نصائح للانتفاع برمضان

منذ 2017-06-03

لكل من يخاف من الفتور في رمضان

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وذريته وصحبه... وبعد:

فإن علامة المؤمنين الشوق إلى مواسم الخيرات، وأزمنة الطاعات، وسعادتهم بأوقات النفحات... فإن لله في أيام دهرنا نفحات، دعانا النبي صلى الله عليه وسلم للتعرض إليها، لعل أحدنا أن تصيبه نفحة لا يبأس بعدها أبدًا.

وقد اتفقت كلمة المسلمين على أن من أعظم نفحات الله على هذه الأمة شهر رمضان، فقد اختاره ليكون مفتتح الخير عليها، ومبتدأ الرحمة والفضل والبركة عليها، بما جعل فيه من أسباب المغفرة والعفو والعتق من النار.

ولهذا كان الأولون من الصحابة والتابعين -ومن نهج نهجهم من أولي البصائر في كل حين- يعتبرون رمضان فرصة الزمان، يشتاقون لقدومه، ويتلهفون للقائه، ويترقبون وصوله، ويتوقون لعطاياه وهداياه، ويسألون ربهم ويتضرعون إليه أن يبلغهم إياه وأن يسلمهم إليه، كما قال معلى ابن الفضل: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم". وقال يحيى بن أبي كثير: "كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، اللهم سلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلًا".

مضمار سباق

قال الحسن البصري: "إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا".

وكل مسلم مندوب للدخول في المضمار، والاشتراك في هذا السباق، وإنما يتخلف عنه كل مخذول غير موفق.

غير أن من أراد أن يكون من أهل السبق وأصحاب المنافسة على المراكز الأولى، ونيل مغفرة الله وعفوه، وأن يكون من الفائزين؛ فلا بد له من أمور حتى لا يفوته رمضان:

أولًا: خفف الحمل بتوبة صادقة:

لا يمكن أن يفوز أحد في سباق وقد حمل على ظهره حملًا ثقيلًا وحجرًا كبيرًا، لأن هذا الثقل يمنعه من الخفة، ويحرمه من المنافسة.. وإن أثقل الأحمال حمل الذنوب والمعاصي.

فإنها والله تنهك البدن وتتعبه، قال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ . الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2-3]، فالذنب ينقض الظهر حتى يكاد يكسره، فيمنع من الخفة إلى الطاعات ويحرم من المسارعة إلى الخيرات.

والذنوب حجاب بين العبد وبين الله، فهي توجب الحرمان، وتعقب الخذلان، وتمنع صاحبها عن السير إلى طاعة الرحمن.

والذنوب تفسد القلب وتظلمه، قال عليه الصلاة والسلام: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرً، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (رواه مسلم).

فبين أن الذنوب تذهب ببصيرة العبد، فلا يرى الحق حقًا، ولا الباطل باطلًا، ولا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه.

ومثل هذا القلب المتلطخ بالأقذار، الممتلئ بالأوزار، لا يصلح للقرب من ساحة الطهر ساحة العزيز الغفار، فإنها ساحة الطيب والنقاء ولا يصلح لها إلا قلب طيب تقي نقي فإن  «اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا».

 

والذنوب قسوة للقلب، ففي الحديث: «وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي»، وكلما قسا القلب جفا العبادة واستثقل القرب، وألف الغفلة والبعد، فإن تكلف العبادة لم يجد لها لذة ولا بهجة، ولا حلاوة ولا أنس ولا صفوة، وإنما بكد يحمل على سرعة الفرار وعدم الاستمرار.

 

والذنوب علامة على هوان العبد على الله، وخروجه عن عصمته وصيانته. قال الحسن البصري رحمه الله: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم"، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر من الآية:42].

والذنوب تسبب الوحشة فيما بين العبد وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، وفيما بينه وبين الله، وهذا الأخير يمنع العبد من كثير من الأعمال الطيبة. فكلما أراد أن يرفع يديه ويدعو ربه، حالت تلك الوحشة بينه وبين الدعاء، وإذا خلا فأراد أن يقوم يصلي حجبته الوحشة عن القيام للصلاة، وإذا تفرد بنفسه عن الناس وأراد أن يذكر ربه ويستغفر لذنبه، حالت بينه وبين ذلك تلك الوحشة؛ فيقوم يبحث عن إنسان يأنس به ليهرب من هذه الوحشة إذ أنسه بالناس لا بالله.

 

ولا علاج لكل ذلك إلا بتوبة نصوح، تحمل بين طياتها علامات قبولها، بندم على ما فرط، وهجر لكل ذنب، وعزم على عدم العود، مع رد المظالم إن وجدت. فعند ذلك يصفو القلب فيخف البدن، ويستمتع بالطاعة والعبادة {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور من الآية:31].

 

ثانياً: أغلق الشاشات:

كل الشاشات، بجميع أنواعها: شاشة التلفاز، شاشة الكمبيوتر، الآي فون، الآي باد، الآي بود، حتى التليفونات إن أمكن.

أغلق كل الحسابات: الواتس اب، والفيس بوك، وتويتر، والانستجرام، وجوجل بلاس. أوقفها ولو لشهر واحد، شهر العمر.

إن هذه الشاشات سارقة الأعمار، وحارقة الأوقات، وحالقة الدين، وسبب الغفلة، وطريق كثير من الناس إلى النار.

هذه الشاشات هي عمدة إبليس وأتباعه في سرقة رمضان الناس، أفلام، مسلسلات، فوازير، مسابقات.. المهم أن يضيع رمضان.

فمن أراد أن يسلم له رمضان فليسود شاشاته، ولينور أيامه ولياليه بالقرآن والذكر والصلاة، والدعاء، وصالح الأعمال.

فإن لم يكن بد من استعمال بعضها، فلا أقل من التقنين والنظام، ساعات تقضى فيها الأشغال وتنهى فيها الأعمال ثم العودة سريعا إلى محبوبات الله من العبادات وأنواع القربات.

 

ثالثاً: الخلوة الخلوة

وترك الاختلاط بالناس إلا فيما هو ضرورة أو إعانة على الطاعة، فإن من علامة سلامة القلب الأنس بالله والوحشة من الناس، فكلما زاد أنس العبد بربه استوحش من خلقه

فاجعل الله صاحبًا *** ودع الخلق جانبًا

وقيل أن: "الحكمة في عشرة أشياء: تسعة منها في الصمت، والعاشرة في عدم مخالطة الناس إلا فيما ينفع".

قال الشافعي رحمه الله: "من أحب أن يفتح الله قلبه ويرزقه العلم: فعليه بالخلوة، وقلة الكلام، وترك مخالطة الناس".

فعليك بالخلوة؛ فلعلك تخلو، فتذكر ربك، فتدمع عينك، فتنجو من النار، «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (رواه الترمذي). وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ...» وذكر منهم: «...وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».

وعليك بالخلوة؛ فلعلك تخلو، فتذكر ذنبك، فترفع يديك بالاستغفار، فتكون لحظة إجابة فيغفر الله لك ويتوب عليك.

وعليك بالخلوة؛ فلعلك تخلو، فتسبح أو تهلل أو تكبر، أو تدعو لنفسك أو المؤمنين، فيكتب لك لكل مؤمن حسنة.

الناس بحر عميق *** والبعد عنهم سفينة
وقد نصحتك فاختر ** لنفسك المسكينة

 

رابعًا: وعجلت إليك رب لترضى:

اجعل شعارك في هذا الشهر شعار موسى عندما واعده ربه مع قومه، فلم يدعه الشوق حتى سبقهم إلى ربهم، حتى قال له ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى . قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:83-84].

فاجعل هذا شعارك، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.

واعلم أن المسابقة في الطاعة أصل في الدين، وأمر من الله رب العالمين {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}[الحديد من الآية:21]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران من الآية:133].

فسابق إلى كل عمل صالح، ولا تدعن أحدًا يسبقك إلى خير؛ فإن الله إذا أحب عبدا استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال، وإذا مقت عبدًا استعمله في الأوقات الفاضلة بسيء الأعمال. فنعوذ بالله من عمل السوء في زمان الفضل والخير.

فالسابقون إلى الخير هم الموفقون المقربون {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11]. والقاعدون عنه هم المخذولون المحرومون.

 

وأخيرًا: أحضر نيتك واعقد عزمك:

فإن نية المؤمن خير من عمله، فاحضر نيتك، واشحذ عزيمتك، وأرِ الله من قلبك خيرًا، بالعزم على فعل الخيرات، واكتساب الحسنات، وعمل الطيبات، وترك الشرّات، واجتناب السيئات، وإعمار رمضان بكل ما يستطاع من عمل يقرب إلى رب الأرض والسموات، فقد جاء في الحديث «فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً» (متفق عليه).

 

فنسأل الله أن يبلغنا رمضان بمنِّه، وأن يعيننا فيه على طاعته، وذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا فيه من العتقاء من النار.