خلافة أبي بكر الصديق - (6) انتشار ظاهرة الردة والتنبؤ في الجزيرة العربية
قد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وضع الدولة وبناتها من الصحابة:"كأنهم معزى في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة"، وهو تصوير دقيق لحالة الخطر القصوى لإحاطة الأعداء بهم من كل جانب....
أدت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تهديد وحدة الدولة الإسلامية الناشئة، حيث توسعت حركة الردة في أنحاء الدولة ماعدا الحجاز، وكان أخطرها حركة مسيلمة الكذاب الحنفي، لكن بعدها عن المدينة وقرب حركات الردة الأخرى التي ابتدأت بوصول خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى البوادي، فارتدت جموع غفيرة من بني أسد وغطفان وتميم والبحرين وعمان وحضرموت كما تجددت الردة في اليمن.
أثر حركات الردة على المسلمين:
وقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وضع الدولة وبناتها من الصحابة:"كأنهم معزى في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة"، وهو تصوير دقيق لحالة الخطر القصوى لإحاطة الأعداء بهم من كل جانب، ووصفت أبا بكر رضي الله عنه وهو ممسك بزمام القيادة، واضح الرؤية قوي العزيمة شديد المضاء صائب الرأي "فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وسنانها" [1].
ومن المؤسف أن ينفرد الأخباريون برسم صورة أحداث الردة في أرجاء الجزيرة دون مشاركة مهمة من المحدثين مما يفقدنا القدرة على نقد أسانيد الروايات، وتظهر مصادر المعلومات المحلية والقبلية.
موقف القبائل العربية من حركات الردة:
والصورة التي نقدمها تبين أن حركات الردة كانت مختلفة في تصوراتها العقدية، فمنها ما كان استمرارا للحركات التي ظهرت في العام العاشر من العصر النبوي مثل ردة بني حنيفة -أحد فروع بكر بن وائل- في اليمامة بزعامة المتنبئ مسيلمة، ومنها ما كان مرتبطًا بأدعياء نبوة جدد كما هو شأن ردة بني أسد وفزارة المرتبطين بالمتنبئ طليحة بن خويلد الأسدي. وردة بني يربوع من تميم بزعامة المتنبئة سجاح، في حين التف آخرون منهم حول مالك بن نويرة، وكان قد امتنع عن دفع الزكاة لأبي بكر. وتحالف بنو عطارد التميميون مع مسيلمة باليمامة.
وانقسمت على نفسها قبيلة سُليم العدنانية في عالية نجد قرب خيبر، فمنهم من حافظ على إسلامه ومنهم من ارتد، ويبدو أن قرب ديارها من المدينة ومشاركة الكثير من رجالها في فتوح مكة وحنين والطائف أدى إلى ثبات فروع منها أمام المرتدين الآخرين من رجالها.
وتحالفت فزارة -من فروع غطفان العدنانية- بنجد بزعامة عيينة بن حصن الفزاري مع طليحة الأسدي، وارتدت فروع أخرى من بني بكر بن وائل بالبحرين بزعامة الحطم بن ضبيعة، وثبتت قبيلة عبد القيس على الإسلام بزعامة الجارود بن المعلى العبدي، لكن الغلبة في البحرين كانت للمرتدين قبل وصول القوات الإسلامية من المدينة.
وانقسمت الأزد في عمان ودُّبا بين زعماء القبيلة، فمنهم من بقي على الإسلام بقيادة جيفر وعباد ابني الجلندي، ومنهم من اتبع المتنبئ ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي، الذي غلب على عمان وطرد جيفر وعباد إلى الجبال والساحل.
وأما قبائل حضرموت وهم قبائل كندة والسكاسك والسكون فقد حافظ بعضها على ولائه للإسلام وبايع الوالي زياد بن لبيد البياضي، في حين التف البعض الآخر منهم حول الأشعث بن قيس الكندي الذي امتنع عن دفع الزكاة. ولم تستقر الاضطرابات في حضرموت إلا بعد قدوم الجيوش الإسلامية إليها.
ورغم أن حركة الأسود العنسي تم القضاء عليها في عصر النبوة إلا أن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أدت إلى انقسام خطير بين قبائلها، فمنهم من التف حول الوالي فيروز -من الأبناء، ومنهم من خرج على سلطة الوالي مثل قيس بن عبد يغوث (المكشوح) الطامح إلى الزعامة الذي استعان بفلول حركة الأسود العنسي.
