تأملات في سورة يوسف
لكنها لم تجيء في القرآن لمجرد رواية القصص.. لكن هدفها هو ما جاء في آخر سطر من القصة وهو : {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف من الآية:90]..
سورة يوسف نزلت في عام الحزن..
هي السورة الوحيدة في القرآن، التي تقص قصة كاملة بكل لقطاتها..
لذلك قال الله تعالى عنها: أنه سيقص على النبي - صلى الله عليه و سلم -: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف من الآية:3]..
وهي أحسن القصص بالفعل، كما يقول علماء الأدب، وخاصة المتخصصين في علم القصة..
فكل عناصر القصة الجيدة متوفرة بها: من التشويق، واستخدام الرمز، والترابط المنطقي، وغير ذلك..
فهي تبدأ بحلم، وتنتهي بتفسير هذا الحلم..
من الطريف أن قميص يوسف:
- استُخدم كأداة براءة لإخوته.. فدل على خيانتهم..
- ثم استُخدم كأداة براءة بعد ذلك ليوسف - عليه السلام - نفسه مع إمرأة العزيز.. فبرَّأه!!
- ثم استخدم للبشارة.. فأعاد الله تعالى به بصر والده..
نلاحظ أن معاني القصة متجسِّدة، وكأنك تراها بالصوت والصورة..
وهي من أجمل القصص التي يمكن أن تقرأها ومن أبدع ما تتأثر به..
لكنها لم تجيء في القرآن لمجرد رواية القصص..
لكن هدفها هو ما جاء في آخر سطر من القصة وهو :
{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف من الآية:90]..
فالمحور الأساسي للقصة هو:
- ثِق في تدبير الله..
- اصبر..
- لا تيأَس..
الملاحظ أن السورة تمشي بوتيرة عجيبة، مفادها أن الشيء الجميل، قد تكون نهايته سيئة والعكس!
فيوسف - عليه السلام - أبوه يحبه، و هو شيء جميل.. فتكون نتيجة هذا الحب أن يُلقى في البئر!
ثم الإلقاء في البئر، شيء فظيع.. فتكون نتيجته أن يُكرَم في بيت العزيز!
ثم الإكرام في بيت العزيز، شيء رائع.. فتكون نهايته أن يدخل يوسف - عليه السلام - السجن!
ثم أن دخول السجن، شيءٌ بَشِع.. فتكون نتيجته أن يصبح يوسف - عليه السلام - عزيز مصر!
الهدف من ذلك؛ أن تنتبه، أيها المؤمن، إلى أن تسيير الكون شيءٌ فوق مستوى إدراكك.. فلا تشغل نفسك به.. ودعه لخالقه يسيِّره كما يشاء.. وفق عِلمه وحِكمته..
فإذا رأيت أحداثاً تُصيبُ بالإحباط.. ولم تفهم الحكمة منها.. فلا تيأس ولا تتذمَّر.. بل ثِق في تدبير الله.. فهو مالك هذا المُلك.. وهو خير مُدبِّر للأمور..
كما يفيد ذلك؛ أن الإنسان لا يجب أن يفرح بشىء قد يكون ظاهره رحمة.. ولكنه يحمل في طياته العذاب.. أو العكس..
العجيب أنك في هذه السورة، لا تجد ملامح يوسف - عليه السلام - النبي، بل تجدها في سورة (غافر)...
أما هنا فقد جاءت ملامح يوسف - عليه السلام - الإنسان.. الذي واجه حياة شديدة الصعوبة منذ طفولته.. ولكنه نجح..
ليقول لنا: إن يوسف - عليه السلام - لم يأتِ بمعجزات.. بل كان إنساناً عاديَّاً.. ولكنه اتَّقى الله.. فنجح!
وهي عِظة لكل شاب مُسلم مُبتَلى.. أو عاطل ويبحث عن عمل..
وهي أمل لكل مَن يريد أن ينجح.. رغم واقعه المرير..
فهذه هي أكثر السور التي تحدَّثت عن اليأس، قال تعالى:
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف من الآية:80]..
{وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف من الآية:87]..
{حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف من الآية:110]..
وكأنها تقول لك أيُّها المؤمن:
إن اللهَ قادر.. فلِمَ اليأس؟
إن يوسف - عليه السلام -، رغم كل ظروفه الصعبة، لم ييأس ولم يفقد الأمل..
فهي قصة نجاح في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا: حين استطاع، بفضل الله، ثم بحكمته، في التعامل مع الملِك، أن يُصبح عزيز مصر.. وفي الآخرة: حين تصدَّى لامرأة العزيز.. ورفض الفاحشة.. ونجح!
لقد نزلت هذه السورة بعد عام الحزن حين كان النبي - صلى الله عليه و سلم - في أشد أوقات الضيق، وعلى وشك الهجرة وفراق مكة..
وهنا نلاحظ أشياء مشتركة بين يوسف - عليه السلام- والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -:
- يوسف - عليه السلام - ترك بلده فلسطين.. والنبي - صلى الله عليه وسلم - على وشك ترك مكة أحب البلاد إليه..
- ويوسف - عليه السلام - فارق أهله.. والنبي - صلى الله عليه وسلم - فارق أهله، فماتت زوجته خديجة ومات عمه الذي كان يدافع عنه..
- يوسف - عليه السلام - انتصر.. وكأن الله تعالى يريد أن يقول للنبي - صلى الله عليه و سلم - إن يوسف مر بظروف مشابهة لظروفك.. ولكنه انتصر.. وكذلك أنت.. سوف تنتصر مثله بإذن الله!..
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، في أمس الحاجة لهذه المعاني..
فقد نزلت السورة وهم في مرحلة معنوية هابطة..
ولعل هذا يذكِّرنا أيضاً، بمرحلة الهبوط الشديد الذي تعاني منه الأُمة اليوم..
وكأن الله تبارك و تعالى يقول لنا لا تيأسوا فالنجاح قادم..
فهذه السورة تعلِّمنا الأمل.. ولكن تذكَّر أنه بعد النجاح مطلوب منك التواضع.. لأن النجاح فضلٌ من الله.. قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: -3].. فلا تدع غمرة النجاح ونشوة الانتصار تنسيك التواضع لله..
وليكُن قدوتك في ذلك يوسف - عليه السلام - حين قال في نهاية القصة في الآية: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وكأن الصالحين سبقوه.. وهو يريد اللحاق بهم..
فهذه السورة كما قال العلماء: "ما قرأها محزون ٌ.. إلا سُرِّي عنه"..
أشركونا في صالح دعائكم..
منقول
- التصنيف: