خراب الديار بين الوهم واليقين

منذ 2011-02-08

من المعروف أن طالب الحق لا يهتم بشخص من يبينه أكثر من اهتمامه بالحق نفسه الذي يُعرَض عليه ومحاولته الاجتهاد وبذل الوسع والطاقة في الاستفادة مما فيه من النفع قدر الإمكان، إلا أن هناك بعض الأوقات التي ينبغي على المرء فيها أن يتحرّى ..


من المعروف أن طالب الحق لا يهتم بشخص من يبينه أكثر من اهتمامه بالحق نفسه الذي يُعرَض عليه ومحاولته الاجتهاد وبذل الوسع والطاقة في الاستفادة مما فيه من النفع قدر الإمكان، إلا أن هناك بعض الأوقات التي ينبغي على المرء فيها أن يتحرّى ويدقق فيما يصله من أخبار ومعلومات ومعارف يبني عليها قرارات قد يكون من جرّائها إزهاق أرواح أو انتهاك أعراض أو ضياع حقوق أو سرقة أموال أو تخريب ممتلكات سواء خاصة أو عامة.


ومن أمثال هذه الأوقات هذه الفترة التي تمر بها مصر هذه الأيام، فقد تم استغلال الأوضاع في انتهاك الحرمات واستباحة الممتلكات والتخريب والسرقات وغيرها من أنواع الإفساد الذي يقوم به أناس يستغلون أمثال هذه الأوضاع غير المستقرة وقلة المقدرة على السيطرة الأمنية المعتادة فيقومون بمثل هذه الأعمال التخريبية لأغراض شتى ومصالح كثيرة لانريد الخوض في تفاصيلها.

بالإضافة إلى ما تعرضت إليه التظاهرات والاعتصامات الأخيرة في ميدان التحرير بالقاهرة المطالبة بحقوق مسلوبة وأخرى مفقودة من اعتداءات فجة وممقوتة يعجز المرء عن وصفها لصراخة دناءتها وفظاظتها، فقد تعرضوا إلى اعتداءات بالرصاص الحي وقنابل المولوتف والقاء للحجارة ومحاولات تفريق بالـ"خيول" والـ"جمال" !! فكان سفك الدماء وضياع الأنفس التي قال الله تعالى فيها:
{مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة:32]
{قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا } [الكهف:74]
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّـهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } [الحج:30].

والتي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها:
«لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله من دمٍ يسفك بغير حق» (صححه الإمام الألباني لغيره في صحيح الترغيب عن البراء بن عازب رضي الله عنه).
«من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبلٍ فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلماً » (رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه).

وقال صلى الله عليه وسلم: « كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه).
هذا مع تضارب الأقوال والتباس الحق بالباطل فيما يعرض على الناس واستغلال الكوارث في مصالح شخصية.


هذه الأوقات التي يكون فيها الجميع في حالة من الضغط والتوتر والقلق وانعدام الثقة وعدم القدرة على استجماع قوى الإدراك اللازمة لاتخاذ القرار السليم اللازم لحفظ النفس والمال والعرض، في مثل هذه الأوقات أحياناً يكون عرض الآراء ووجهات النظر اجمالاً غير كافٍ لبيان المراد، ولكن يجد المرء نفسه وقد احتاج إلى التفصيل في المسألة بغية بيان الحق جلياً حتى تنشرح به الصدور ولا يكون ملتبساً على أحد من الناس.


ولأن أكونَ ذنباً في الحق أحبَّ إليَّ من أن أكونَ رأساً في الباطل.

مما ينبغي التأكيد عليه أيضاً في مثل هذه الأوقات هو عدم جدوى الاستماع إلى الأشخاص استماعاً مجرداً، خاصة بالنسبة لمن تصيبهم الأزمات بالتشتت وفقدان الوعي اللازم للحكم بإنصاف على الأمور والقدرة على الاختيار الجيد بين البدائل المختلفة، فلا ينبغي لهؤلاء أن يأخذوا رأي أو وجهة نظر أحد ممن يتصدر للتصريحات إلا أن يكون هذا الأخير ممن عُرفوا بين الناس واشتهر بالصدق والإتقان والأمانة والإخلاص وحب الحق وإرادة الخير، وإلا فمن ألزم نفسه - قبل غيره- بقول أحد من غير أهل الثقة والإخلاص والإتقان دون أن يُفصّل له الأخير في أبعاد وجهة نظره ويبين له الأساس الذي عليه بنى رأيه في المسألة واختار بين الاختيارات المتعددة، فهذا الأول يكون حينئذٍ مقلـّداً تقليداً أعمى في أمر قد يُحَمِّل فيه نفسه تـَبـِعات اختيار قام به غيره له على أساس رأي قد يكون فاسداً بسبب عدم اتقان أو عدم إخلاص أو عدم أمانة من قال به، بالإضافة إلى كون الأول غير قادر بالاستقلال في معرفة صلاحه من فساده بسبب نقص علم أو تشويش انفعالات أو ضغوط خارجية تمنعه من استجماع قوته للقيام بالادراك اللازم.


فأقل ما يمكنه فعله إذاً هو التحرّي وبذل الوسع في اختيار الشخص الذي ألزم نفسه برأيه حتى يعذر نفسه أمام الله تعالى فيما قد ينجم عن ذلك الاختيار من مفاسد أو مصالح، وما ينبغي عليه في حالة تضارب الأقوال والاختلاف في الآراء أن يرجح جانب الأتقن والأفضل من ناحية التخصص وليس بالتشهي.

فما بالنا بالالتزام بآراء أفراد ظهر بين الناس محاولاتهم للانتفاع بمجهودات غيرهم والمتاجرة بدماء الناس قبل أموالهم والقفز على إنجازاتهم والتسلق على أكتافهم لتحقيق مصالح شخصية محضة؟
فضلاً عن ظهور فساد آرائهم وذلك بالنظر إلى النتائج وتوقيتها وملابسات الأوضاع الحالية وأن الأمر قد يكون ابتداءً مجرد تصارع بين أفراد وتصفية لحسابات قد يذهب ضحية له أناس لا شأن لهم بكل ذلك!
وهذا من الاستغلال المرفوض بجميع المقاييس ومما يجب أن يعيَه هؤلاء الشباب جيداً ويربأوا بأنفسهم أن يقعوا فريسة لمثل هذا الاستغلال الدنيء.


ولن يكون المرء على بيـّنة من ربه من حق أو باطل إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
{لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:42]

سواء بنفسه إن أمكنه ذلك فإن لم يكن من الإتقان الكافي لفهم المراد فعليه بأهل العلم الثقات وينطبق عليه نفس الأمر أن يختر من بينهم الأتقن والأفضل والأشهر بالعلم والعمل والإخلاص وحب الحق والعمل لدين الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].


{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿٨٢﴾ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء:82-83]

{وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153]

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء:115].


وليعلم أن الله أعلم بسرّه قبل علنه فليجتهد إذاً وسعه حتى يُعذر أمام ربه:
{بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15]

فيلزمنا جميعاً في الفتن أن نلزم كتاب الله وسنة نبيه علماً وفهماً وفقهاً وعملاً وتعليماً:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران:103-105]


2/ربيع الأول/1432 هـ | 5/فبراير/2011 م
 

المصدر: كريم محمود القزق - خاص بموقع طريق الإسلام