صاحب الجنتين 6

منذ 2017-06-01

هذه هي النهاية وإن بعدت وذاك هو المآل وإن تأخر.. هشيم تبدده الرياح إذا اشتدت به في يوم عاصف.. النبات الذي يهيج ثم يصفر ثم مآله حطام.. جناح البعوضة.. الجدي المنتن الأسك.. متاع الغرور القليل.. العرض الزائل.. اللعب واللهو.. المظهر الزائف.. الزخرف الفاني.. هكذا عبر القرآن وتكلمت السنة عن تلك الفتنة المؤقتة المسماة: دنيا.. وبفهم تلك الأمثال المضروبة ينجو الإنسان من مصير صاحب الجنتين.. حين يعرف أن هذه الدنيا المبهرة بكل ما فيها من لذات وشهوات هي مجرد زينة لا تلبث أن تزول..

ولقد كانت دعوة الرجل المؤمن في قصة صاحب الجنتين = نموذجا من أكمل النماذج في الخطاب الدعوي وأكثرها توازنا وضبطا للغة الحوار مع المخالف مهما بلغت الدركات التي تدنى إليها ذلك المخالف.

 

ابتداءً كما سبق وأشرنا لم يختر المؤمن الهجر أو المفارقة الكلية بل يبدو من ظاهر الآيات كما سبق وأشرت أنه قد دخل لصاحبه جنته وأن الحوار دار بين جنبات تلك الحديقة وليس خارج أسوارها ذلك لأن قولة الكفر التي تفوه به صاحب الجنتين وردت بعد قول الله {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه} [الكهف: 35].

 

إذن فحديثه عن عدم زوالها وعدم قيام الساعة كان بعد أن دخل.. كيف إذن علق صاحبه المؤمن على ذلك القول إن لم يكن قد دخل معه؟

 

نحن إذن بصدد رجل يذهب بدعوته إلى من يحتاج إليها ويحمل رسالته على كاهله حيثما حل أو ارتحل.

 

لكنه رغم ذلك لا يداهن أو يجامل في الحق ولا يأبه بجاه مضيفه أو غناه فيجعله ذلك ينكسر أو يذل في خطابه إذا كان الأمر يقتضي عزة وقوة في هذا الحق.

 

ويبدو أنه قد قدر أن مدى الكبر والغرور الذي بلغه صاحب الجنتين يحتاج إلى صدمة مبدئية.. من هنا اختار أن يكون سؤاله الأول حاسما كاشفا قويا صادما.,

 

أكفرت؟!

بهذا السؤال بدأ المؤمن مظهرا حقيقة هذا الذي قاله صاحب الجنتين.. لم يزين الباطل ولم يلوِ عنق الكلام ليجامل الغني ويهون عليه جريمته.

 

لقد بدأ بالوضوح الذي تفوح منه العزة والكرامة وعدم الانكسار لإبهار المادة وبهرج الغنى.. ثم بعد تلك البداية الحاسمة جاء الترقيق والتذكير بفضل الله ونعمته منذ البداية.. منذ الخلق.. الذي خلقك.... من تراب.. ثم من نطفة.. ثم سواك رجلا.. إنه تذكير بالنعم الأصلية التي لا تعد جنته شيئا إلى جوارها.. استدعاء لذلك الحين من الدهر الذي لم يكن فيه شيئا مذكورا.. ثم تأتي العزة من جديد.. العزة بالله.. بدينه.. بعقيدته.. {لَٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 38]

 

وما مقام ذكر الشرك هنا؟

صاحب الجنتين لم يذكر آلهة يعبدها أو أوثان يشرك بعبادتها فلماذا الشرك في هذا السياق؟

 

إنها الإشارة لأصل العلة وموطن الداء.. عبودية غير الله واتباع غير سبيله القويم ومنهجه السليم وصراطه المستقيم.. ولقد كان المنهج البديل هنا = الدرهم والدينار.. أسر الدنيا والانسحاق أمام زينتها.. هذه هي حقيقة قولك يا صاحب الجنتين.. وهذا ما لم يقع فيه الصاحب المؤمن.

 

لكن الخطاب لن يقتصر على التقييم والتشخيص والوعظ والكشف.. لابد من توجيه ونصح وعرض لحل.. والحل سهل.. {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. 

 

أرجع الفضل لصاحبه.. علق القلب بالمنعم.. اعرف حقيقة النعمة وأنها محض مشيئة إلهية.. واعرف منبع القوة ومصدرها.. وقل ذلك معتقدا إياه.. ذلك هو الحل ببساطة.

 

ثم ليأتي الترهيب من جديد:

{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 39-41 ].

 

إن أمثال صاحب الجنتين ممن لا يفهمون إلا منطق القوة ولا يعترفون إلا بمعيار الأسباب المادية يحتاجون إلى ذلك الترهيب الصريح لاسيما في شأن أهم ما يحركهم ويخشون فواته..

 

الدنيا.. هذه الدنيا التي تتحرق نفسك شوقا إليها.. ما أهونها على الله.. وما أيسر زوالها.. وما أسهل نزعها من يدك وإعطاءها لغيرك.. لابد أن يترسخ ذلك المبدأ وأن يوضع في حسبان عبيد الدنيا.. وقد كان.. لقد ترسخت تلك الحقيقة في العقل الباطن لصاحب الجنتين لكنها اتخذت مكانا منزويا بعيدا أصر على حبسه فيه.. ولقد خرجت إلى لسانه يوما.. لكن بعد أن كان الأوان قد فات..

 

هل أُرسِل على جنته حسبانا من السماء؟ هل طاف عليها طائف ليلا فأصبحت كالصريم؟

هل أصابتها ريح عاتية أو داهمها طوفان مدمر؟ هل جف نهرها وصار ماؤها غورا فلم يستطع له طلبا؟

ربما كان هذا أو ذاك..

وربما كل ذلك قد وقع بجنته؟

وربما شيئا غيره قد حل بها؟

المهم هو المآل.. المصير.. {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42].

 

هذه الجملة القرآنية القصيرة لخصت الفاجعة وبينت القارعة التي أصابت جنته بما صنع.. الإحاطة.. لا مهرب ولا ملجأ ولا مناص.. لم يعد له إلا كفين يقلبهما ذاهلا لا يكاد يصدق أن هذا الخراب المحيط به والمحاط به كان يوما جنته التي طالما تباهى بها وتفاخر وعلا وتكبر

أين النخيل والأعناب؟

أين الأشجار والثمار؟

أين الزروع والأنهار؟

أين ما أنفقه عليها وما بذله فيها؟

 

{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا} [الكهف: 42].. كل شيء زال وفنى وليس حوله الآن إلا الخراب والأرض الخالية من أي لون من ألوان الحياة المبهجة.. والآن سيتكلم.. سيتذكر.. سيستدعي موعظة صاحبه المؤمن من محبسها في خبايا نفسه.. وسيربط ما أصابه بهذا الذي اقترفه.. بشركه.. {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42]

 

قد عرفت إذا تلك الحقيقة التي طالما أنكرت وجحدت وطالما ينكر غيرك ويجحد.. عرفت أن الزيادة قرينة الشكر.. وأن الزوال مآل الكفر.. وأن الشرك لظلم عظيم وأن عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة.. لكن المعرفة جاءت متأخرة والاعتراف جاء على ما يبدو بعد وقوع القضاء فالأمر قد حسم ونتيجة الحرب قد ظهرت.. حرب مع الخالق.. َ {لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 43].

 

هذه هي الخلاصة.. وتلك هي النتيجة الدائمة والنهائية.. لم ينتصر.. ولن ينتصر.... {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ * هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 44].

 

خلاصة العبرة من قصة صاحب الجنتين تجملها الآية التي تلت القصة مباشرة مبينة حقيقة الدنيا بكل بهرجها وبريقها الأخاذ.. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].

 

هذه هي النهاية وإن بعدت وذاك هو المآل وإن تأخر.. هشيم تبدده الرياح إذا اشتدت به في يوم عاصف.. النبات الذي يهيج ثم يصفر ثم مآله حطام.. جناح البعوضة.. الجدي المنتن الأسك.. متاع الغرور القليل.. العرض الزائل.. اللعب واللهو.. المظهر الزائف.. الزخرف الفاني.. هكذا عبر القرآن وتكلمت السنة عن تلك الفتنة المؤقتة المسماة: دنيا.. وبفهم تلك الأمثال المضروبة ينجو الإنسان من مصير صاحب الجنتين.. حين يعرف أن هذه الدنيا المبهرة بكل ما فيها من لذات وشهوات هي مجرد زينة لا تلبث أن تزول.. {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].

 

وعندها سيدرك الحقيقة الختامية التي أدركها الصاحب المؤمن ولم يدركها صاحب الجنتين الجاحد.. حقيقة أن.. {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].

 

ثم ينتقل مشهد الصاحبين المتناقضين عبر أزمان وأجيال لا يعلم عددها إلا الله:

الموقف الدنيوي برمته قد حسم وانقضى الأمر هاهنا في هذه الدار.. لكنه لم ينته بعد في الدار الأخرى.. سينتقل المشهد إلى دار القرار.. إلى الحياة الحقيقية.. إلى الآخرة.. {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51].

 

ها هو المؤمن يسأل في ذلك المقام العظيم عن صاحبه القديم.. صاحب الجنتين الذي طالما حاول تشكيكه وزعزعة إيمانه.. {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 52].

 

هكذا كان يحاول بث الشبهات والشكوك في صدري:

ترى أين هو الآن؟

كيف صار حاله؟

أين ذهب ماله الوفير ونفره العديد؟

هل نفعه هاهنا؟

ها هو قد رُد إلى ربه فهل وجد ما كان يزعم أنه ينتظره إن كان ثمة ساعة؟

هل وجد خيرا منها منقلبا؟!

 

{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54].. سأل المؤمن هذا السؤال باحثا عمن يعرف صاحبه القديم أو يطلعه على مصيره.. {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55].

 

من هنا نعرف أن صاحب الجنة لم يوفق لتوبة تقية العذاب الأخروي.. إذن فقد كانت كلماته: {ياليتني لم أشرك بربي أحدا} = بمثابة صرخات متأخرة بعد فوات الأوان ووقوع العذاب. [الكهف: 42]

 

تماما ككلمة فرعون بين غمرات الموج العاتي {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90].

 

وكأني أسمع نفس الرد الإلهي.. { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[يونس: 91]. 

 

لم تعد التوبة مباحة وقد قضي الأمر ونزل العذاب:

ها هو في مستقر قد ساء.. ها هو في سواء الجحيم.. {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56].. أقسم الصاحب المؤمن مبينا تلك الحقيقة التي يتجاهلها الكثير من الخلق.. لا أحد كبير على الفتنة.. رغم إيمانه وحرصه وإيجابيته المشهودة إلا أنه لم يغتر أو يأمن مكر الله أو يظن نفسه كانت في معزل دائم من الفتن.

 

ها هو يعلنها.. كاد صاحبه الكافر أن يهلكه ويرديه لهذا المصير البشع رغم قوة إيمانه وإيجابية عقيدته.. مرة ثانية لا أحد كبير على الفتن ولا أحد بعيد كل البعد عن الوقوع في حبائلها.. لكن الصاحب الصالح لم يفعل.. لم يقع.. ليس بقوته أو بذكائه أو بإمكاناته.. بل بنعمة من الله.. {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57].

 

كعادة الصالحين في كل زمان لا تنصرف عيونهم وأفكارهم إلى أنفسهم ولا تتعلق قلوبهم بقوتهم وتمكنهم.. لا تتعلق إلا بالله ولا ترى إلا نعمه.. حق له إذن أن يفرح إذن.. حق له أن يصيح بسعادة وسرور.. {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 58-61 ].