تحية إلى شباب مصر !
لا ينسى التاريخ ذلك الموقف الخالد حين ضرب ابن الصحابي الجليل عمرو بن العاص ابنا لأحد المصريين وقال له: "أنا ابن الأكرمين"، فتوجه المصري إلى المدينة المنورة بابنه يشكو هذا الظلم إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستدعى الخليفة واليه..
لا ينسى التاريخ ذلك الموقف الخالد حين ضرب ابن الصحابي الجليل عمرو
بن العاص ابنا لأحد المصريين وقال له: "أنا ابن الأكرمين"، فتوجه
المصري إلى المدينة المنورة بابنه يشكو هذا الظلم إلى خليفة المسلمين
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستدعى الخليفة واليه عمرا وأمر أن يقتص
ابن المصري من ابن الحاكم القرشي وقال له: "اضرب ابن الأكرمين" وليرسي
هذا المبدأ الخالد: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحرارا؟!
منذ ذلك التاريخ ارتبط الإسلام لدى هذا الشعب بكل معاني العدالة
والحرية والمساواة والعزة والكرامة.
فعاش حرا عزيزا ولازال تحت ظلال الإسلام عشرات القرون من الزمان،
وكان على مر العصور الصخرة التي تحطمت عليها كل أطماع المحتلين، ولعل
أكثر ما يقلق إسرائيل أن تدب الحياة في هذا الشعب من جديد!
ومن المفارقات أن عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله منذ مئة عام كان
مضطهدا من الوالي التركي في حلب، ولم يكن هناك وقتها ملاذا آمنا
للحرية يعيش فيه و يعبر عن رأيه سوى مصر التي قصدها مثلما قصدها
الأفاضل من المصلحين والعلماء كالسيد محمد رشيد رضا، والشيخ محب الدين
الخطيب و غيرهم الكثير.
نشر الكواكبي بمصر كتابه الرائع "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"
ليصف المستبد حين يعشش بفساده ويبيض ويفرخ من أبناء الوطن مستبدين
صغارا، كلُ في موقعه.
يقول عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله:"الحكومة المستبدة تكون طبعاً
مستبدة في كل فروعها، من المُسَتبِد الأعظم إلى الشرطي, إلى الفرّاش,
إلى كنّاس الشوارع, و لا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً؛
لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة و حسن السمعة، إنما غاية مسعاهم
أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته, و أنصار لدولته, وشرهون لأكل
السقطات من أي كانت و لو بشراً أم خنازير, آبائهم أم أعدائهم, و بهذا
يأمنهم المستبد و يأمنونه فيشاركهم و يشاركونه, و هذه الفئة المستخدمة
يكثر عددها و يقل بحسب شدة الاستبداد و خفته, فكلما كان المستبد
حريصاً على التعسف احتاج إلى زيادة جيش الممجدِين العاملين له
المحافظين عليه, و احتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين
الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة, و احتاج لحفظ النسبة بينهم في
المراتب بالطريقة المعكوسة, و هي أن يكون أسفلهم طباعاً و خصالاً
أعلاهم وظيفةً و قرباً, و لهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد
هو اللئيم الأعظم في الأمة" انتهى كلامه رحمه الله.
صدق من قال:"إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة" وبالفعل فليس بعد
الاستبداد من فساد، بل إنه قد بدا جليا الآن أن الاستبداد أبشع وأنكى
على الشعوب الأبية من الاستعمار، فقد جربت مصر الاستعمار وعجز
المستعمر أن يبقى فيها طويلا؛ إذ وحد صفوف شعبها بجيشه وأمنه وأسلحته
في مقاومته، فدفع تكلفة عالية وعانى من مواجهات دامية، بينما تمكن
المستبد بالوكالة عن المستعمر أن ينهك البلد ويستنزف الثروات ويدمر
المقدرات.
لقد ذهب البعض إلى أن الإنسان بطبعه يميل إلى الاستبداد وبرهنوا على
ذلك بأن الإنسان جبل على حب الذات وشح النفس التي تشكل النواة
الرئيسية للاستبداد، و قالوا إن الإنسان ربما يكون أكثر ميلا إلى
الظلم والأثرة منه إلى العدل والإيثار ولا سيما إذا ابتعد عن منهج
الله تعالى، ولا يحجز الإنسان عن الظلم سوى القيم الراسخة في النفس
التي تحضه على العدل وتطالبه بإعطاء كل ذي حق حقه أو أن يتصدى له
الناس فيأخذوا على يديه لينالوا حقوقهم، ولعل هذا ما أشار له الشاعر
المتنبي حين قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعلة لا يظلم
أي أن النفوس تميل إلى الظلم بطبعها، وحينما تعدل لا يكون ذلك إلا
لعلة دفعتها لذلك وعلى رأسها بالطبع مخافة الله تعالى.
ولا شك أن السلطة من أشد دواعي الظلم لأنها تغري من يبتلى بها بإتباع
الهوى، وأكل حقوق الناس، فإن لم يتصد الناس له بالوسائل المشروعة
كالنصيحة والمطالبة بالحق والتعبير عن الرأي وإلا ضاعت الحقوق وكثرت
المظالم بين العباد؛ لهذا وقف الرجل في وجه عمر بن الخطاب رضي الله
عنه شاهرا سيفه وقال: والله لئن لم تستقم إلا بهذا لقومناك به يا عمر
فحمد عمر الله أن في أمته من يقول له ذلك. وقام آخر فقال: اتق الله
واعدل بيننا يا عمر فنهره رجل وقال: أتقول لأمير المؤمنين ذلك؟! قال
له عمر: دعه فليقلها؛ لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم
نسمعها.
وأنا اتفق مع من وصف العسكريين بأنهم أكثر الناس استبدادا بحكم
طبيعتهم، تماما كالسجانين فلا يتصور أن يكون السجان من أنصار الحرية،
وكذلك العسكريون بطبيعتهم وبمقتضى الجندية والانضباط الذي تربوا عليه
لا ينحازون إلى الحرية ولا يقبلون على الحوار ولا يتحملون المناقشة،
ولا يحسنون الاستماع ومن يخدم في الجيش المصري يطلع عن قرب على مفردات
لغتهم التي تعبر عن طبيعتهم الصارمة من أمثال "أطع الأوامر.. نفذ
التعليمات.. لا تناقش.. لا تفتح فمك.. اثبت محلك.. الزم حدك.. انصرف"
فمن الصعوبة على الرجل العسكري أن يتراجع عن رأيه أو أن يعترف بخطئه،
أو أن يسمع لغيره، وإذا سمع فمن الصعوبة أن يقتنع! على طريقة فرعون {
مَا
أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشَادِ} [غافر:29].
وقد ظهر ذلك جليا حينما خرجت المظاهرات في كل ربوع مصر تطالب برحيل
الرئيس، وكأن الرجل لم يسمع! ضاربا بإرادة الجماهير عرض الحائط بحجة
أنه رجل عسكري!
إن هذه اللحظة التاريخية الحاسمة التي تمر بها مصر تستلزم من جموع
المثقفين أن تراجع طبيعة النظام الذي يحكم هذا البلد العظيم، فالعسكري
بطبيعته الاستبدادية لا ينجح في الغالب أن يكون ربا لأسرة فضلا عن أن
يكون حاكما لشعب!
وأخيرا.. لقد طوى الشعب المصري بفضل الله هذه الحقبة التعيسة، وانتفض
اليوم ليهدم أسوار القهر، وينفض غبار الذل ويسطر بإذن الله صفحة جديدة
لحياة كريمة يسترد فيها عافيته ويحرر إرادته.
إن الإنسان حينما يمتلك حريته يكتشف ذاته ويستشعر إنسانيته وكرامته
وانتماءه، فينطلق منتجا مبدعا ليدهش العالم كله بمخزون هائل من
الطاقات في كل ميادين الخير والصلاح.
فشكر الله لكم يا شباب مصر.. لقد أعدتم لنا الروح، وجددتم فينا
الأمل، حفظكم الله ورعاكم، وأيدكم وسدد خطاكم، وجعلكم ممن قال الله
فيهم {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف
:13].
- التصنيف: