ممالك الوهم
ألم يكن حريًّا بهؤلاء كلهم أن يتناسوا قليلاً حظوظ النفس، وأن يحمل كل منهم ما معه من مال وطاقات بشريّة إلى أخيه الذي سبقه ليقوي مشروعه، ويزيده سعة وانتشارًا وجَوْدةً واحترافيّة؟
أمّا بعد: فمنذ زمن بعيد صدّعت رؤوسنا أقلام وأصوات مشهورة بمشروعية،
بل وجوب العمل الجماعي والمؤسسي، وتكتّل الإسلاميين، ووجوب التغاضي عن
بعض الخلافات الجزئيّة؛ من أجل السعي في بناء المشروع الإسلامي
النهضوي.. الخ.
كلام كبير جدًا، وجميل جدًا، كان هذا في عهد ضيقت فيه الحكومات على
المشاريع الدعوية المؤسّسية خوفًا من أطماع أصحابها في السلطة، أو
خوفًا من المدّ الإسلامي أصلاً، وهو مدّ غير مرغوب فيه في غالب أوساط
النظم الحاكمة في العالم الإسلامي.
نحن الآن نعيش في عصر حدثت فيه طفرة في كسر القيود وفتح المجال بكل
حريّة لتحقيق طموحات أصحاب تلك الأحلام الجميلة في فترة التسعينيّات،
خاصة هنا في المملكة العربية السعوديّة، لكن إذا أخذت جولة في الموجود
على الأقمار الصناعيّة أو الشبكة العنكبوتيّة، تجد حقيقة تصدمك
وواقعًا يؤلمك، ألا وهو تعدّد المشاريع وتشرذمها، مع أنّ أصحابها
والقائمين عليها هم من دعاة التكتّل من السلفيين أو المنتسبين إليهم،
دعك الآن ممّن يُصنّف أو يُنسب لجماعات أخرى.
كلٌّ منهم راح يؤسّس موقعًا على الشبكة أو قناة تلفزيونيّة، أنفق
عليها مالاً كثيرًا وجهدًا كثيرًا، لكنّك إذا استعرضت أثر تلك
المشاريع أحسست بالخجل، مقارنة بالدعاية والأموال التي تُنفق عليها،
هذا إذا استثنينا موقعًا أو اثنين.
هناك مواقع أنشئت قريبًا على الشبكة، وقنوات نسمع عن إنشائها منذ
فترة، ولمّا افتتحت إذا بها تكرار مملّ وسامج لقنوات سبقتها.
السؤال: ألم يكن حريًّا بهؤلاء كلهم أن يتناسوا قليلاً حظوظ النفس،
وأن يحمل كل منهم ما معه من مال وطاقات بشريّة إلى أخيه الذي سبقه
ليقوي مشروعه، ويزيده سعة وانتشارًا وجَوْدةً واحترافيّة؟
انظر إلى القنوات الإسلامية تجد بعضها وإن سُمّيت باسم جميل، إلاّ
أنّك تستطيع تسميتها باسم الشيخ الذي أُنشئت لأجله، يا للهول!! قناة
كاملة ليتحدث فيها الشيخ على الرغم من أنّ أبواب القنوات كلّها مفتوحة
مشرّعة له..
وبعض قنوات الأطفال الإسلامية تقتات على أسوأ وأردأ المنتجات القديمة
لتحذف منها الموسيقا، وتعيد بعضها دبلجة الصوت بأسوأ الحوارات وأكثرها
سذاجة وسطحيّة، ألا يعلم هؤلاء أنّ أطفال اليوم لا يرضيهم ولا يشبعهم
ولا يسدّ رمقهم هذه الأعمال في ظل هذا السيل الجارف من قنوات أطفال لا
تتقيد بأحكام الشريعة؟
أمّا المواقع الشبكية فقلْ مثل ذلك، يبرز داعية أو شيخ معين فيُؤسّس
له موقعٌ يكون هو مشرفه العام، بل هو كعبته التي تطوف حولها مشاريعه
كلّها.
مراكز بحثية أو نحوها كذلك تجدها تُؤسّس بنفس المنهج الرمزي، أصبحت
أشعر بالحزن والكآبة؛ لأنّ واقعنا المؤسّسي يقول إنّنا لا ننشئ مؤسسات
دعويّة وإنّما ممالك يتربّع عرش كلّ منها مَن سمّى نفسه (المشرف
العام).
قد يلومني البعض على هذه العبارات ويردّد كما كنا نردّد: «أو سدّوا
المكان الذي سدّوا»..
وأنا أقول: لقد ولّى عهد هذه الأبيات؛ لأنّ ذلك يُقبل في حال محدودية
الإمكانات، وكثرة القيود، أمّا في عالم اليوم فكلّنا يعلم أنّه لا
وجود لذلك، وأنّ واقع المشاريع لو حصل الاندماج والتكتّل كان يمكن أن
يحدث قفزة في العمل الإعلامي الدعوي.
وأقول كذلك: إنّني لا أستطيع منع نفسي من سؤال تلحّ به علَيّ كلّما
صدمت بمشروع دعوي إعلامي: ما الذي يمنع الشيخ أو المؤسس أيًّا كان أن
يندمج مع من سبقه، ويضخّ ما عنده لتطوير وإكمال بناء سابق، ما دام
المشروع لا يختلف عن سابقه في المضمون والأهداف، بل ولا في
المنهج؟!
قناة واحدة للأطفال قوية في مضمونها ومحترفة في إنتاجها واسعة في
انتشارها أم مجموعة من القنوات الهزيلة الّتي لا يكاد يرغب فيها إلاّ
الزهّاد والعبّاد من أطفالنا؟
أين القناة الإخباريّة المحترفة التي تغني أو على الأقل تقيم الحجّة
على من يتابع فاتنات القنوات الإخبارية المنفلتة، لا لشيء إلاّ بزعم
متابعة الخبر أولاً بأوّل والحوارات والتحليلات الجيدة؟
لو دمجنا عشرات المواقع التي على الشبكة التي لا يختلف أصحابها في
المنهج، وأنتجنا موقعًا قويًّا محترفًا فيه الخبر والمقالة واللقاء
والفيديو والصوت، في إطار شرعي إسلامي لكان أجدى من عشرات المواقع
الّتي لا يكاد يزورها إلاّ المريدون الذين يصنع بهم بعض أصحاب المواقع
مملكة الوهم.
الواقع مؤلم ومحزن، وحسن الظنّ يجعل كثيرًا منّا يتردّد عن طرح مثل
هذا السؤال، لكنّك حين تحاول أن تجد عذرًا لهذه الفرديّة المتدثّرة
بشعار المؤسّسة لا تجد جوابًا مقنعًا إلاّ بسوء ظنّ، لكنّه سوء الظنّ
الذي يدفعنا للنقد وتوجيه اللوم لمن ملّكه الله المال، وسلّطه على
طاقات بشريّة هائلة أن لا يضيعها في مشاريع فرديّة يظهر فيها بجلاء
الرغبة في الظهور في الواجهة ولو على حساب ضعف المشروع ككل، مقارنة
بمشاريع الآخرين الّتي نرى كيف تتكتّل ثمّ تتغوّل لتأكل كلّ ما يعترض
طريقها، وأوّل ما ستزدرده هذه المشاريع الفرديّة الّتي يظنّ أصحابها
أنّها قادرة بهذه الفرديّة على مواجهة طوفان الإعلام المضادّ، والله
المستعان.
السبت 28 ربيع الثاني 1432 الموافق 02 إبريل 2011
- التصنيف: