راية الإسلام - إياك وترك راية الإسلام (15)
مما لا يعلمه الكثير أنه للحفاظ على الراية فكما حذّرنا من الاختلاف؛ فلا بد من فتح الأبواب لاختلافٍ آخر
تنوعٌ تحت الراية..
ومما لا يعلمه الكثير أنه للحفاظ على الراية فكما حذّرنا من الاختلاف؛ فلا بد من فتح الأبواب لاختلافٍ آخر!
ولهذا يجب أن نعلم أن الاختلاف نوعان:
(1) اختلاف تضاد، وهو المشار إليه سابقًا، وما قد يفضي إليه من التفرق والتنازع وولاء الكافرين والتولي بغير ولاية الإسلام وترك الراية..
(2) لكن هناك اختلافٌ آخر، وهو محمودٌ، لما له من سعة وفوائد وتنوع، وهو (اختلاف التنوع). والمجتمعات البشرية لا تكون في حالةٍ صحية إلا في ظل وجود هذا الاختلاف..!
فالاختلاف (المذموم) هو الموجب للبغضاء والتقاطع والتدابر، فضلًا عما هو أشد من التنازع والتقاتل وما وراء ذلك، ويكون على تنافسٍ على الدنيا، أو في أصول الدين، أو في وحدة الأمة.
أما (المحمود) فهو سعةٌ وتنوعٌ وثراء، ومثاله في الشرعيات، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره، هو تنوع ألفاظ الصلاة على رسول الله الواردة عنه فثمة عدة صيغ لا يقال هذه صواب وهذه خطأ؛ بل كلها صحيحة، وهي من باب اختلاف التنوع..
وكذا تنوع روايتي الأذان ما بين خمس عشرة كلمة وبين زيادة الترجيع وهو أذان أبي محذورة رضي الله عنه، وكلاهما صحيح، وكلاهما من تعليم رسول الله صىل الله عليه وسلم.
ومثاله أيضًا تعدد صيغ صلاة الخوف إلى حوالي ستة أو سبعة صيغ وكلها صحيحة، وقد يتعلق تعين أحدها بموقف المسلمين إزاء العدو وإزاء القبلة، وكذلك ألفاظ التشهد، والصيغ الثلاثة من صيغ استفتاح الصلاة المكتوبة، وكذا صيغ استفتاح صلاة الليل.. وكلها صحيحة ويتخير المرء ما شاء، وله أن يستعمل بعضها في وقتٍ وبعضها في وقتٍ آخر، وهو أرجح من جمعها كلها في صيغةٍ واحدة؛ كما هو مذهب بعض أهل العلم.
وكان عمر بن عبد العزيز يتذاكر الفروع الفقهية مع القاسم بن محمد بن أبي بكر، وهو من فقهاء المدينة السبعة، فرأى عمر أنه كلما ذكر اختلافًا تغير وجه القاسم ضيقًا بهذا الاختلاف، فقال له عمر رضي الله عنه (والله ما أحب أن لي باختلافهم حُمر النعم، وذلك أن العامل بأقوالهم يرى أنه عامل بسُنة وفي هذا سعةٌ على الناس)، فكان القاسم بعد ذلك كلما رأى ضيق أحد باختلاف الصحابة في الفروع الفقهية يحدثه بكلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله هذا.
فهذا الاختلاف الفقهي وما تلاه من نشأة المدارس الفقهية، مدرسة الرأي ومدرسة الأثر، ثم التنوع العظيم والثري بين المدارس المختلفة التي تمثل الأئمة العظام، وهم أكثر من الأربعة الكبار، بل هم أكثر بكثير، كالأوزاعي والسفيانين والليث من أصحاب المذاهب المستقلة، ومن غيرهم من الفقهاء المتقيدين بالمذاهب، أو الخارجين عنها باختيارات خاصة بهم مع الانتساب أو عدم الانتساب اليها.
هذا الاختلاف هو ثراءٌ فقهي عظيم بسبب تنوع الاجتهاد وكثرة المدارس، واختلاف المناطات، وطروء أوصاف ومستجدّات قد تجعل بعض الآراء من مرجوحة إلى راجحة، وهي أشبه باختلاف المدارس القانونية اليوم..
ولولا تعطيل الشرعية لكانت أحكامها هي السائدة اليوم في المدارس القانونية وتميزت بمصدرها الرباني وقيمها وتوازنها وشمولها وما تقوم عليه من أصول وعقائد وما يرتبط بها من أحكامٍ اجتماعيةٍ وأوضاعٍ سياسيةٍ وقيمٍ أخلاقية.
وينبني على هذا الاختلاف المحمود اختلافاتٌ محمودةٌ في الشورى قديمًا وحديثًا، واختلافاتٌ سياسيةٌ ووجود أحزابٍ بشروط، وهذا حديثنا القادم بإذن الله.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: