلوبٍ غايةً في التواضع والدماثة حيث يوجه السؤال لنفسه مشيرًا إلى أنه أول مخاطب بما يتكلم به، كيف لا أعبد خالقي وبارئي من أوجدني من العدم؟!
كيف لا أوحد من صورني فأحسن تصوري؟!، من الأحق أن أوجه له خالص حبي وحقيقة تعبدي؟!
وخوفي ورهبتي، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس جزء من الآية: 22]
إنه هنا يشير ببساطة ويسر مختصر إلى أمرٍ جلل، أمر الآخرة، وأجلُّ ما فيه أنه رجوع إليه، إلى الملك الحق
{أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} [يس جزء من الآية: 23]
كيف ولماذا؟!، وبأي حق يكون هؤلاء آلهة وهم لا يضرون ولا ينفعون؟!
بل {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ} [يس جزء من الآية: 23] ، ثم يستمر خطابه لنفسه ومن ثم لمن يسمعونه: {إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}
كلمات نورانية رقراقة تخاطب العقل والروح معًا في آنٍ واحد، نطق بها الرجل في هذه الظروف العصيبة ورغم كل ذلك التكذيب وتلك العوائق والعقبات التي واجهت من هم أعلى منه منزلة وأجل قدرً، ثم يعلنها مدوية وليسمعها الجميع: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}، هكذا صاح بها حبيب النجار...فاسمعون..
فاسمعون أيها المرسلون واشهدوا لي بها عند ربكم يوم لقائه، فاسمعون أنتم أيضا أيها المكذبون واعلموا أنها ساعة المفاصلة ولحظة إعلان البراءة منكم ومما تعبدون بعد أن آمنت بربكم الذي به تجحدون، اختلف المفسرون فيمن وجه إليهم حبيب تلك العبارة، هل هم الرسل الثلاثة يطلب منهم أن يشهدوا له أن قد وفَّى وأدى؟!
أم هم قومه يختم حججه عليهم؟، والقولان لهما وجاهة والجمع بينهما أولى، خصوصًا أن قومه قد سمعوه
ولم يتمالكوا أنفسهم فوثبوا إليه ليسكتوه، وليكتموا صوت الحق الصادع من فمه، وليقتلوه، أورد ابن كثير عن ابن عباس: فلما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه، وقال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى أقعصوه، وهو يقول ذلك، فقتلوه رحمه اللّه، قال ابن مسعود : وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره، وألقي في بئر وهي الرس وهم أصحاب الرس.
وفي رواية أنهم قتلوا معه الرسل الثلاثة.
وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومي حتى قتلوه.
وقال الكلبي : حفروا حفرةً وجعلوه فيها، وردموا فوقه التراب فمات ردما.
وقال الحسن : حرقوه حرقًا، وعلقوه من سور المدينة وقيل : نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، فما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها.
كل ذلك وهو يردد جملة واحدة لا غير، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون...
إن من الناس من يظن أن قول ما يراه حقًّا والجهر بما يعتقده صوابًا وصدقًا إنما هو مرتهن بمظنة استجابة الناس له وطلبهم لسماعه وقبولهم لقوله، فإن غلب على ذلك الظن أنهم سيستجيبون نطق.
وإن آنس منهم رغبة في سماعه تكلم ونصح، وإن كانت الأخرى سكت وكتم وأعرض؛ قد طابت نفسه وارتاح ضميره بمسكنات (لا فائدة) ومهدئات (هلك الناس) ونسي أو تناسى أن المرء إنما يدعو لينجو، وإنما ينصح ليُرضي ربًا لم يتعبده بالنتائج ولم يكلفه بالثمار، وأنه أحوج إلى النطق بالحق والجهر به ممن يسمعونه سواءً استجابوا له أم لم يستجيبوا
ولئن كان من متعذر عن الدعوة للخير والنصح بالحق لوجود مظنة التكذيب وتوقع عدم الاستجابة لكان رجل يعيش بين قوم كذبوا ثلاثة أنبياء ولم يقبلوا منهم حقا ولم يصدقوا منهم حرفًا وما استجابوا لهم، هو أولى الناس بذلك التعذر واستسهال السكوت.
لكان هو أولى الناس بأن يقطع الطمع في هداية الخلق أو أن يفقد الأمل في هدايتهم إلى الحق، لقد كان في قوم لم يكذبوا نبيًّا واحدًا ولا نبيين بل كذبوا ثلاثة أنبياء فلم يقبلوا منهم حقًّا ولم يصدقوا منهم حرفًا وما استجابوا لهم فيستطيع أن يركن لذلك وببساطة... يسكت
لكنه لم يفعل..ولم يتعذر ولم يتلكأ...لم يحقر نفسه ولم يتحجج بعدم أهمية قوله أو يحتج بقلة قيمة صدعه
بل جاء من أقصى مدينته وسعى وتكلم ونصح ووعظ..ولقد أعذر.
فأي همة تلك؟!، وأي إصرار هذا الذي استقر في نفسه؟، وأي حرص ذاك الذي بدا على كلماته وأفعاله ؟!
إنه الحرص على أن يعلم الناس عن ربهم مهما كان الثمن، ولقد دفع الثمن عن طيب خاطر، وكان الثمن حياته..
ومن بعيد وجد ريحها، وفي الأفق بدت أبوابها، باهرة هي تلك الأبواب قد تلألأت وأزهرت، إنها تقترب ..
نعم هي التي تقترب.
بأبوابها الهائلة وقصورها المنيفة وشذا نسيمها العطر ونعيمها المقيم...لم يعد بينه وبين ولوجها إلا طرفة عين وانتباهتها...قيل: ادخل الجنة..
ها قد جاء الإذن وتم الفضل واكتملت النعمة، أدخل الجنة؟!، الحلم الذي طالما راوده والأمل الذي لم يغادر فؤاده والغاية الذي لأجلها عاش وعليها مات، قد صارت الآن رأي العين، قد كلل مسعاه بالنجاح وتوج جهده بالراحة والفلاح، أوحقًّا يا أذنيه ما تسمعان...يدخل الجنة؟!...الآن؟!....يا لفرحة قلبه ورضا نفسه!
{يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}...يا ليتهم يعلمون...يا ليتهم يدركون....يا ليتهم يفقهون...بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
قومك؟!، أوتسأل حقًّا عن قومك؟، أوتأبه بهم صدقًا؟، أتلتمس حالهم وتبتغي علمهم؟، أولئك الذين استضعفوك وآذوك بل قتلوك، أم تراك قد نسيت؟، لماذا تسأل عنهم؟!
ليس عليك هنا تكليفٌ ولا ثواب أو عقاب فما دافعك للسؤال؟، ما محرك رغبتك في الدعوة والبلاغ وحرصك على هداية الناس؟!، أهو دأب الصالحين الذين هم كالنحل لا يضعون إلا طيبًا؟!، أم هو حرص المؤمنين الذين يحبون للناس ما يحبونه لأنفسهم؟، أم تراها المعرفة؟!
معرفة الله عز وجل التي متى خالطت القلب بشاشتها نضحت على الجوارح وتهللت بها الأسارير وانعقد عليها العزم واجتمعت عليها النية صار لصاحبها هذا السمت، سمت العارفين الذين ذاقوا فعرفوا وعرفوا فاغترفوا ففاضت معرفتهم وخرجت لتظهر على أقوالهم وأفعالهم، وبدون تكلف أو افتعال، هكذا كان في الدنيا حين جاء من أقصى المدينة يصيح داعيًا قومه، دون تكلفٍ، ولا افتعال، فقط ذلك الحرص والرغبة في الهداية للجميع، ولعل أكثر ما يثير الدهشة والعجب في قصة حبيب النجار وذاك الموقف القرآني الباهر، هذا الموطن الذي قيلت فيه تلك الكلمات {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}، لقد قالها الرجل في دار غير الدار وحال غير الحال، قالها وهو يكاد يدلف إلى الجنة!، خرجت منه تلك العبارة بعد أن دفع الثمن بالفعل، قالها بعد أن قتله قومه ونال على أيديهم الشهادة، رغم ذلك كان كل همه أن يعلموا!، كانت رغبته وما يشغل ذهنه أن يدرك الناس ما عند الله من المغفرة والإكرام.
إنه مشهد يجسد حرصًا غير عادي وتفانياً منقطع النظير ورغبة عارمة في هداية الخلق وتعريفهم بالحق، حتى بعد موته ظلت رغبته في هداية الناس يقظة وحرصه على نصحهم وإرشادهم متأججا فقال حين عاين النعيم وأبصر الجنة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}
في ذلك المقام الذي كان من الممكن أن ينشغل فيه عن كل ذلك بالطيبات التي بها أُكرم وينسى واجب البلاغ.
لكنه أيضًا لم يفعل، فلم ينقطع أمله في قومه ولم يتكاسل عن نصحهم وبذل الوسع في الأخذ بأيديهم طالما كان فيه عرق ينبض، بل استمر على شأنه هذا حتى بعد أن لم يعد ذاك العرق ينبض!!، بعد انتقاله إلى دار القرار!
نموذجٌ عجيب ونمطٌ فريد، لكنه ليس النموذج الوحيد...
فلطالما كان رجال لم يحقروا أنفسهم بل قاموا وقالوا الحق كما قاله هو، ولطالما وُجد الفتيان الذين لم يخافوا في الله لوم اللائمين ولا رفض الجاحدين أو إيذاء الفاسدين والمفسدين.
ولكم تكرر هذا المعنى في كتاب رب العالمين، ولكم ترسخ هذا المفهوم في كلام سيد المرسلين، ولتستقر تلك العقيدة ولتضرب تلك القيمة بجذورها في قلوب المؤمنين.
قيمة البلاغ والقيام بالحق والرغبة في هداية الخلق بغض النظر عن الظروف والمعاملات والمؤثرات المحيطة وبدون تعليق الأمر على مظان الاستجابة من عدمها، إنها قيمة غرس الفسيلة حتى لو كان ذلك بين يدي الساعة وتيقن استحالة إدراك الثمرة...بتلك القيمة {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
وبتلك القيمة أيضًا خلد ذكر أولئك الناهين عن السوء في قصة أصحاب السبت، وعلى الدرب نفسه سار من قبلهم مؤمن آل فرعون، ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه خوفا من بطش الطاغية مدعي الألوهية، لكن تلك اللحظة التي برزت فيها قيمة الجهر والحرص على الأخذ بيد الخلق إلى الحق كانت قد آنت وحان موعدها ومن ثم تكلم الرجل وفاض ما في قلبه إلى لسانه وجوارحه التي ظهر عليها مدى خوفه على قومه ورغبته في هدايتهم، وهكذا كان رجال من عموم الناس دعوا للحق في كل زمان ومكان ليسوا بأنبياء ولا مرسلين بل هم بشر عاديون غير معصومين، جمع بينهم الحق والقيام بالأمر وعدم كتمان الإيمان الذي خالطت بشاشته قلوبهم وامتزج ضياؤه بقناعة عقولهم، لم يشترطوا على ربهم أن تنجح دعوتهم، ولا أن تثمر مسيرتهم، فكان حالهم ومآلهم نموذجا عمليا وتطبيقا واقعيا لتلك القاعدة الربانية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف جزء من الآية: 29]، فما بال أقوام يتعذرون ويتلكؤون، وعن دعوة الحق والقيام بالنصح هم معرضون، ورغم الحاجة إليهم هم مبتعدون، وعن قومهم هم محتجبون، ولحق أمتهم هم مهملون، فمتى يظهرون، وإلى ربهم يعذرون، ولأمتهم ينصحون، وللواء قضيتهم يرفعون؟!
متى عساهم يشعرون ويحيون بقيمة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس جزء من الآية: 26]
حتى وإن كذبوني وقتلوني!!!!!
أكثر المفسرين على أن حبيب النجار قد قُتل بأيدي القوم الذين كانوا محل دعوته وموطن نصيحته كما سبق وبيّنا، وقال بعض المفسرين أن القوم قتلوه وقتلوا الرسل معه، وسواء كان القتل بالحرق أو بالرجم أم بالتردي أم بالضرب كما تعددت بذلك الروايات، فإنه يظل قتلًا وليس قتلًا عاديًا بل قتلًا بشعًا يحمل تنكيلًا وتعذيبًا، والقتل يعد عرضًا ظاهرًا للكره والشقاق فما بالك إن كان بهذا الإمعان في العذاب؟!
إذاً فقد شاقه قومه ولم يحبوه وأظهروا تلك البغضاء بشكل عملي بأن قتلوه تلك القتلة الشنيعة، ورغم كل هذه المشاعر العدائية والشقاق الظاهر إلا إنه لم يقطع الطمع في هدايتهم ولم يختر اليأس من إصلاحهم حتى بعد موته على أيديهم فتمنى أن يعلموا حقيقة الأشياء وعظم الجزاء وحفاوة الإكرام الإلهي للصالحين
{يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس جزء من الآية: 26، 27]
هذه المشاعر البغيضة لدى القوم لم تكن موجهة لحبيب النجار وحسب بل هي للأسف كثيرًا ما تواجه السائرين على الدرب نفسه ومع وجودها كانت تقابل بنفس ما قابلها به حبيب النجار.
{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [هود: 89]...شقاقه؟!
عداوته وبغضاؤه وفراقه....هكذا عامله قومه، وهكذا علم شعيب عليه السلام مشاعرهم تجاهه، جهروا له بالعداوة وأظهروا الرغبة في المفارقة وأبدوا البغضاء والكراهية، لكن مع هذا الشقاق وتلك العدواة لم يزل الحرص ولم تغادر نفسه الرغبة في هداية قومه، لم يتحول عداؤهم له وبغضهم إياه إلى رغبة انتقامية أو نزعة عقابية في نفسه مباشرة بل بقيت مهمته الأساسية ورسالته الرئيسية ماثلة أمام عينيه مهمة الهداية والإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
لم تكن قضيته شخصية ولم يجعل ذاته محورا للمعاملة مع المدعويين ولم يعتبر عداوتهم إياه وشقاقهم له سببا كافيا لإنهاء مهمته العظمى، بل استمر الخطاب الحسن والموعظة الحكيمة التي تقطر حرصا على من يعادونه وخوفا على يجهرون بمفارقته من مصير محتوم يؤدي إليه ما يفعلون، لا يحملنكم شقاقي على أن تهلكوا أنفسكم وتنالوا مصير الأمم السابقة، لا تدفعكم عداوتي وبغضي إلى أن تجرموا في حق أنفسكم وتسلكوا سبيل العذاب لا تجعلوا مشكلتكم معي سببا وعلة لترككم الدين وبعدكم عن رب العالمين
هكذا كان تجرده وهكذا يحدث الإصلاح، حين يتجاوز حامل الرسالة شخصه وينظر فقط إلى هدفه ولا يجعل ذاته محورًا تدور حوله معاملاته وأحكامه على الناس، ولقد كانت شخصية مؤمن آل ياسين من أوضح النماذج القرآنية التي يتجلى من خلالها هذا المعنى الغائب وتبرز تلك القيمة المندثرة...قيمة الدعوة.
الدعوة المتجردة المنطلقة التي لا تعرف عوائق ولا تعطلها شبهات أو عراقيل متوهمة لعل أهمها عدم استشعار المسؤولية وعدم توقع حدوث التأثير أو انعدام الحاجة إلى قيام المرء بتلك القيم و المصطلحات العتيقة التي غابت عن أذهان الكثيرين قبل أن تغيب عن واقعهم، تلكم القيم التي تصدعت في نفوس جمع لا بأس به من الخلق بعد أن كانت يومًا على ألسنتهم وفي قلوبهم وضمن همومهم.
كلمات ك "الدعوة" و "الداعي" و "المدعو".....
فقط أولئك الذين يحملون هم الأمة ويعنون بشأن المسلمين ويحيون بقيمة حمل الرسالة يدركون وقع تلك الكلمات جيدًا، يدركون ذلك الهمّ الذي كانوا يحملونه تجاه الناس ورغبتهم الصادقة في أن يذوقوا مما ذاقوا ويغترفوا مما اغترفوا ليس استعلاءً أو تفضلا ولكن إيمانا علامته أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه كما أخبرنا قدوتنا ﷺ
والمرء يحب لنفسه مرضاة الله والجنة، وكذلك كان يومًا يحبهما للخلق، وإن جفوه وأنكروه وآذوه، فمعذرة إلى ربهم ولعلهم يتقون.
اليوم تهاوت تلك القيم العظيمة في أنفس الكثيرين واستُبدلت بها عداوات عامة شملت الفاسد والمفسد وعمت الرأس والذيل وغمرت التابع والمتبوع وأُطلقت على الضال والمضل والجاهل ومن جهَّله، صار تمني الهداية وصلاح الحال وتبدل المآل، مندثرًا في غياهب أنفسٍ قررت تعميم الكراهية، لا شك أن هناك مضلين ومفسدين، وهناك من يستحق العداوة والبغضاء وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وهناك من لابد من مفاصلته مفاصلة تستبين على إثرها سبيل المجرمين، لكن هل هذا يشمل الجميع؟!
هل رُفع التكليف بالبلاغ وبطُل أمر هداية الناس الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في مقام مقارعة يهود خيبر قائلًا لقائد جيشه علي رضي الله: لئن يهدي بك الله رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم
الجواب: لا
لم تزل الدعوة مطلوبة ولم تزل الأمة مبتعثة ولم يزل التكليف قائما - بلغوا عني ولو آية، وهذا التكليف لابد أن يقوم على شعور بالحرص والرغبة الصادقة في هداية الخلق، أو على الأقل جزء من الخلق جزء هو أحوج ما يكون للهداية التي قد يجعلك الله سببًا فيها.
أنت... أنت أيها القاريء الكريم
نعم أنت قد تكون سببًا في هداية إنسان وتغيير واقع علاقته بالله إلى الأفضل، فقط إن حملت ذلك الهم الذي طالما حمله الأنبياء والصالحون المصلحون من قبلك والذي كان نموذجه الواضح الناضح بحب الخير لقومه هو ذلك الذي ذكرناه في السطور السابقة، الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لذلك الخير وتلك الهداية، نموذج حبيب النجار، فسلامٌ على من حملوا تلك القيمة وتحملوا هذه الرسالة، سلامٌ على النبيين وسلام على الصالحين المتجردين في كل وقت وحين، وسلام على مؤمن آل ياسين