فرعون .. 3

منذ 2017-03-25

وكذلك حامل الرسالة ليس لديه ترف تضييع الوقت في معارك جانبية فلا ينشغل إلا بهدفه ولا ينفق وقته أو يضيع حياته القصيرة إلا ابتغاء تحقيقه والعمل لأجل الوصول إليه

وبعد الأمر بالذهاب وتذليل الصعاب والاستجابة للدعاء يأتي الأمر بالقول

سيذهب موسى وهارون إلى فرعون
وسيقولا له قولا
أولى خصائص هذا القول أنه لين! 
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى

قد يظن البعض أن ثمة تعارض بين الأمر بالقول اللين لفرعون أثناء دعوته والذي نصت عليه سورة طه؛ وبين رد موسى على فرعون في آية الإسراء
{وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}  أي هالكًا يأخذك الله

والحقيقة أنه ليس هناك تعارض وذلك لفارق التوقيت والسياقات 
إن سياق الآية الأولى يشير إلى بداية الدعوة
مفتتح تعريف فرعون بالله ودعوته ويناسب ذلك القول اللين المنتقاة ألفاظه إذ لا يعقل أبدًا أن يبدأ الإنسان دعوته بالإغلاظ على الناس 
لا بد ابتداء من تعريفهم وبيان الحق لهم بلين ورغبة صادقة في الهداية
وهذا ما فعله موسى فقال بدماثة ورفق: {هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى}
لكن بعد الدعوة الدمثة والنصح الصادق المشفق اللين وإظهار الآيات والمعجزات ومقابلة ذلك كله بالجحود من فرعون والإيذاء  والوعيد بالمزيد  كانت الأخرى

  {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا

فها هنا سياق متأخر بعد مراحل التكذيب الرهيب والجدل العقيم والصراع المرير الذي سنتعرض إلى جوانب منه في السطور القادمة
 ومع اقتراب الإهلاك وعلم موسى بذلك كان لا بد من إعلان وبيان للمصير الذي ينتظره

كان المقام قد تحول إلى مقام مفاصلة وسياق تحدي لا يستعمل فيه اللين 

 ووضع النّدى في موْضعِ السّيفِ بالعلى مضرٌّ كوضْع السيفِ في موضع النّدى. 

للين موضعه
وللشدة موضعها
حتى مع فرعون!

لكن فرعون من محترفي التشتيت ومن متقني الجدال العقيم والسفسطة الفارغة والخالية من أي منطق وهو يعشق التشغيب على الحجج والبراهين بمحاورات فرعية واتهامات وهمية كل الغرض منها التشويش على حملة الحق ودعاة الصدق 

ولعل من أهم وأرقى الخصائص التي اتصف بها موسى عليه السلام وظهرت على خطابه بشكل واضح كما ظهرت على كلمات وردود تلامذته وأتباعه ومن اهتدوا بدعوته كمؤمن آل فرعون والسحرة بعد إيمانهم , التركيز على الهدف وعدم الانصراف للمعارك الجانبية التي يحاول فرعون إشغالهم بها وتشتيتهم عن أهدافهم من خلالها 

بمجرد أن أتاه موسى برسالته وطالبه بإرسال بني إسرائيل معه حاول فرعون صرفه إلى تلكم المعارك الجانبية والتشتيتات والتشغيبات الفرعية

{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } كان من الممكن لنبي الله موسى عليه السلام أن يرد بردود كثيرة وأن يبرر مقتل الرجل المصري

كان من الممكن أن يبين أنه قتل خطأ وأنه لم يكن يقصد أبدا قتله
كان من الممكن أن يوضح أن الرجل كان معتديا صائلا و أنه فقط كان يدفعه فحدث ما حدث
كان من الممكن أن يربط الأمر بجرائم فرعون الكثيرة في حق قوم موسى من تذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم
كان من الممكن أن يقول الكثير و الكثير. .

لكنه لم يفعل! 

لم يستدرج إلى مراء التبرير ولم يضيع الوقت في متاهات الجدال
إنه صاحب رسالة جاء لمهمة ولديه هدف عليه أن يحققه

لقد تجاوز تشغيب فرعون باعتراف مباشر بسيط قائلا: "فعلتها إذا و أنا من الضالين"

نعم قد فعلت ولن أقف طويلا مع هذا الأمر أو أدفع عن نفسي شيئا قد حدث وقد نُفيت بسببه سنين عددا بعد أن تآمرتم لقتلي دون تحقيق أو تبين

فعلتها و تبت  و استغفرت في حينها ودفعت الثمن من سنين غربة و إبعاد وخوف وترقب تآمر وقتل

فعلها موسى إذن و لم يبررها أو يزينها
ثم عبر إلى الأهم
إلى دعوته ورسالته
لم يضيع الوقت في غيابات التبريرات ليذهب مباشرة إلى هدفه الذي يعلو على الاشخاص والأحداث و يسمو على التفاصيل و الزلات
وليستمر في دعوته 

{قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ  } فهل توقف فرعون عن ممارسة هوايته أو إن شئت فقل: حرفته وخلاصة مهارته
محال
إنه متخصص في تلك الطريقة السمجة المقيتة
لقد استمر في تشغيبه وتشويشه بالمعارك الجانبية
{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ  } لم يلتفت موسى وأكمل: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}

فما كان من فرعون العاجز عن رد الحجة بمثلها إلا أن استمر في تفاهاته وحماقاته
{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون }

هنا يلجأ فرعون إلى تشغيب من نوع مختلف 
السباب والإهانة والانتقاص والتشكيك في شخص الداعي
فهل التفت موسى أو رد هذه التهم السفيهة عن نفسه؟!
أبدا
لقد استمر في مهمته السامية
دعوته

{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ  }

عندئذ أفلتت أعصاب الطاغية وظهر تمام عجزه
 لا حيلة تتبقى إلا الإكراه والجبر أو القمع

 قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين
ومع كل هذا استمر موسى ولم يلتفت

ولقد تعلم الدرس أتباع موسى والمؤمنون برسالته
لعل أوضح النماذج على ذلك ما فعله الرجل المؤمن من آل فرعون وقد تشرب طريقة نبيه وفهم غايته وهدفه

لقد حاول فرعون اتباع نفس أسلوب التشويش المتهافت مع الرجل الذي قيل أنه ابن عمه فقابل دعوته بكلمته الفاضحة لحقيقته
وبعد أن كانت البداية "ذروني أقتل موسى" يدعي بها أنه حريص على الشورى واعتبار رأي من حوله إذا به يظهر حقيقة طغيانه بعد أن فضحها قريبه بحسن منطقه ووضوح حجته

{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ }

فهل التفت الرجل المؤمن أو انشغل بتشغيبه 
الجواب: لا
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ
استمر في دعوته غير آبه بترهات فرعون التي وصلت إلى مستوى من السماجة والضحالة لم يسبق له مثيل

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ .أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } إنها نبرة مألوفة من نبرات سخرية وربما حماقة الفراعين ..
هل تمزح يا فرعون؟
أى صرح من الطين ذلك الذي سيبلغ أسباب السماء؟!
أوبعد كل تلك الحجج والبينات التي أتاك بها موسى، ورددها مؤمن آل فرعون على
مسامعك لازلت تكابر، وتتحدى، وتمارى؟!

ما أثقل ظل الفراعين وما أشد سماجة الطاغين

الحقيقة أنها ليست شبهة أصلًا فقد ختمها بقوله: {وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا}
إنه كالعادة التشغيب والسخرية والتسفيه وتزيين سوء العمل والصد عن السبيل
{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ

ومثل هذا لا يلتفت إليه

لذا لم يلتفت إليه الرجل المؤمن من آله وأكمل دعوته الهادئة الوضيئة واستمر في أشرف وأحسن قول يمكن أن يوفق إنسان لقوله ..

 البلاغ عن الله ..
 الدعوة إلى الله ..
أكمل موعظته دون التفات لسماجة أو سخرية وتشغيب عساها أن تجد قلبًا ينشرح لها، بدلًا من قلب هذا الطاغية القاسي المظلم العتيد ..

أكمل كأن لم يسمع تلك الشبهة التافهة

أكمل لأنه يعرف هدفه ولا ينشغل إلا به

وكذلك حامل الرسالة 
ليس لديه ترف تضييع الوقت في معارك جانبية فلا ينشغل إلا بهدفه ولا ينفق وقته أو يضيع حياته القصيرة إلا ابتغاء تحقيقه والعمل لأجل الوصول إليه
مهما شغب الفراعين أو سخروا أو شوهوا
هو أبدا لا يلتفت
فلأمثال فرعون  لا يُلتفت