فرعون ..1

منذ 2017-03-25

في تلك الحالة لا يعتبر ذلك الوحش تسلطه أمراً يستدعي تعجباً أو دهشة ولا يتصور أن أحداً يمكن أو يحق له أن ينكر عليه حقه في التحكم بمجريات القطيع .

لقد كان فرعون نموذجاً مثالياً لتحول الظلم والاستبداد والطغيان إلى سجايا وطباع وخصال تمتزج بروح ونفس الظالمين حتى تصير بعد حين  حقا مكتسبا يراه مقترفوه شيئا طبيعيا للغاية ويتعجبون جدا من تلك الأصوات (النشاز) التي تستنكره وترفضه

إن الظالم والمستبد بعد هذا الامتزاج والتحول الكامل يتعامل مع الأشياء بمنطق القوة وحسب

وهذا ما حدث لفرعون.. 

إنه شيء يشبه الحياة البرية في الأحراش والأدغال البدائية حين يبسط الحيوان نفوذه من خلال القوة ويصير متسلطا على باقي القطيع الذين يرهبونه لقوته ووحشيته

في تلك الحالة لا يعتبر ذلك الوحش تسلطه أمراً يستدعي تعجباً أو دهشة ولا يتصور أن أحداً يمكن أو يحق له أن ينكر عليه حقه في التحكم بمجريات القطيع .
هذه هي ذات النفسية التي يتعامل بها المستبدون الذين تغلغل في نفوسهم الاستبداد والتيه بالقوة والجبروت حتى لم يعد الفساد في أنظارهم فساداً ولا الظلم ظلما بل هم أثناء ممارسة كل ذلك لا يجدون أدنى غضاضة ولا يشعرون أصلا أنهم يأخذون أكثر من حقهم الذي يعد الناس  وكل حقوقهم  جزءا يسيراً منه

جزء من حق المستبد في الحياة

بل ربما تكون الدهشة والتعجب من أولئك الذين يرفضون الرضوخ ضمن القطيع لذلك الحق البديهي الذي آمن فرعون إيمانا راسخا بأنه له ومن ثم كان تعجبه من أولئك الذين لا يخضعون لسطوته ولا يقبلون بألوهيته ولا يستسلمون لاستعباده الناس وتسخيرهم لرفاهيته فتجده يتساءل في استنكار مندهش تساؤلا يكشف لك عن تصوراته المتأصلة بأن ما يفعله هو حقه الطبيعي تماما ضمن تلك التركة التي قرر أنها بكل ما فيها ومن فيها  ملكه وتحت تصرفه.

نعم ببساطة هو يتصور أن آحاد الرعية وأهلهم وأرضهم وأموالهم وأموال آبائهم بل وآباءهم أنفسهم ملكيات خاصة له وميراث مسخر لإسعاده

إنه يتساءل تساؤلا جامعا يكشف لك عن حقيقة تلك النفسية المتسلطة التي تشربت الأمر حتى النخاع حتى قالت بكل بديهية:  
أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟!

إنه إذن حقي الطبيعي وإرثي الفرعوني.. 

فمما تعجبون وعلى ماذا تعترضون؟! 
غريب أمركم حقا!! 

وحين يصير استعباد الخلق  حقا طبيعيا راسخا ويتحول إلى أسلوب حياة لا تشوبه شائبة ندم أو أدنى إحساس بوخز ضمير تسببه تلك الجريمة فإن الأمر يتطور ولا يقف عند هذا الحد

وهذا ما حدث لفرعون

 لم يكتف باستعباد الناس واعتبار ذلك حقه الطبيعي الذي تكفله له قوته ويؤهله إليه ملكه والأنهار التي تجري من تحته

 بل تمادى حتى جعل ذلك الاستعباد نعمة ومنة يمُنّ بها على من استعبدهم  وأذلهم

والحق أنه لم يجرئه على ذلك إلا تلك النفوس الذليلة التي لم تستطع أن تقول له يوما: لا

لهذا انطمست في نظره حقيقة ما فعل فصدق أنه  إله يعبد  بل واعتبر ذلك الإذلال هو محض امتنان منه على الناس وكفاهم فخرا أنه ربهم الأعلى

وطالما لم يجد من يعارض زعمه أو يرفض إذلاله وبغيه فليفعل إذاً ما بدا له

{وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل

 كانت هذه الجملة صادمة التي صدع بها نبي الله موسى في وجه كاشفة حاسمة تبين ظن فرعون واستخفافه بالخلق

لكن هل كان هذا الظن والامتنان محض خيال من فرعون؟! 

لا وألف لا
 لقد ساعده من استخفهم على ترسيخ ظنه

أولئك الذي يرون الاستعباد منّة ويعتبرون الإذلال نعمة فيفخرون بمُذليهم ويمتنون لمستعبديهم ويرقصون طربا لمنتهكيهم وساحقيهم 

فإن وُجدوا وفعلوا فماذا تنتظر من فرعون إلا أن يمن عليهم بتلك النعمة العظيمة التي فرحوا بها؟! 

نعمة الاستعباد
وبالتالي سيزداد هو علوا

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ}
 
ولم يكن فرعون ليعلو في الأرض لمجرد إرادته ذلك العلو أو تصوره أنه يستحقه

ثمة خطوات واضحة واستراتيجية ناجحة من دونها لم يكن فرعون ليصير طاغية يملأ مركزه التاريخي الذي عرف به

أولا التفريق وبث الانقسام.
ثانيا استضعاف طائفة منهم وليس كلهم.
ثالثا القتل والإذلال.
رابعا الإفساد في الأرض.

هذه هي الخطوات التي التزم بها فرعون حتى صار (فرعونا) 

 أولى تلك الخطوات كما سبق وأشرت  التفريق
بث الانقسام
فرق تسد

{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}
أحزابًا متناحرةً وفرقًا منقسمةً يبغض بعضها بعضًا وينشغل بعضها ببعض
ومن خلال التفرق والتشرذم والتنازع الذي هو أول طريق الفشل يخلو الجو لفرعون ويضمن استمرار كونه الأقوى بين تلك الشيع المتحاربة التي يضعف بعضها بعضًا
لذلك سيحرص الفرعون دوما على استمرار الانقسام وترسيخ الكراهية المتبادلة بين أبناء الشعب والتي تجعل أولويات العداوة والبغضاء بينهم بعضهم البعض وليست  بينهم وبينه حتى لو كان يذلهم ويبطش بهم جميعًا

ثم يأتي دور الاستضعاف
وفرعون يحرص على استضعاف بعض الطوائف التي تشكل خطورة على استبداده وترفض طغيانه أو حتى يمكنها أن ترفضه مستقبلًا
لكنه لا يستضعف الجميع بل البعض وليس الكل
{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُم}
وفي ذلك فوائد حيث يزيد ذلك التفريق في المعاملة من ترسيخ كراهية المستضعفين المظلومين للآخرين الذين لم يستضعفوا وأيضًا يزيد من حرص الذين لم يستضعفوا على مزيد من التملق والنفاق أو الانبطاح والسكوت عن ظلم الطاغية حتى لا تزول عنهم امتيازاتهم ويضمهم الطاغية إلى قوافل المستضعفين

والاستضعاف له أشكال مختلفة ويحرص المستبد على ترسيخ قاعدة من الخوف لا سقف لها فـ... 
{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ}  

إنه بذلك يرسل رسالة ضمنية أنه قادر على الأسوأ وأنه حتى الأطفال والنساء لم ولن ينجوا من قبضته الباطشة وتنكيله البغيض فما بالك بغيرهم؟! 

ثم تأتي الخطوة الثالثة
 الإفساد
يعد الإفساد في الأرض من أهم أهداف فرعون وغرضه من ذلك الإلهاء وبث روح الغفلة بين الناس لكن ينسوا ما يلاقون من الآلام والظلم عن طريق الإغراق في الشهوات والملذات وتيسير الملهيات والمفسدات التي تنشىء جيلًا ضعيفًا غافلًا لا يعني إلا بشهواته ولا يعرف شيئًا عن قضايا أمته
لكن كل هذا المكر قد يبور من خلال آخر وسيلة يمكن توقعها