توسع حركات الردة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
وهكذا توسعت حركات الردة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في شمال الجزيرة وشرقها وجنوبها حتى كادت أن تقضي على الدولة الإسلامية الفتية.
فتنبأ الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة، وطليحة في بني أسد، وسجاح التميمية، ولقيط في عمان، وكانت ثورة اليمن أعنف مظاهر الانتفاض على الدين الجديد في الجزيرة العربية في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قبائل اليمامة وما جاور الخليج العربي، كانت تتهيأ للثورة على الدين الجديد، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذا التطور السلبي في أواخر حياته، إلا أن اهتمامه السياسي انحصر في الالتفات نحو الشمال من خلال تجهيزه حملة أسامة بن زيد، إذ أمره أن يتوجه إلى تخوم البلقاء (من أعمال دمشق)، والداروم (من أرض فلسطين).
واعتقد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا استطاع تحقيق الانتصار هناك، فإن ذلك من شأنه تقوية موقفه داخل الجزيرة العربية، وبين قبائلها، وبخاصة أن الدعوة الإسلامية انتشرت آنذاك في مختلف أنحاء الجزيرة العربية من الشمال إلى الجنوب، ثم إن خروج أسامة إلى وجهته يعبر عن الإقلال من شأن هؤلاء الخارجين والمرتدين، وخطرهم، ولا شك بأن هذه السياسة تعطي المسلمين دفعًا معنويًا لمواجهة الخارجين، والمرتدين في اليمن واليمامة، وغيرهما من أنحاء الجزيرة العربية.
كان المتنبئون آنذاك يتهيأون للجهر بدعواتهم آملين بأن تحل بالمسلمين نكبة ما، وأخذوا يبشرون بها، كل في ناحيته بهدوء وأناة، دون أن يطعن أحد منهم بصحة نبوة محمد، وإنما ساووا أنفسهم به، فهو نبي وهم أنبياء مثله بعثوا في أقوامهم، كما بعث هو في قومه، لكن أحدًا منهم لم يقدم خصائص لدعوته تضاهي خصائص الدعوة الإسلامية.
دوافع بروز ظاهرة الردة والتنبؤ:
وتستوقفنا في هذا المقام بعض الدوافع التي أدت إلى بروز هذه الظاهرة نذكر منها ما يلي:
1- إن المناطق التي انطلق منها المتنبئون، كانت أكثر مناطق الجزيرة العربية تحضرا وأضخمها ثروة، كما كانت مجاورة لأراضي الفرس، أو كان للفرس فيها نفوذ.
2- اعتمد المتنبئون على الناحية العصبية، وبخاصة ما كان بين اليمنية والمضرية من عداوة راسخة الجذور، بالإضافة إلى التنافس بين ربيعة ومضر، وإذا تغلغلنا في صميم هذه الظاهرة نلمس شواهد واضحة على أثر العصبية القبلية.
ويرتبط بالعصبية القبلية ما ينتج عنها من تحاسد، وتنافس بين القبائل العربية والتسابق في إدعاء النبوة، ذلك أن المظاهر الأساسية لحركة الردة لم تقتصر على رفض بعض أركان الإسلام، أو عدم الاعتراف بسلطة المدينة، وإنما جاءت مصحوبة بإدعاء بعض الأشخاص النبوة، إذ إن النجاح الذي حققه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، والمكانة التي وصلت إليها قريش في الجزيرة العربية عند وفاته، غدت مثار حسد كافة القبائل العربية، ولم تلبث أن أضحت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا يحتذى لتحقيق نوع من الأهمية، والزعامة في مجتمع يمجد الأبطال.
والواضح أن كثيرًا من الأفراد في المجتمع العربي كانوا طلاب زعامة ورئاسة، فأرادوا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لتحقيق تطلعاتهم، فحاولوا التشبه به في ما أوحي إليه من القرآن الكريم، فأتوا بعبارات مسجوعة مفككة المعاني، ركيكة المضمون، لا روح فيها، تتصف معانيها بالسذاجة، وسجعها بالتكلف.
وتمادى المتنبئون حين امتدت أيديهم إلى التشريع، من ذلك أن مسيلمة الكذاب شرع لأصحابه أن من أصاب ولدًا واحدًا عقبًا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن، فيطلب الولد حتى يصيب ابنًا ثم يمسك، فحرم بذلك النساء على من له ولد ذكر، كما ادعوا بأن الوحي ينزل عليهم من السماء.
ومن مظاهر التشبه بالإسلام أن بعض المتنبئين عمد إلى اتخاذ بيت حرام ينافسون به البيت الحرام في مكة، من ذلك أن مسيلمة الكذاب ضرب حرمًا في اليمامة نهى الناس عنه، وأخذ الناس به، فكان محرمًا [2].
3- تفجرت ظاهرة التنبؤ في بلاد وعلى أيدي أفراد عرفوا النصرانية، وسمعوا بها أو اشتهروا بالكهانة، لقد ساد الجزيرة العربية آنذاك باستثناء الحجاز، اضطراب ديني بفعل عدم استقرار العقيدة في النفوس، فالنصرانية واليهودية، والمجوسية والوثنية، تجاورت كلها في ظل نقاش جدلي في أي منها تحقق السعادة لأتباعها، مما مهد الطريق أمام المتنبئين للظهور، واستقطاب الناس بكلام منمق، وبمظاهر يتخذونها آيات صدقهم، واستطاعوا بهذه الوسيلة أن يحققوا نجاحًا مبدئيًّا، ذلك أن النصرانية انتشرت في الجزيرة العربية قبل الإسلام عن طريق الأحباش في الجنوب، والأنباط في الشمال، وكان ملك اليمامة هوذة بن علي نصرانيًا أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام [3].
ثم إن العرب شأنهم في ذلك شأن معظم الشعوب الوثنية عرفوا الكهانة، وبخاصة عرب الجنوب (حمير)، مثل طريفة الخبر التي تنبأت بأخبار سد مأرب، وسطيح الغساني وغيرهما، فادعى بعض الكهان أن نفوسهم قد صفت، واطلعت على أسرار الطبيعة، وادعى آخرون أن الأرواح المنفردة -وهي الجن- تخبرهم بالأشياء قبل حصولها، وحصل تقارب بين النصرانية والكهانة عند العرب في الجاهلية، هذا على الرغم من أن أدعياء النبوة اختلفوا على الطرفين في أتباعهم أسلوب التي في سيرته، وأقواله وأفعاله، فادعوا أنهم أنبياء، وأن الوحي ينزل عليهم، وشرعوا لأتباعهم، وطالبوا لأنفسهم بسيادة وزعامة عليهم.
4- اعتمد المتنبئون على العامل الإقليمي، فقد استغل الأسود العنسي استياء اليمنيين من الفرس، ونفورهم من الحجازيين.
5- تشكل ظاهرة التنبؤ إحدى الانعكاسات التي أحدثها فتح مكة، وانتشار الإسلام في أجزاء واسعة في الجزيرة العربية، وتوسيع نفوذ الحكومة المركزية في المدينة، ذلك أن هذا التطور الإسلامي أثار عمليات مشابهة، متوازية ومتزامنة في أنحاء متفرقة، حيث بدأت تنشأ تحالفت قبلية واسعة يتزعمها أناس يدعون النبوة، اقتداء بالنجاح الذي حققه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أدى فيها التطور الإسلامي دور الباعث والمحرك.
6- شجعت ثورة الأسود العنسي قبائل اليمامة وبني أسد على الاقتداء به إثر وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان كلٌّ من مسيلمة وطليحة يخشى قوة المسلمين المتنامية، ويرى أنه لا قبل له بمقاومتها، لذلك لم يعلن ثورته مبكرًا، ولما تجرأ الأسود العنسي على إعلان دعوته، ورفع راية العصيان، وحاز من النجاح ما أثار مخاوف المسلمين، اقتدت قبائل اليمامة به، وشجعها على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في ذلك الوقت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن أبي شيبة: المصنف 14/ 572 بإسناد صحيح، وابن كثير: البداية والنهاية 6/ 309 عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وانظر الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 50 عن الطبراني في الأوسط والصغير، وابن حجر: المطالب العالية 4/ 3906، وابن هشام: السيرة النبوية 4/ 665، وخليفة: التأريخ ص102. والألفاظ مختلفة ومؤداها واحد.
[2] الطبري: ج3/ ص283.
[3] ابن الأثير: ج2/ ص95.
- التصنيف:
- المصدر: