بين المتماوتين والمتفلتين !
إذا كانت كتب التراجم والأدب حافلة بمزاح العلماء والفقهاء عبر العصور فإنها مليئة أيضا بتلك النماذج التي ألزمت نفسها بما لا يلزم كل أحد وتركت بعض المباح من أجل صيانة العلم ومجالسه عن الابتذال والميوعة
لا يصح بحال أن يكون المنتسب للعلم والمتصدر لإفتاء الناس وتعليمهم أمر دينهم يابسا متجهما متماوتا متكلفا في زي أو مشية أو منطق أو طريقة معيشة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا ، ويتبسم ويضحك ، وكذلك كان الصحابة يمزحون ولا يتكلفون بل أمورهم سهلة ومعيشتهم خالية من التكلف .
لكن ما تقدم لا يعني مطلقا أن يتغافل طالب العلم عن أن هناك قدرا ضروريا لازما له من الوقار والأدب والسمت الحسن والبعد عن السفاسف ، وربما قبل من غيره ما لم يقبل منه ، ويزداد الأمر تأكيدا إذا صار متبوعا أو معلما له تلاميذ يأخذون عنه ويقتدون بمسلكه وسمته ، فحينها لابد أن يعرف أن للتصدر ضريبة ، وأن للعلم هيبة ووقارا لابد أن يحفظ ، وحمى لابد أن يصان .
وإذا كانت كتب التراجم والأدب حافلة بمزاح العلماء والفقهاء عبر العصور فإنها مليئة أيضا بتلك النماذج التي ألزمت نفسها بما لا يلزم كل أحد وتركت بعض المباح من أجل صيانة العلم ومجالسه عن الابتذال والميوعة .
وللخطيب البغدادي نص مهم يقول فيه" يجب على طالب الحديث أن يتجنب: اللعب، والعبث، والتبذل في المجالس، بالسخف، والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح بيسيره ونادره وطريفة، والذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصلة وفاحشة وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر، فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة]
وقد بلغ الحال بالإمام مالك رحمه الله - كما ذكر الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عنه - أنه كان يقول " حقا على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية ....وينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح وبخاصة إذا ذكروا العلم ، وكان يقول من آداب العالم ألا يضحك إلا تبسما " وقيل إنه مكث يلقي دروسا أكثر من خمسين سنة فعدت له ضحكة أو ضحكتان أو نحو ذلك ( انظر مالك حياته وعصره ص 40 )
وأما الإمام أحمد فيقول بعض تلامذته "لقيت مائتين من مشايخ العلم، فما رأيت مثل أحمد بن حنبل؛ لم يكن يخوض فيما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذُكِر العلم تكلم" .وكان مشايخ أحمد يجلون ويتركون في حضرته الكثير من المزاح والضحك فعن خلف بن سالم قال "كنا في مجلس يزيد بن هارون ، فمزح يزيد مع مستمليه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب يزيد بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد ها هنا حتى لا أمزح" .وكان أحد المحدِّثين عند شيخه إسماعيل ابن عليَّة، فتكلم إنسان، وضحك بعضهم، وثَمَّ أحمد بن حنبل، فأتوا إسماعيل فوجدوه غضبان، فقال: "أتضحكون وعندي أحمد ابن حنبل؟"
وتبقى نصوص وقصص كثيرة في هذا الباب ليس المراد منها مطلقا منع الضحك أو المزاح من أهل العلم والديانة وإنما ضبطه بعض الشي وعدم الاسترسال في هذا الباب لأنني لاحظت أن بعض طلاب العلم لا يفرق بين ما يصح أن يقوله في بيته وفي جلسة خاصة مع خلص رفقائه وبين منشور عام يقرأه المتعلم والجاهل والصغير والكبير وصاحب القصد الحسن ومن في قلبه مرض .
وصفحة المرء على الفيس بوك ليست مثل بيته الذي يقعد فيه على راحته ويتخفف من ملابسه كيف شاء ، وإنما هي أشبه ( ببلكونة ) هي ملك له نعم ولكن عليه أن يدرك أن المارة يرونه فيها بوضوح ، ولا يصح أن يلبس فيها ما يلبسه في غرف النوم المغلقة ، والله المستعان .
أحمد قوشتي عبد الرحيم
دكتور بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة
- التصنيف: