رسالة قديمة متجددة إلى وزارة التعليم وأساتذة الكيمياء والعلوم
من المؤسف حقاً أن تجد كثيراً من الأساتذة يردد ما هو مقرر في الكتب الدراسية، وكثيراً من المؤلفين والمترجمين يرددون ما هو موجود في المراجع الأجنبية دون تمحيص
لا يخفى على أحد ما للمناهج التعليمية من أهمية في الحفاظ على هوية الأمة وتراثها وحضارتها، ودورها في إعداد الأجيال وتسليحهم بثقافة أصيلة، تورث العزة والثقة بقدرات الأمة في ماضيها، ومستقبلها، مما ينعكس على الناشئة من رفع روح المنافسة في ميادين التقدم العلمي المعاصر وما يواكبه من ثورات تقنية هائلة.
وإن المتأمل لتاريخ العلوم منذ نشأتها يجد أن العلماء المسلمين كانوا ضحايا لحملات تزييف وتزوير مُورست عليهم خلال فترات من التاريخ. وخلال هذه الصفحات محاولة لتوضيح بعض ملامح هذه الحملات ودوافعها وإبرازٍ لبعض الشواهد الواردة في ثنايا بعض كتب العلوم المقررة على طلابنا ومن دون استقصاء.
ولعل الدافع لذلك كله هو الشعور بالأمانة العلمية التي هي من أهم القيم والأعراف الأكاديمية، وهي تحتم على الباحث نسبة القول لقائله وإعادة الحق إلى نصابه والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، كما يوجب علينا الإنصاف والعدل حتى مع أعدائنا.
وقد كان هذا شأن العلماء الرواد في الحضارة الإسلامية عندما بدأت النهضة العلمية المبكرة في مرحلتها الأولى بترجمة مؤلفات الحضارات القائمة آنذاك من صينية وهندية وفارسية ويونانية، فنسبوا آراء أرسطو إليه وتعاليم بقراط الحكيم وفيثاغورث وبطليموس وغيرهم خصوصاً وأن الظروف السائدة آنذاك ليست مشحونة بين المسلمين والأمم الأخرى. كما هي عليه عند بدايات النهضة الأوربية. وكان للبلدان المفتوحة حديثاً دور بارز في احتكاك المسلمين بحضارات الأمم الأخرى عبر الباحثين والعلماء الذين اعتنقوا الإسلام بعدفتح بلادهم.
ولم يُؤثَر عن أحد من علماء المسلمين أنه انتحل رأياً لأحد أو فكرة أو كتاباً. وكان مانعهم من ذلك التزامهم بتعاليم دينهم وثقتهم بما قاموا به من أعمال رائدة جعلتهم في غنى عن التزوير والتزييف، فقد صححوا كثيراً من آراء من سبقهم وأخضعوها لمنهج علمي دقيق، وكانت لهم الريادة في وضع أساسات العلوم وهدايتها وتقويم مسيرتها والاهتمام بالتجربة العملية والثمرة التطبيقية من النظريات والعلوم.
أقوال عن الحقيقة:
يقول فرانس روزنتال في كتابه (استمرار علوم الإغريق القدماء في الإسلام) موضحاً دور موقف الدين الإسلامي من العلم وأنه الدافع والمحرك الكبير للنهضة العلمية عند المسلمين:
«... وموقف الإسلام هذا هو الدافع الأكبر في السعي وراء العلوم، وفتح الأبواب للوصول إلى المعارف الإنسانية، ولولاه لانحصرت الترجمة في أشياء ضرورية للحياة العلمية وحدها».
إلا أنه وعند أفول حضارة المسلمين وبداية انتقالها إلى الغرب عبر جامعات المسلمين في الأندلس وتوافد الطلاب من سائر بلاد أوروبا إليها وما أعقب ذلك من هيمنة الاستعمار الأوروبي على بلاد المسلمين واستيلائه على ثرواتها الاقتصادية والعلمية رحلت علوم المسلمين وذلك بنقل مخطوطاتهم وكنوز مكتباتهم وتراثهم وآثارهم إلى البلاد المستعمرة على حين غفلة من المسلمين آنذاك.
تمت هذه النقلة في أجواء عدائية بين المسلمين وأوروبا وكان الشعور السائد هو الحقد والضغينة والبغضاء مما انعكس بشكل واضح وجلي على عملية نقل العلوم والمعارف إلى أوروبا بخلاف ما كان عليه الوضع في بداية النهضة العلمية عند المسلمين. يقول فؤاد سزكين:«إن عملية الأخذ والتمثيل قد تمت لدى اللاتين على غير الصورة التي تمت بها عند العرب. ذلك أن المسلمين اهتدوا إليها بواسطة الذين اعتنقوا الدين الإسلامي –عند الفتح- وبواسطة مواطنيهم أصحاب المعارف الأجنبية. أما عند اللاتين فكانت على صورة أخرى: لقد كانوا –أعني اللاتين- مضطرين إلى أخذ المعارف، وإلى أخذ أنظمة المؤسسات المختلفة، وإلى أخذ أساليب الجامعات وبرامجها من الأعداء السياسيين والدينيين. لقد كانوا يشعرون بشعور المعاداة والبغضاء تجاه من يأخذون عنهم. وانعكس ذلك على عملية الأخذ بصورة عُقد نفسية. وطبيعي بعد هذا أن يفقدوا عنصري الوضوح والصراحة، وهما العنصران الأصليان في علمية أخذ المسلمين عن الآخرين»( ).
ونتيجة لهذه الأجواء انطبعت العلاقة العلمية بين التلاميذ وأساتذتهم بطابع الانتحال والجحود حيث انتحل التلاميذ علوم أساتذتهم ونسبوها لأنفسهم، يقول فؤاد سزكين: «وهناك أكثر من هذا، فقد اتخذت عملية أخذ اللاتين من علوم المسلمين صفة الانتحال، ولقد بيَّن هذا عدد من العلماء المتخصصين في بحوث كثيرة، إذ أظهروا كيف انتحل علماء لاتين لأنفسهم بحوثاً أخذوها من كتب العلماء المسلمين، أو انتحلوا كتباً كاملة ترجموها إلى لغتهم، زاعمين أنها من إبداعهم وتأليفهم، كما أنهم نقلواً كتباً عربية أخرى، ثم زعموا أنها لمشاهير من الإغريق مثل أرسطاطاليس وجالينوس وروفوس وسواهم».
ومن رموز هذا التيار المعادي زعيمهم روجيه باكون وريموندوس لولوس (الذي توفي سنة 1315م بعد أن بذل حياته وجهده في مقاومة كل شيء عربي، وألف عدداً كثيراً من كتب الكيمياء، ثبت أخيراً أن معظمها مؤلفات عربية)، وباراسيلسوس المشهور الذي كان ينتحل كتب العرب ويكافح تراثهم».
وفي مقابل هذا التيار الذي ينادي لتجريد العلوم من هويتها العربية، كان هناك تيار منصف دافع عن العرب بدافع تقديره للعلوم الإسلامية، وكان أبرزهم أندرياس الباغوس مترجم كتاب ابن النفيس الذي انتحله مايكل سرفت (Servet)، إلا أن تيار المعاداة ظل منتصراً عدة قرون إلى أن ظهرت الحركة الاستشراقية في القرن الثامن عشر، وبدأ الاهتمام بتراث العالم العربي والإسلامي وثقافاته.
شواهد ونماذج من مناهجنا:
وبنظرة سريعة لأحد الكتب العلمية المقررة في مراحل التعليم الأساسية وهي الكيمياء على سبيل المثال للصف الأول الثانوي نجد مصداق ما سبق ذكره خلال الأمثلة التالية:
أولاً: يقول المؤلفون في صفحة 16: (وعندما ترجم العرب المؤلفات اليونانية اطلعواعلى أفكار من سبقهم من العلماء وبحثوا فيها وأضافوا إليها)وهي عبارة تنطوي على شيء من الإجحاف بحق الحضارة الإسلامية ودورها في مسيرة العلوم، وذلك لأنها تجعل دور المسلمين منحصراً في الترجمة والبحث والإضافة فقط في حين أن جهود علماء المسلمين تتجاوز ذلك كثيراً، حيث أعادوا صياغة العلوم وصححوا كثيراً من الأفكار الخاطئة التي علقت بها وأخضعوها للتجربة العملية، فما أيدته التجربة قبلوه وما خالفها رفضوه، فأعادوا البحث العلمي إلى طريقه الصحيح وصححوا مسيرته بعد أن كادت أن تتخبط بسبب النظريات الفلسفية المجردة التي وضعها أرسطو فنقضوا آراءه بإمكان تحويل المواد الخسيسة إلى نفيسة، وقالوا باستحالة تحول المواد إلى ذهب وأنها مجرد طلاءات دون تغيير لحقيقة معدن الذهب، وكان منهم ابن سيناء وأيد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تقول الكاتبة زيغريد هونكه: «إن العرب لم ينقذوا الحضارة الإغريقية من الزوال ونظموها ورتبوها ثم أهدوها إلى الغرب فحسب، إنهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع، وبالإضافة إلى عدد لا يحصي من الاكتشافات والاختراعات الفردية في مختلف فروع العلوم والتي سُرق أغلبها ونسب لآخرين، قدم العرب أثمن هدية وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم».
ثانياً: نسب الكتاب هذا الإنجاز الذي مرَّ ذكره إلى الباحث روجيه بيكون(Roger Bacon) وغمز علماء المسلمين الذين ذكرنا فضلهم ودورهم في رفض فكرة أرسطو بعبارة لا تمت إلى المنهجية العلمية بصلة، وهي أقرب للتعابير الأدبية العاطفية البعيدة عن الدقة والمنهجية، علاوة على عدم صحتها وما فيها من تعميم وصف (التقليد الأعمى) وهو أبعد ما يكون عن الدقة والموضوعية. والعبارة هي:
«وفي القرن السادس عشر هاجم بيكون(Bacon) آراء أرسطو والتقليد الأعمى الذين جاراه العلماء فيه، وأيد فكرة تكوين المادة من ذرات، ودعاإلى إجراء التجارب وتكوين الملاحظات وإعمال الفكر السليم المبني على الحقائق والبراهين».
كيف يُوصَف علماء جهابذة أسسوا علم الكيمياء وصححوا مسيرته (بالتقليد الأعمى) نحن لا ننفي أن شريحة من المسلمين–هم الفلاسفة والمتكلمون- تابعت أرسطو، ولكن نقطع بأن بيكون ليس أول من هاجم آراء أرسطو ودعا إلى إجراء التجارب وتدوين الملاحظات وإعمال الفكر السليم المبني على الحقائق والبراهين-كما تنص عبارة الكتاب المقرر- بل كان ذلك جزءاً مما قدمه علماء المسلمين للحضارة وليس بيكون أو بويل الايرلندي، بل يُعتبر أهم إنجاز للعالم جابر بن حيان أنه أدخل العلوم إلى المختبرات وأخضعها للتجربة. يقول مؤرخ المنطق برانتل (C.Prantl): «إن روجيه باكون أخذ كل النتائج المنسوبة إليه في العلوم التطبيقية من العرب».
ويقول فيرمان بكل صراحة ووضوح: «إن ما توصل إليه روجيه باكون أقل بكثير مما كان موجوداً عند العلماء العرب القدماء، ويوضح أن مهمة العلماء المسلمين لم تكن تعتمد على التجربة وحدها. وإنما اهتموا في الواقع بمسألة أن التجربة يجب أن تسبقها النظرية».
ومما يعزز ذلك ويؤكده ما يقوله الباحث في تاريخ العلوم والحضارات فؤاد سزكين عن باكون في تعليقه على ظاهرة العداء لكل ما يمت للعرب والمسلمين بصلة:«ربما تمتد هذه الظاهرة إلى عهد روجيه باكون (1210-1290م) الذي اقتبس جميع ما نسب إليه من نتائج علمية من الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية».
ثالثاً: في صفحة رقم (18) وتحت عنوان (قوانين الاتحاد الكيميائي ونظرية دالتون)، يشرح الكتاب الأعمال التيقام بها بريستلي وبعده لافوازيه الفرنسي والتي أدت إلى استنتاج ما يُعرف بقانون (بقاء المادة)على الرغم من أن ما قاما به هو بالضبط ما أجراه العالم أبو القاسم المجريطي في القرن الرابع الهجري- العاشر الميلادي أي قبلهما بثمانية قرون تقريباً!
يقول د. الدفاع: «كما تطرق أ.ج. هولميارد في كتابه (الكيمياء حتى عصر دالتون) إلى هذه التجربة التي وضعها لنا جابر الشكري في كتابه (الكيمياء عند العرب) وتوصل هولميارد في نهاية المطاف إلى إعجابه بما توصَّل إليه أبو القاسم المجريطي من هذه التجربة، وهي القاعدة الكيميائية المعروفة (قاعدة بقاء الكتلة) أو بقاء المادة: (وهذا الناموس يقول بأن مجموع كتل المواد الداخلة في أي تفاعل كيميائي مساوٍ لمجموع كتل المواد الناتجة عن التفاعل، الأمر الذي أدهش معظم علماء الكيمياء)، كما أضاف هولميارد في كتابه (صانعو الكيمياء): «إن أبا القاسم المجريطي يكفيه فخراً أنه انتبه إلى قاعدة بقاء المادة التي لم ينتبه إليها أحد قط من الكيميائيين السابقين له، وبعد مضي عدة قرون طور كل من بريستلي ولافوازيه هذه القاعدة التي لعبت دوراً هاماً عبرالتاريخ، وتعتبر قاعدة بقاء المادة من أسس علم الكيمياء الحديثة.
نال أبو القاسم المجريطي شهرة عظيمة بتحضيره أكسيد الزئبق، حيث إن المجريطي لم يسبقه أحد في وصف التجربة التي أدت إلى تحويل الزئبق إلى أكسيد الزئبق. والجدير ذكره أن كلاً من بريستلي ولافوازيه استفادا من هذه التجربة، لذا يمكن أن نقول وبكل صراحة إن أول من حضَّر أكسيد الزئبق أبو القاسم المجريطي، ومن ثم أتى كل من بريستلي ولافوازيه فطوَّرا التجربة المخبرية التي قام بها أبو القاسم المجريطي».
رابعاً: وبعد ذلك كله ينسب الكتاب المقرر قانوناً آخر وهو قانون النسب الثابتة لفرنسي آخر هو براوست ويذكر المؤلف –على غير المألوف- أن القانون ينسبه البعض للجلدكي على وجه الشك دون جزم، في حين أن برنارد جافي في كتابه (بواتق وأنابيق) يقول عن الجلدكي وهو تلميذ للعالم المجريطي سالف الذكر: «ويعتبر آخر كاتب عربي معروف وهو القائل أن العناصر عندما تتحد بنسب في الوزن واحدة».
كما يقول أيضاً هولميارد في كتابه (الكيمياء في عصر دالتون): «إن الجلدكي توصل وبكل جداره إلى أن المواد لا تتفاعل فيما بينها إلا بنسب وأوزان ثابتة».
ويقول الدَّفَّاع: «وقد تحدث عزالدين الجلدكي عن قانون النسب الثابتة الذي لعب دوراً عظيماً عبر التاريخ، وشرحه شرحاً مفصلاً اعتمد عليه كل من كِبلَر وجاليليو ونيوتن في دراساتهم».
شاهدٌ آخر:
وبنظرة أخرى مماثلة لكتاب الكيمياء أيضاً للصف الثاني الثانوي نجد مايلي:
أولاً: عند الحديثعن أصل المواد العضوية وتقسيم المواد أورد المؤلفون في صفحة رقم (192) نبذة تاريخية عن تقسيم المواد بدءاً بتقسيم (العالم) لِمْرِي (Lemery) عام 1675م للمواد حيث جعلها ثلاثة أقسام وهي الخضروات والحيوانات والمعادن، في حين تجاهل الكتاب تقسيم الرازي المترجم له في أول الكتاب المتوفى عام302هـ-932م للمواد وأنها أربعة أقسام: المعادن والمواد النباتية والمواد الحيوانية والمشتقات.
كما تجاهل تقسيم العالم المجريطي (المدريدي) المتوفى في عام 398هـ-1008م.
ثانياً: في أول سطر وفي أول صفحة من الفصل الأول للكتاب تجد النص التالي:«لقد رأينا في كيمياء السنة الأولى الثانوية كيف أن دالتون قد استطاع في مطلع القرن التاسع عشر أن يفسر قوانين الاتحاد الكيميائي بنظريته الذرية التي تنص على أن العناصر تتألف من دقائق صغيرة تدعى الذرات، وأن الذرة هي أصغر جزء في العنصر، وأن ذرات العنصر الواحد متشابهة تماماً في جميع الخواص بينما تختلف العناصر باختلاف ذراتها» في حين أن هذا الكلام سبق أن قيل في عبارة أوضح منها وأدق علمياً وسابقة لها بألف عام، حيث يقول جابر بن حيان عالم الكيمياء الذي انتجته الحضارة الإسلامية ما نصه: «يظن البعض خطأً أنه عندما يتحد الزئبق والكبريت تتكون مادة جديدة في كلتيهما، والحقيقة أن هاتين المادتين لم تفقدا ماهيتهما، وكل ما حدث لهما أنها تجزأتا إلى دقائق صغيرة، وامتزجت هذه الدقائق بعضها ببعض، فأصبحت العين المجردة عاجزة عن التمييز بينهما، وظهرت المادة الناتجة من الاتحاد متجانسة التركيب، ولو كان في قدرتنا الحصول على وسيلة نفرق بها بين دقائق النوعين لأدركنا أن كلا منهما محتفظ بهيئته الطبيعية الدائمة، ولم يتأثر مطلقاً».
وكم كانت هذه العبارة دقيقة رغم تقدمها، وكم كانت ثقة جابر بن حيان في كلماته حين يجزم بأنه لو كانت الوسائل العلمية متوفرة لديه لاستطاع إثبات كلامه علمياً. ثم انظر عبارة المؤلفين عن دالتون (قد استطاع)! ( أن يفسر)!
ثالثاً: أهمل الكتاب عند الكلام عن استخلاص الذهب من مخلوطه مع الفضة الإشارة إلى جهود العالم الجلدكي في «أنه أول عالم كيميائي يتوصل إلى فصل الذهب عن الفضة بواسطة حمض النتريك الذي يذيب الفضة تاركاً الذهب الخالص»( ).
رابعاً: عند تعداد أهم طرق تحلية الماء في موضوع كيمياء الماء وفي صفحة رقم (92) ذكر طريقة التقطير دون نسبتها إلى مكتشفها العالم أبي المنصور الموفق الهراوي، حيث يقول المؤلف هولميارد عنه في كتابه (صانعو الكيمياء): (...واهتم بكيفية تحضير العقاقير بالتقطير والتصعيد(التبخير) وكذلك تقطير ماء البحر».
الأمانة التاريخية والواجب:
بعد هذا العرض السريع لبعض الشواهد والأمثلة يتوجه الحديث إلى فئتين لهما دور مهم في تلافي هذه السلبيات وتحقيق الأهداف السامية للتعليم هما:
أولاً: المسؤولون عن المناهج التعليمية بضرورة تعديلها أو أخذ ذلك بعين الاعتبار ولا يُكتفى بوضع نبذة موجزة في بداية الكتاب عن أحد علماء المسلمين قد تهتم بجوانب شخصيةٍ أكثر من اهتمامها بالجانب العلمي الحضاري.
هذه النبذة لا يهتم بها المعلم فضلاً عن الطالب، كما أنه ليس من المناسب أن تفرد بمادة مستقلة تكون عبئاً على الطالب تزيد من معاناته، لكن لعل الطريقة المُثلى أن تكون إشارات متفرقة مع كل مبدأ أو قانون أو نظرية علمية يشار إلى صاحبها ومكتشفها الحقيقي مع نص عبارته والمصدر الذي ذكرها فيه –إذا أمكن- لئلا يتخرج الأجيال منقطعين عن ماضي أمتهم المجيد وتاريخها العريق.
ثانياً: الأساتذة والمدرسون حيث إن لهم دوراً مهما في تلافي أي نقص في المناهج الدراسية وتعويضه وضرورة اهتمامهم بذلك واطلاعهم على منجزات المسلمين في تخصصاتهم لئلا يكونوا أدوات سهلة في تعميق هذه السرقات وترسيخها في أذهان الطلاب الذين يدرسونهم.
ومن المؤسف حقاً أن تجد كثيراً من الأساتذة يردد ما هو مقرر في الكتب الدراسية، وكثيراً من المؤلفين والمترجمين يرددون ما هو موجود في المراجع الأجنبية دون تمحيص. فلا عجب إذاً أن يستقر في عقول الطلاب تعظيم الحضارة الغربية وتبجيل علمائها الذين تنسب لهم الإنجازات زوراً وتعدياً.
إن المدرس الناجح في تصوري هو من يضيف إلى تمكنه من المادة العلمية والقدرة على توضيحها للطلاب إلمامه بتاريخ العلم الذي يدرسه والظروف التي واكبت نشأته وزامنت تطوره.
وبوجود هذه النوعية من المدرسين التي تحرص على ربط العلوم بتاريخها يمكن تعويض ما يفتقده الكتاب المقرر من إشارات ومقدمات تاريخية تثري الموضوع وتعمق العلاقة بين الطلاب والمادة المدروسة.
وأختم هذه الأسطر بكلمات مضيئة وتصريحات منصفة للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه حتى يشاركني القارئ شعور الاعتزاز والفخر بالماضي المشرق لأمتنا وشعور التفاؤل بالمستقبل حيث تقول في مقدمتها للطبعة العربية: «لهذا صمّمت على كتابة هذا المؤلَّف، وأردت أن أكرم العبقرية العربية وأن أتيح لمواطنيّ فرصة العود إلى تكريمها، كما أردت أن أقدم للعرب الشكر على فضلهم، الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصب ديني أعمى أو جهل أحمق» .
د. محمد بن ناصر الكثيري
- التصنيف: