الآثار الاستراتيجية لفتوى شيخ الأزهر
منذ 2004-04-12
أُثير في الأيام الأخيرة موضوع الحجاب في فرنسا ومنع المحجبات من دخول
المواقع الرسمية فيها، فتصدّى المسلمون في الغرب لهذا القرار، وساندهم
في ذلك علماء المسلمين ومفكّروهم ودعاتهم وعامة المسلمين في العالم،
فنطقت الألسنة والأقلام وخرجت المسيرات والمظاهرات احتجاجاً على هذا
القرار الذي يعتقد المسلمون أنه أساء إلى فرنسا وصورتها إساءة كبيرة
قبل أنه يسيء إلى المحجبات.
ولكن الأمر الذي هو أشد من هذا القرار وأكثر إيلاماً منه هو فتوى شيخ الأزهر سيد طنطاوى التي أعطى فيها الحق لفرنسا لاتخاذ مثل هذا القرار وطلب من المسلمين في فرنسا قبول هذا القرار والرضوخ له.
نحن ندرك أنه لا يجوز للمسلمين اختزال الإسلام في موضوع الحجاب، كما أنّ عليهم أن لا يعتبروا أن المعركة الكبرى التي يواجهونها اليوم هي معركة الحجاب، فهناك قضايا أعمق وأكبر مثل قضية فلسطين وقضية العراق والهيمنة الصهيوامريكية وغيرها من القضايا المحورية التي يتوجب على المسلمين التصدّي لها.
ولكننا أيضاً ندرك أن قضية الحجاب تمسّ واقع عشرات الملايين من المسلمين في الغرب، وأنها إحدى قضاياهم التي لا يمكن التخلي عنها، وأن السماح أو التبرير لنزع الحجاب فيه من المفاسد والمضار الشيء الكثير، فضلاً عن أن الحجاب هو فريضة فرضها الله على المسلمين بنص القرآن، وقد أجمع علماء المسلمين على ذلك، حيث يقول تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن } [ النور: الآية 31 ] ، ويقول كذلك: { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } [ الأحزاب: الآية 59 ].
إنّ فتوى شيخ الأزهر قد أصابت جموع المسلمين في مقتل وصدمتهم أيما صدمة.
فظلم ذوى القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند.
إنّ القيام بالفتوى لهو أمر عظيم، إذ حقيقة الفتوى هي التوقيع عن الله تعالى، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم في إعلام الموقّعين: " إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لا يُنكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيِّات، فكيف بمنصب التوقيع عن ربّ الأرض والسماوات ؟!! فحقيق بمن أٌقيم في هذا المنصب أن يُعدَّ له عُدّته، وأن يتأهّب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أُقيم فيه، ولا يكون في صدره حرجٌ من قول الحقّ والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاّه بنفسه ربّ الأرباب، فقال تعالى: { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ .. } [ النساء: الآية 127 ] .
ونظراً لخطورة الفتوى وأثرها البالغ فقد وضع فقهاء المسلمين شروطاً صعبة لمن يقوم بها، ومنها: أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً فقيهاً مجتهداً عدلاً، وأود هنا أن أنقل ما ذكره الدكتور عبد الكريم زيدان ( أصول الدعوة/151-160) فيما يتعلق بشرط العدالة حيث يقول:
" العدالة هيئة يكون عليها المسلم، من مقتضياتها ولوازمها فعل المطلوب شرعاً وترك المنهي عنه شرعاً، وهجر ما يخرم المروءة ويوقع في التهم والشكوك، وأن تكون أخلاق صاحبها وسلوكه على النحو اللائق بعلماء الإسلام.
هذا وإنّ ما يناقض العدالة ليس على درجة واحدة من القبح وشدة المناقضة، ولهذا كان بعضها مسقطاً للعدالة دون بعض، فالمسقط منها مثل القول على الله ورسوله بغير علم إمّا عن طريق الابتداع في الدين أو بالتأويلات الفاسدة الظاهرة الفساد والبطلان، ومثل مجاراة الظلمة والإفتاء لهم بما يشتهون، وأخذ الرشوة ونحو ذلك. وغير المسقط للعدالة مثل ارتكاب الصغيرة من المعاصي وعدم الإصرار عليها.
وقد اشترط العلماء شروطاً أخرى في المفتي ليتمكن من أداء وظيفته على نحو جيد وسليم، فقالوا: يشترط فيه أن يكون على قدر كاف من اليقظة وجودة الذهن والمعرفة بالناس ومكرهم وخداعهم حتى لا يقع في هذا الخداع وذلك المكر، وأن يكون صلباً في دينه لا تأخذه في الحق لومة لائم، وأن لا يتأثر بوعد أو وعيد، وأن يكون على قدر كبير من الورع والزهد ومخافة الله تعالى ". ( انتهى).
أرجع مرة أخرى إلى فتوى شيخ الأزهر حفظه الله تعالى لأبين بعض الآثار الاستراتيجية الخطيرة لهذه الفتوى على الأقليات الإسلامية في الغرب خصوصاً وعلى جمهور المسلمين في العالم عموماً ولعل من أهم هذه الآثار السلبية ما يلي:
أولاً: إنّ قضية منع الحجاب في فرنسا تتجاوز الواقع الفرنسي لتنعكس سلباً على حال الأقليات المسلمة في الغرب عموماً، فإنّ هذه الفتوى قد فتحت الأبواب على مصاريعها للغرب للاعتداء على شعائر الإسلام ومضايقة المسلمين ومنعهم من ممارسة فرائض الله تعالى، فاليوم الحجاب، وغداً المساجد والصلاة، وبعد غد المدارس الإسلامية والتعليم، وهكذا. ولهذا رأينا بعض البرلمانين والشخصيات الرسمية في بعض دول أوروبا بدأوا ينادون بصوت مرتفع بما نادت به فرنسا. بل العجيب أن وزير الداخلية الفرنسي الذي اجتمع بشيخ الأزهر في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه سماحة شيخ الأزهر موقفه، أقول إن وزير الداخلية هذا قال أنه كان من المعارضين لفكرة سن قانون حظر الحجاب داخل الحكومة الفرنسية، فلما وجد موقف شيخ الأزهر هكذا تشجع لمناصرة باقي حكومته في حظر الحجاب!! وكذلك رأينا أن الرئيس الفرنسي قد وسع نطاق حظر الحجاب بعد هذه الفتوى لتشمل جميع المرافق والمؤسسات الرسمية!.
ثانياً: لقد عمل المسلمون في الغرب لعشرات السنين من أجل أن يُثبتوا وجودهم كجاليات مواطنة لها استقلاليتها ودورها وليس كأقليات مهمشة، ولقد عملت فرنسا طويلاً لإذابة المسلمين في المجتمع الفرنسي العلماني وطمس هويتهم الإسلامية، ولكنها فشلت في ذلك، بل انقلب السحر على الساحر، وبدأ الفرنسيون يدخلون في دين الله أفواجاً، حتى تقدر بعض الإحصائيات أنّ عدد الفرنسيين الذين يدخلون في الإسلام سنوياً هو (30) ألف فرنسي. ولمّا ذهب وفد من المسلمين الفرنسيين إلى جاك شيراك محتجّين على تعيين رجل غير مرغوب فيه لدى الجاليات الإسلامية في فرنسا وفرضه رئيساً للمجلس الإسلامي الفرنسي رغم أنّ الانتخابات جاءت بغيره، قال لهم شيراك: لم أنتم مستعجلون؟ بعد خمسين سنة ستحكمون أنتم فرنسا. إنّ فرنسا لمّا فشلت في طمس هوية المسلمين لجأت إلى حصارهم بمثل هذه الممارسات، رغبة في قطع رأس الإسلام في الغرب، ولقد جاءت فتوى شيخ الأزهر لتعطي الشرعية لمثل هذه الممارسات ولتصبّ الزيت على النار ولتزيد من محاولات تهميش المسلمين في الغرب.
ثالثاً: إنّ هذه الفتوى ستؤدّي إلى عزل المسلمات المحجبات عن المجتمع، وإلى النظر إليهنّ وكأنهن مخطئات أو مرتكبات لجريمة، ولا شك أن في ذلك إساءة للإسلام وإهانة للمسلمين في الغرب.
رابعاً: إنّ الحجاب في قلب المجتمعات الغربية هو بمثابة الهوية الظاهرة أمام الجميع، لذا تعتبر محاولة إلغائه هي إلغاء لتلك الهوية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
خامساً: قد يفهم من هذه الفتوى أنها دعوى ( غير مباشرة) للسفور والتبرج (وإن كنّا متأكدين أن صاحب هذه الفتوى لا يقصد ذلك ولا يريده) وهي في المجتمع الغربي أكثر إيلاماً وأشد فتكاً، وإنّ مؤداها إلى فساد مبرر، خاصة وأنّ الحجاب ليس رمزاً فقط للمسلمين وإنما له هدف محدد وهو الستر والعفاف الذي دعا إليهما الإسلام وشدد عليهما.
سادساً: إنّ مثل هذه الفتاوى تزيد من الإحباط واليأس في قلوب عامة المسلمين بل تشعرهم بالدونية والصغار، وتغرس في نفوسهم الاستسلام والانقياد للغرب، في زمن المسلمون أحوج ما يكونوا إلى ما يزيدهم عزة وكرامة وافتخاراً بهويتهم ودينهم. لقد مزقت هذه الفتوى قلوب كثير من المسلمين الغيورين على دينهم، فزادتهم غماً على غمهم وحزناً إلى أحزانهم، وربما يحق فيهم قول المتنبي حين قال:
إنّ الإسلام في فرنسا يعتبر ثاني ديانه، وإن المسلمين فيها يبلغ تعدادهم أكثر من خمسة ملايين، ولذا فإن مطالبتهم بإظهار دينهم هو حق مشروع لهم، فعلام نسارع بفتاوى تعطل عليهم حقوقهم وتجرئ خصومهم عليهم ؟!
سابعاً: إنّ كبت الحرّيات والتعدّي على حقوق الإنسان يولد الكراهية ويزيد مما يسمونه بالتطرف، والسؤال الذي يطرح نفسه: من سيكون المسؤول عن انتشار هذه الظاهرة؟ هل هو الضحية المعتدى على حقوقه الممنوع من ممارسة بعض شعائر دينه أم المسؤول هو المعتدي الذي انتهك الحقوق ومن برر له انتهاكه هذا ؟!!
ثامناً: إنّ هذا النوع من الفتاوى يضعف من مكانة شيخ الأزهر ويذهب بمصداقية هذا المنصب، ولا شك أن هذا الأمر ليس في صالح الإسلام ولا المسلمين، إذ المسلمون بحاجة إلى علماء عاملين مجاهدين أقوياء يرفعون من رؤوسهم ويشدود من عزائمهم ويجهرون بكلمة الحق لا يخشون في الله لومة لائم، ولعل الأزهر الشريف كان عبر التاريخ مثال لتلك المرجعية المقدرة في نفوس المسلمين إلا ما ندر، ولقد زرت قبل أكثر من عقد من الزمان شيخ الأزهر جاد الحق رحمه الله في شقته المتواضعة فتكلم بقوة عن دور شيخ الأزهر وعن تمسكه بالصدع بالحق خاصة فيما يتعلق بثوابت الدين وقضاياه الرئيسة.
تاسعاً: إنّ مثل هذه الفتاوى ( التي تمسّ قطاعاً كبيراً من جماهير المسلمين وتؤثر في مشاريعهم وجهودهم ودعوتهم) إن لم يتم فيها استشارة علماء المسلمين وفقهائهم فإنها تتسبب في تمزيق جبهة العلماء والفقهاء وزراعة الخلاف بينهم، ولذلك رفض الغالبية الساحقة من علماء المسلمين فتوى شيخ الأزهر، فاعتبرها الشيخ يوسف القرضاوى أنها فتوى خاطئة لا تمثل المسلمين، كما استنكرها الدكتور عبد العظيم المطعني ( رئيس قسم التفسير بجامعة الأزهر) واعتبرها خطراً جسيماً لا يعادله خطر، كما ردها كثير من علماء الأزهر ورفضوا اعتبار الانصياع للحكومة الفرنسية في نزع الحجاب يدخل ضمن حكم الاضطرار، كما أبدى علماء المسلمين ودعاتهم في الغرب استيائهم من هذه الفتوى التي اعتبروها جاءتهم من برج عاجي لا يعرف صاحبه واقعهم ولا ظروفهم ولا أولوياتهم ولا طبعية التحديات التي تواجههم.
عاشراً: إنّ مثل هذه الفتاوى قد تعطي انطباعاً بأنّ أصحابها ربما بدأوا ينفضون أيديهم من قضايا المسلمين التي تمس واقعهم والتحديات التي يواجهونها. ولقد كان لعلماء المسلمين مواقف مشرفة عبر تاريخنا الإسلامي تمس حاجات المسلمين والتحديات التي كانوا يواجهونها كموقف الحسن البصري وسعيد بن جبير من الحجاج، وموقف ابن تيمية وجهاده ضد التتار وموقفه كذلك من الملك الناصر بن قالوون في مصر بشأن حانات الخمر، وكفتوى العز بن عبد السلام في ملوك المماليك، وموقف أحمد بن حنبل من المعتزلة في فتنة خلق القرآن، وموقف علماء الأزهر من حملة نابليون، وغيرهم كثير. فمهمة المفتى كبيرة في هذه الأمة ولو اقتضى الأمر التضحية بالمنصب والجاه بل وبالنفس والمال.
حادي عشر: لقد صرّح الرئيس الفرنسي جاك شيراك في نوفمبر الماضي في تونس بأن ارتداء الحجاب مسلك عدواني ومن الصعب علينا القبول به، فإذا كانوا يعتبرون الحجاب ( وهو فرض شرعي) عدواناً فكيف لنا أن نقف بجانب من يعتبر فرائض ديننا عدواناً ونناصرهم في ذلك ؟!!
ثاني عشر: إنّ هذه الفتوى جعلت العلمانية وأهواءها حكماً على الإسلام ( وإن كان صاحب الفتوى لا يقصد ذلك) في حين أن الحكم لله تعالى، حتى لو لم نكن قادرين على تحكيم أمر الله تعالى في بلاد المسلمين أو في بلاد غير المسلمين فلا يحق لنا تبرير هذه المخالفات أو إضفاء الشرعية عليها أو على ممارستها.
ثالث عشر: إنّ الذي يؤلم أن بعض المرجعيات الإسلامية ( التي يتوقع منها أن تكون سنداً قوياً لقضايا المسلمين أينما كانوا) تصدر مثل هذه الفتوى، في حين نجد أن أكثر من (100) شخصية علمانية فرنسية غير مسلمة قد أصدرت هذا العام عريضة تؤكد حق المسلمات الفرنسيات في ارتداء الحجاب بالمدارس مستندين إلى كون العلمانية التي يؤمنون بها تدعو إلى عدم التميز، وقالوا أيضاً في عريضتهم: إن سن قانون يمنع ارتداء الحجاب بالمدارس وبعض المؤسسات الحكومية يعتبر عقوبة تحرم آلاف المسلمات الفرنسيات من حق التعلم، كما يُعد دعوة صريحة للتمييز.
رابع عشر: إنّ مثل هذه الفتوى قد تفت من عضد التائبات ( من الفنانات والمذيعات وطالبات الجامعات وغيرهم) اللاتي عدن إلى الالتزام وارتداء الحجاب وتشعرهن وتشعر غيرهن أنه بإمكان المرأة أن تنزع حجابها تحت أي ظرف من الظروف.
تلك بعض الآثار السلبية الخطيرة لفتوى سماحة شيخ الأزهر حفظه الله ورعاه وسدد آراءه وجعله ذخراً للإسلام والمسلمين.
ولكن الأمر الذي هو أشد من هذا القرار وأكثر إيلاماً منه هو فتوى شيخ الأزهر سيد طنطاوى التي أعطى فيها الحق لفرنسا لاتخاذ مثل هذا القرار وطلب من المسلمين في فرنسا قبول هذا القرار والرضوخ له.
نحن ندرك أنه لا يجوز للمسلمين اختزال الإسلام في موضوع الحجاب، كما أنّ عليهم أن لا يعتبروا أن المعركة الكبرى التي يواجهونها اليوم هي معركة الحجاب، فهناك قضايا أعمق وأكبر مثل قضية فلسطين وقضية العراق والهيمنة الصهيوامريكية وغيرها من القضايا المحورية التي يتوجب على المسلمين التصدّي لها.
ولكننا أيضاً ندرك أن قضية الحجاب تمسّ واقع عشرات الملايين من المسلمين في الغرب، وأنها إحدى قضاياهم التي لا يمكن التخلي عنها، وأن السماح أو التبرير لنزع الحجاب فيه من المفاسد والمضار الشيء الكثير، فضلاً عن أن الحجاب هو فريضة فرضها الله على المسلمين بنص القرآن، وقد أجمع علماء المسلمين على ذلك، حيث يقول تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن } [ النور: الآية 31 ] ، ويقول كذلك: { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } [ الأحزاب: الآية 59 ].
إنّ فتوى شيخ الأزهر قد أصابت جموع المسلمين في مقتل وصدمتهم أيما صدمة.
فظلم ذوى القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند.
إنّ القيام بالفتوى لهو أمر عظيم، إذ حقيقة الفتوى هي التوقيع عن الله تعالى، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم في إعلام الموقّعين: " إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لا يُنكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيِّات، فكيف بمنصب التوقيع عن ربّ الأرض والسماوات ؟!! فحقيق بمن أٌقيم في هذا المنصب أن يُعدَّ له عُدّته، وأن يتأهّب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أُقيم فيه، ولا يكون في صدره حرجٌ من قول الحقّ والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاّه بنفسه ربّ الأرباب، فقال تعالى: { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ .. } [ النساء: الآية 127 ] .
ونظراً لخطورة الفتوى وأثرها البالغ فقد وضع فقهاء المسلمين شروطاً صعبة لمن يقوم بها، ومنها: أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً فقيهاً مجتهداً عدلاً، وأود هنا أن أنقل ما ذكره الدكتور عبد الكريم زيدان ( أصول الدعوة/151-160) فيما يتعلق بشرط العدالة حيث يقول:
" العدالة هيئة يكون عليها المسلم، من مقتضياتها ولوازمها فعل المطلوب شرعاً وترك المنهي عنه شرعاً، وهجر ما يخرم المروءة ويوقع في التهم والشكوك، وأن تكون أخلاق صاحبها وسلوكه على النحو اللائق بعلماء الإسلام.
هذا وإنّ ما يناقض العدالة ليس على درجة واحدة من القبح وشدة المناقضة، ولهذا كان بعضها مسقطاً للعدالة دون بعض، فالمسقط منها مثل القول على الله ورسوله بغير علم إمّا عن طريق الابتداع في الدين أو بالتأويلات الفاسدة الظاهرة الفساد والبطلان، ومثل مجاراة الظلمة والإفتاء لهم بما يشتهون، وأخذ الرشوة ونحو ذلك. وغير المسقط للعدالة مثل ارتكاب الصغيرة من المعاصي وعدم الإصرار عليها.
وقد اشترط العلماء شروطاً أخرى في المفتي ليتمكن من أداء وظيفته على نحو جيد وسليم، فقالوا: يشترط فيه أن يكون على قدر كاف من اليقظة وجودة الذهن والمعرفة بالناس ومكرهم وخداعهم حتى لا يقع في هذا الخداع وذلك المكر، وأن يكون صلباً في دينه لا تأخذه في الحق لومة لائم، وأن لا يتأثر بوعد أو وعيد، وأن يكون على قدر كبير من الورع والزهد ومخافة الله تعالى ". ( انتهى).
أرجع مرة أخرى إلى فتوى شيخ الأزهر حفظه الله تعالى لأبين بعض الآثار الاستراتيجية الخطيرة لهذه الفتوى على الأقليات الإسلامية في الغرب خصوصاً وعلى جمهور المسلمين في العالم عموماً ولعل من أهم هذه الآثار السلبية ما يلي:
أولاً: إنّ قضية منع الحجاب في فرنسا تتجاوز الواقع الفرنسي لتنعكس سلباً على حال الأقليات المسلمة في الغرب عموماً، فإنّ هذه الفتوى قد فتحت الأبواب على مصاريعها للغرب للاعتداء على شعائر الإسلام ومضايقة المسلمين ومنعهم من ممارسة فرائض الله تعالى، فاليوم الحجاب، وغداً المساجد والصلاة، وبعد غد المدارس الإسلامية والتعليم، وهكذا. ولهذا رأينا بعض البرلمانين والشخصيات الرسمية في بعض دول أوروبا بدأوا ينادون بصوت مرتفع بما نادت به فرنسا. بل العجيب أن وزير الداخلية الفرنسي الذي اجتمع بشيخ الأزهر في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه سماحة شيخ الأزهر موقفه، أقول إن وزير الداخلية هذا قال أنه كان من المعارضين لفكرة سن قانون حظر الحجاب داخل الحكومة الفرنسية، فلما وجد موقف شيخ الأزهر هكذا تشجع لمناصرة باقي حكومته في حظر الحجاب!! وكذلك رأينا أن الرئيس الفرنسي قد وسع نطاق حظر الحجاب بعد هذه الفتوى لتشمل جميع المرافق والمؤسسات الرسمية!.
ثانياً: لقد عمل المسلمون في الغرب لعشرات السنين من أجل أن يُثبتوا وجودهم كجاليات مواطنة لها استقلاليتها ودورها وليس كأقليات مهمشة، ولقد عملت فرنسا طويلاً لإذابة المسلمين في المجتمع الفرنسي العلماني وطمس هويتهم الإسلامية، ولكنها فشلت في ذلك، بل انقلب السحر على الساحر، وبدأ الفرنسيون يدخلون في دين الله أفواجاً، حتى تقدر بعض الإحصائيات أنّ عدد الفرنسيين الذين يدخلون في الإسلام سنوياً هو (30) ألف فرنسي. ولمّا ذهب وفد من المسلمين الفرنسيين إلى جاك شيراك محتجّين على تعيين رجل غير مرغوب فيه لدى الجاليات الإسلامية في فرنسا وفرضه رئيساً للمجلس الإسلامي الفرنسي رغم أنّ الانتخابات جاءت بغيره، قال لهم شيراك: لم أنتم مستعجلون؟ بعد خمسين سنة ستحكمون أنتم فرنسا. إنّ فرنسا لمّا فشلت في طمس هوية المسلمين لجأت إلى حصارهم بمثل هذه الممارسات، رغبة في قطع رأس الإسلام في الغرب، ولقد جاءت فتوى شيخ الأزهر لتعطي الشرعية لمثل هذه الممارسات ولتصبّ الزيت على النار ولتزيد من محاولات تهميش المسلمين في الغرب.
ثالثاً: إنّ هذه الفتوى ستؤدّي إلى عزل المسلمات المحجبات عن المجتمع، وإلى النظر إليهنّ وكأنهن مخطئات أو مرتكبات لجريمة، ولا شك أن في ذلك إساءة للإسلام وإهانة للمسلمين في الغرب.
رابعاً: إنّ الحجاب في قلب المجتمعات الغربية هو بمثابة الهوية الظاهرة أمام الجميع، لذا تعتبر محاولة إلغائه هي إلغاء لتلك الهوية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
خامساً: قد يفهم من هذه الفتوى أنها دعوى ( غير مباشرة) للسفور والتبرج (وإن كنّا متأكدين أن صاحب هذه الفتوى لا يقصد ذلك ولا يريده) وهي في المجتمع الغربي أكثر إيلاماً وأشد فتكاً، وإنّ مؤداها إلى فساد مبرر، خاصة وأنّ الحجاب ليس رمزاً فقط للمسلمين وإنما له هدف محدد وهو الستر والعفاف الذي دعا إليهما الإسلام وشدد عليهما.
سادساً: إنّ مثل هذه الفتاوى تزيد من الإحباط واليأس في قلوب عامة المسلمين بل تشعرهم بالدونية والصغار، وتغرس في نفوسهم الاستسلام والانقياد للغرب، في زمن المسلمون أحوج ما يكونوا إلى ما يزيدهم عزة وكرامة وافتخاراً بهويتهم ودينهم. لقد مزقت هذه الفتوى قلوب كثير من المسلمين الغيورين على دينهم، فزادتهم غماً على غمهم وحزناً إلى أحزانهم، وربما يحق فيهم قول المتنبي حين قال:
رماني الدهر بالأرزاء حتى |
فؤادي في غشاء من نبــال |
|
فصرت إذا أصابتني سهام |
تكسرت النصال على النصال |
إنّ الإسلام في فرنسا يعتبر ثاني ديانه، وإن المسلمين فيها يبلغ تعدادهم أكثر من خمسة ملايين، ولذا فإن مطالبتهم بإظهار دينهم هو حق مشروع لهم، فعلام نسارع بفتاوى تعطل عليهم حقوقهم وتجرئ خصومهم عليهم ؟!
سابعاً: إنّ كبت الحرّيات والتعدّي على حقوق الإنسان يولد الكراهية ويزيد مما يسمونه بالتطرف، والسؤال الذي يطرح نفسه: من سيكون المسؤول عن انتشار هذه الظاهرة؟ هل هو الضحية المعتدى على حقوقه الممنوع من ممارسة بعض شعائر دينه أم المسؤول هو المعتدي الذي انتهك الحقوق ومن برر له انتهاكه هذا ؟!!
ثامناً: إنّ هذا النوع من الفتاوى يضعف من مكانة شيخ الأزهر ويذهب بمصداقية هذا المنصب، ولا شك أن هذا الأمر ليس في صالح الإسلام ولا المسلمين، إذ المسلمون بحاجة إلى علماء عاملين مجاهدين أقوياء يرفعون من رؤوسهم ويشدود من عزائمهم ويجهرون بكلمة الحق لا يخشون في الله لومة لائم، ولعل الأزهر الشريف كان عبر التاريخ مثال لتلك المرجعية المقدرة في نفوس المسلمين إلا ما ندر، ولقد زرت قبل أكثر من عقد من الزمان شيخ الأزهر جاد الحق رحمه الله في شقته المتواضعة فتكلم بقوة عن دور شيخ الأزهر وعن تمسكه بالصدع بالحق خاصة فيما يتعلق بثوابت الدين وقضاياه الرئيسة.
تاسعاً: إنّ مثل هذه الفتاوى ( التي تمسّ قطاعاً كبيراً من جماهير المسلمين وتؤثر في مشاريعهم وجهودهم ودعوتهم) إن لم يتم فيها استشارة علماء المسلمين وفقهائهم فإنها تتسبب في تمزيق جبهة العلماء والفقهاء وزراعة الخلاف بينهم، ولذلك رفض الغالبية الساحقة من علماء المسلمين فتوى شيخ الأزهر، فاعتبرها الشيخ يوسف القرضاوى أنها فتوى خاطئة لا تمثل المسلمين، كما استنكرها الدكتور عبد العظيم المطعني ( رئيس قسم التفسير بجامعة الأزهر) واعتبرها خطراً جسيماً لا يعادله خطر، كما ردها كثير من علماء الأزهر ورفضوا اعتبار الانصياع للحكومة الفرنسية في نزع الحجاب يدخل ضمن حكم الاضطرار، كما أبدى علماء المسلمين ودعاتهم في الغرب استيائهم من هذه الفتوى التي اعتبروها جاءتهم من برج عاجي لا يعرف صاحبه واقعهم ولا ظروفهم ولا أولوياتهم ولا طبعية التحديات التي تواجههم.
عاشراً: إنّ مثل هذه الفتاوى قد تعطي انطباعاً بأنّ أصحابها ربما بدأوا ينفضون أيديهم من قضايا المسلمين التي تمس واقعهم والتحديات التي يواجهونها. ولقد كان لعلماء المسلمين مواقف مشرفة عبر تاريخنا الإسلامي تمس حاجات المسلمين والتحديات التي كانوا يواجهونها كموقف الحسن البصري وسعيد بن جبير من الحجاج، وموقف ابن تيمية وجهاده ضد التتار وموقفه كذلك من الملك الناصر بن قالوون في مصر بشأن حانات الخمر، وكفتوى العز بن عبد السلام في ملوك المماليك، وموقف أحمد بن حنبل من المعتزلة في فتنة خلق القرآن، وموقف علماء الأزهر من حملة نابليون، وغيرهم كثير. فمهمة المفتى كبيرة في هذه الأمة ولو اقتضى الأمر التضحية بالمنصب والجاه بل وبالنفس والمال.
حادي عشر: لقد صرّح الرئيس الفرنسي جاك شيراك في نوفمبر الماضي في تونس بأن ارتداء الحجاب مسلك عدواني ومن الصعب علينا القبول به، فإذا كانوا يعتبرون الحجاب ( وهو فرض شرعي) عدواناً فكيف لنا أن نقف بجانب من يعتبر فرائض ديننا عدواناً ونناصرهم في ذلك ؟!!
ثاني عشر: إنّ هذه الفتوى جعلت العلمانية وأهواءها حكماً على الإسلام ( وإن كان صاحب الفتوى لا يقصد ذلك) في حين أن الحكم لله تعالى، حتى لو لم نكن قادرين على تحكيم أمر الله تعالى في بلاد المسلمين أو في بلاد غير المسلمين فلا يحق لنا تبرير هذه المخالفات أو إضفاء الشرعية عليها أو على ممارستها.
ثالث عشر: إنّ الذي يؤلم أن بعض المرجعيات الإسلامية ( التي يتوقع منها أن تكون سنداً قوياً لقضايا المسلمين أينما كانوا) تصدر مثل هذه الفتوى، في حين نجد أن أكثر من (100) شخصية علمانية فرنسية غير مسلمة قد أصدرت هذا العام عريضة تؤكد حق المسلمات الفرنسيات في ارتداء الحجاب بالمدارس مستندين إلى كون العلمانية التي يؤمنون بها تدعو إلى عدم التميز، وقالوا أيضاً في عريضتهم: إن سن قانون يمنع ارتداء الحجاب بالمدارس وبعض المؤسسات الحكومية يعتبر عقوبة تحرم آلاف المسلمات الفرنسيات من حق التعلم، كما يُعد دعوة صريحة للتمييز.
رابع عشر: إنّ مثل هذه الفتوى قد تفت من عضد التائبات ( من الفنانات والمذيعات وطالبات الجامعات وغيرهم) اللاتي عدن إلى الالتزام وارتداء الحجاب وتشعرهن وتشعر غيرهن أنه بإمكان المرأة أن تنزع حجابها تحت أي ظرف من الظروف.
تلك بعض الآثار السلبية الخطيرة لفتوى سماحة شيخ الأزهر حفظه الله ورعاه وسدد آراءه وجعله ذخراً للإسلام والمسلمين.
- التصنيف: