تضخم وهم الحرية

منذ 2017-04-30

غالبًا ما يُعتقد أنَّ الحرية مرتبطة فقط بما يُحيط بالمرء، دون الالتفات إلى أنَّها محصِّلة فِكرٍ واعٍ متراكم، وليست مَوْلد لحظةِ تمرُّد وتفكير ثَوري، ولا تتشكَّل الحريةُ بعيدًا عن حصولها في التصرُّفات، ففي الأصل الأفعال هي التي تؤكِّد وجودها من انعدامها.

أمين أمكاح


أصبحنا اليومَ نرى كثيرًا ممَّن يتوهَّمون الحريَّةَ ويتبجَّحون بها، في مقابل ذلك نجد ضمورًا لحقيقتها في واقِعهم المَعيش، ويتمثَّلُ ذلك بوضوح في الصُّورة الذهنيَّة التي يمتلكها العامَّة آنيًّا عن معنى الحرِّية الذي يُعتبر تصوُّرًا مَوْسومًا بنوعٍ من القصور؛ لأنَّه بمثابة استجابة خاطئة لمجموعة مِن المعطيات الجديدة والبعيدة كلَّ البعد عن الصواب، فأصبحت بذلك الصورة نمطيَّة متقولبة، ويرجع ذلك بالأساس إلى غياب أرضٍ معرفيَّة صلبة، يتَّخذ منها جسر العبور نحو استيعاب جيد لمعنى الحرية الحقيقي.
غالبًا ما يُعتقد أنَّ الحرية مرتبطة فقط بما يُحيط بالمرء، دون الالتفات إلى أنَّها محصِّلة فِكرٍ واعٍ متراكم، وليست مَوْلد لحظةِ تمرُّد وتفكير ثَوري، ولا تتشكَّل الحريةُ بعيدًا عن حصولها في التصرُّفات، ففي الأصل الأفعال هي التي تؤكِّد وجودها من انعدامها.
كما أنَّ الحريَّة هي نتاجُ الثَّقافة ومُعطًى ذاتي قبل أن يكون لها امتداد خارجي، بالإضافة لذلك فحريَّة الفرد تظلُّ مسوَّرةً إلى حدٍّ بعيد بمستوى الحرية السائدة في المجتمع الذي ينتمي إليه.
ولستُ أبالِغ إذا قلت: إنَّ كثيرًا من الناس يَنظرون إلى حرِّيتهم على أنها شيء نهائي مكتمل، وهذا الاعتقاد أكبر عقَبة تَحول دون حصولها في الأصل.
كما لا ينبغي أن يُظنَّ أن الحرية هي أن يرى المرء نفسَه فوقَ أيِّ اعتبار فيفعل ما يشاء، ويستشري في نفسه أنَّ له ما ليس لغيره.
إنَّ الحقيقة التي لا يمكن إنكارُها أن الإنسان المعاصِر أصبح محبًّا للأفكار الجاهزة والحلولِ السَّهلة والتقليديَّة بشكلٍ كبير، ومع ازدياد حجم تَقديس (الفكر المشخصن) ارتفَع مستوى العبوديَّة الفكريَّة بإدخال العقل في سجن الأفكارِ المعلَّبة، فأصبح فِكرُ العامَّة من الناس محدودًا جدًّا.
ولنا أن نَعي أنَّ رَبْط الحرِّية بالآخرين يسلب القدرةَ على التنعُّم بهذه القيمة، فالحرِّية الحقيقية لا تكمن في الغير؛ بل تنعكس مِن العالم الدَّاخلي نحو العالم الخارجي، وليس العكس، ولا تكتسب إلا حين تكتشف دهاليز ومغارات الذات؛ للتخلُّص مِن تراكماتها غير النافعة، فالحريَّةُ نتاج ذاتي يكمن في امتِلاك إرادة ذاتية، وفِكر مُستقل، يَجعل المرءَ في مَعزل عن الأيديولوجيات العقيمة والضيِّقة والانتهازية، وعن كلِّ ما هو مبنيٌّ على الكراهية وإقصاء الآخر المختلف، وكما يصبح بها الإنسان مرتدًّا عن كل ما يدعو إلى الخضوع للقَبَليَّة والطائفية والفئوية.
فما جدوى استعراض حرِّيتك على غيرك، وداخلُك يُكذِّب ذلك؟
إن التحرُّر مِن كل الأشياء التي تقيِّدك ليست شَجاعة؛ بل هو تمرُّد عقيم، وفَوضى مدمِّرة، فليس كل ما يقيِّدك بالضرورة أن يكون أغلالًا؛ فقد تُقيَّد بالقوانين والالتزامات والأخلاق، وتحرُّرك منها له تَبعات سلبيَّة تضرُّ بها غيرك ونفسك؛ لأنَّ تلك القيود هي الضَّمان الوحيد لحقوق الآخرين؛ فهي المانِع من الوقوع في غصبها، ودافعة لنَيل نوع مِن النبل في تصرُّفاتك، وكذلك لاكتساب احترام الآخرين لك.
وإلى جانب ذلك، فإنَّ ادِّعاء الحرِّية أشد وطأةً على المدعي أكثر مِن غيره، فلا فائدة لتظاهرك بالحرية أمام الملأ وداخلُك مكبَّل بالأغلال والعقد.
في واقع الأمر هناك أسباب كثيرة أدَّتْ إلى تَضخيم وهمِ الحرِّية، وبروزه بشكلٍ قويٍّ في عقول الكثيرين، ومن أهمها:
-  الانسلاخ الثقافي وما صاحبه من اضطراب فكري وسلوكي.
-  الانفتاح التواصلي وما أعقبه من تقبل لكل ما يعرض بدون أدنى حس نقدي.
-  تدني مستوى النضج الفكري، ويظهرذلك في ارتفاع درجة التحكم في العقول واستلابها من خلال تصديق كل ما يروج إعلاميا على سبيل المثال.
-  ضعف الوعي الفردي وغياب الوعي الجمعي بحقيقة حرب المفاهيم القائمة.
-  الانجذاب الكبير نحو ادعاء الحرية والتبجح بها بغرض ازدراء الآخر والاستخفاف منه والتعالي عليه.
-  عدم تحرير مفهوم الحرية أي عدم تعديل التصور الحاصل حاليا في ذهن العامة حول الحرية، لكي يصبح المعنى الحقيقي مطابق لما هو موجود في الواقع والذي هو نتاج فيض من الأفكار المغلوطة والانطباعات الخاطئة والأنساق المشوهة.
لا تدَع أُذُنَك تغترُّ لِلَحْن كلمةِ الحرِّية وداخلُك مكبَّلٌ بسلاسل الخُرافة، وقيودِ العبوديَّة، والتقديس الفكري للأشخاص؛ لأنَّك ستتعب كثيرًا من المشي في حلقةٍ فارغة ضيِّقة، وغيرُك أُفُقُه أوْسَعُ منك.
الحرِّية تُعاش حقيقة حين تَسكن داخلك، فتصير بذلك ذاتك مَعتوقةً وغير مَملوكة، رغم أنَّ لكلٍّ منَّا ما يسجنه من عيوب، لكن السَّعي على الهروب خارج قضبانها والفكِّ مِن أَسْرها - لا ينبغي أن يتوقَّف؛ بغَرَض تحسين ما يمكن تعديله من عيوب، والتخلُّص مما لا يصلح معه إلا البَتْر؛ لهذا كله يَكفي لتعلم كم أنت حُر بمجرَّد الدخول لعالَمك الخاص.
ليس الحرُّ مَن يَثور على كلِّ شيء، فلا تنتظر مِن تمرُّدك أن يُشبِع حاجتَك للحريَّة ويمنحك ما أنت في حاجة إليه، كما أن الحرَّ لا يجاهِر بحرِّيته، ولا حاجة له باستعراضها على غيره، بل يعيشها لنفسه واقعًا في تصرُّفاته.
إنَّ مشكلة الكثيرين هي اعتقادهم أنَّ الانسلاخ عن كلِّ ما يربطهم بثقافتهم هو نوعٌ مِن الحرِّية؛ فتجدهم يتعرَّون مِن كلِّ ما يمتُّ لهم بصِلة مع ثقافتهم؛ فيوهِمون أنفسَهم بأنهم اعتنقوا الحريةَ.
لكن قمَّة الحرية ليست في التعرِّي أبدًا، بل في أن تلبس عقلك مِن الأفكار ما تشاء؛ لذا حَرِّرْ عقلك بدايةً من كلِّ تقليد، وفكرَك مِن كلِّ تبعية، ثم ادَّعِ بعدها الحريَّةَ؛ فالحرُّ هو صاحب الفِكْر غير المستعبد، لا الذي يتباهى بحرِّيته وهو عبدٌ مملوك فكريًّا لغيره!
أيُعقل أن تحتاج للتمرُّد على الأعراف وعلى كلِّ ما هو سائد في مجتمعك لتتذوَّق طعمَ الحرية؟!
صحيحٌ أن التمرُّد في الغالب يتولد كنتيجة للحِرْمان من ممارسة نوعٍ من الحرية، لكنه ليس الوسيلة النَّاجِعة لاستردادها؛ فقد يزيد ذلك مِن درجة الحِرمان والتضييق عليها أكثر.
إن الحريَّة مربوطةٌ اشتراطًا من منظوري الشخصي؛ لذا فإنِّي أرى أنه لَمِمَّا يساهم كثيرًا في تشكُّل عُمْقٍ فسيح للحرية بجعلها واقعًا معيشًا حقيقة لا توهُّمًا - ما يلي:
أن يكون هناك تناسب بين القول وفعل،لأن هذا النوع من التوازن هو الذي يعقل جموح التناقض والاضطراب السلوكي.
-   أن يكون مستوى الحس النقدي لدى الفرد عاليا، لأن حضوره بقوة في فكر الفرد يمنعه من تقبل كل ما يتلقاه من حوله على أنه حقيقة لا يمكن إنكارها.
-   أن يكون منسوب الوعي لدى الفرد مرتفعا، لأنه يكسب الفرد المنهج العقلي الموضوعي لتفادي القصور الذاتي لفهم حقيقة الواقع.
-   أن يكون للفرد نظرة إنسانية كونية، لأنها تبعده كل البعد عن أي انغلاق وإقصاء للآخر المخالف والمغاير وتقبل الاختلاف الحاصل.
-   أن يكون للفكر الإبداعي نصيب في تفكير الأفراد، لأنه الباب الواسع لممارسة الحرية بكل تجلياتها بخلق الأفكار الجديدة والمتميزة.
في المقابل قد تكون السبب في سرقة حريتك منك فتقيدها بنفسك حين:
. تجعل للآخرين سلطانا عليك؛ أي تصيرسلوكاتك سجينة لإرضاء غيرك قبل إرضاء نفسك.
. تحكم على أحلامك بالوأد قبل أن تولد.
   . تتردد في اتخاذ قراراتك خوفا من المجهول.
. تكثر من تبرير تصرفاتك للآخرين.
 . تحط من قدرك أو تقلل من إمكانياتك مما يوقع بنفسك في الأسر لهذا النوع من الوهن والضعف.
لا تَعْجب إذا رأيتَ مِن البشر مَن بُحَّ صوتُه بدعوة الآخرين إلى الحرِّية والتحرُّر من الاستعباد، فظننتَه مِن الأحرار، واكتشفتَ بعد ذلك أنَّها ليست الحقيقة؛ فقد يدعو إلى الحرية لأنَّه فاقِدٌ لها، ولو كان حُرًّا لربَّما صار يستحسن الاستعباد.
ستظلُّ المشكلة التي تواجِهنا في احتياجٍ كبير للتعقل والحذر الشديد، لا سيَّما وأن الحلَّ الأنجَع يتمحور حولَ تحرير مفهوم الحرية، الذي يَحتاج للاستيعاب الجيد والاستجابة الصحيحة لِمُجمل المطالب التي تحتِّمها عمليَّةُ التحرير هذه؛ لتحسين وضعية الوَعي في مجتمعنا.
على أيِّ حال، لا يزال الأمل حيًّا لإيجاد مَخرج يعجِّل بتحرير الحرية مِن معناها المتوهم، والتخفيف مِن الأضرار الناجمة عمَّا استحدث.
وأخيرًا، سأسلِّط بعضَ الضوء على ما أرى أنَّ البدء به ضروريٌّ؛ وهو تحرير مَفهوم الحريَّة الذي أصبح ضيِّقًا جدًّا في أذهان المتوهِّمين للحرية، التي باتَتْ مجرَّدة من روحها التي وُجدتْ لأجلها؛ ممَّا يجعلها مجرَّد شكل من أشكال التفاخر الفارِغ، ولن تتمَّ عمليَّةُ التحرير من هذا التوهم الحاصل إلَّا مِن خلال خلق وعيٍ متنور، يمكِّن من جعل المعنى المعرفي الحقيقي للحرِّية متوافقًا مع ما هو سائد في واقع الأفراد والمجتمع؛ بحيث يكون هذا التوافق خاضعًا لنِظامٍ مترابط ومتناسِق؛ أي: أن يكون منطلِقًا مِن أُفُق تصوُّري ذِهني ذي بنية منطقيَّة محدَّدة وفعَّالة.

أمين أمكاح

كاتب و باحث إسلامي: كاتب مهتم بالشأن التربوي، وبالمواضيع ذات الصلة بكل ما يتعلق بتطوير الذات والبنية الفكرية. باحث في القيم والتواصل؛ متخصص في دراسة سلوك المراهق.