تأملات..في مكر الله بالماكرين

منذ 2017-08-20

لنُحْسِن ظننا بالله، حتى تجري لصالحنا مقادير سننه وعجائب قدرته..

إذا كانت حقيقة المَكر أنه: "تدبير الضُّر في الخفاء"؛ فإن هذا المكر لابد أن ينقسم إلى (مكر سيئ) لا يقع إلا من أشرار أو فُجار أو كفار؛ وقسم آخر يقابله فيكون تدبيرًا لصرف شر المكر السيئ عن المظلومين والمستضعفين، وعلى هذا يمكننا فهم إسناد المكر لله تعالى في القرآن، فمكرُهُ سبحانه بالماكرين هو تدبيره الضرر في الخفاء عليهم بحيث لا يشعرون أن مكرهم مرتد إليهم، ومكر الله إذن؛ ليس مكر سوء، بل هو تدبير خير من الخالق بما لا يعلمه الخَلق، كما قال تعالى: ( {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال/30] فهو خير المدبرين للمؤمنين.

 

وهناك حقائق ينبغي استحضارها عند تأمل الأحوال حولنا، تتعلق بمكر الأعداء من كل صنف بالمسلمين؛ وأخرى تتعلق بمكر الله تعالي بهؤلاء الماكرين..

 

من هذه الحقائق: أن مكر أعداء المؤمنين على مر التاريخ؛ مبعثه الكُرْه للدين، والضيق باتباع الموحدين لنهج الأنبياء ولشرع رب العالمين، ولذلك لا يصدر هذا المكر إلا من شياطين أو أشباه شياطين، وسيظل يصدر منهم في كل مكان به موحدون، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ، عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُورًا وَلَو شَاء رَبٌّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرهُم وَمَا يَفتَرُونَ(الأنعام: 112). وقال {وَكَذَلِكَ جَعَلنَا فِي كُلِّ قَريَةٍ، أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمكُرُوا فِيهَا} [سورة الأنعام: 12] فحتى الأنبياء فضلا عن أتباعهم لم يسلموا من مكر هؤلاء الأعداء، الذين مهما تعاونوا إنسًا وجنًا على المؤمنين؛ فإنهم لا يخرجون بمكرهم قيد شبر عن قدر الله الذي يراقب افتراءهم ويرى مكرهم.

 

ومن الحقائق: أن كل مكرٍ مهما كان صَغَاره وحقارة مدبريه؛ يجد جمهورًا من المستمعين المستمتعين بضرر المؤمنين.. ومن المعجبين.. بل الداعمين المشتركين جميعًا في وصف الغافلين عن سوء العاقبة، والعَمين عن الحساب يوم الدين: كما قال تعالى: {وَلِتَصغَى إِلَيهِأي تميل إلى المكر {أَفئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرضَوهُ وَلِيَقتَرِفُوا مَا هُم مٌّقتَرِفُونَ} [الأنعام: 113] وهم في ذلك مخدوعون: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(الأعراف: 99).

 

ومنها: أن عاقبة المكر السيئ لابد تعود على فاعليه والمتورطين فيه عاجلًا أو آجلًا بعد أن يستفرغوا فيه وسعهم، فتضيع أعمارهم وتفسد أعمالهم دون شعور منهم: {وَلَا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهلِهِ} [فاطر: 43].. {وَمَا يَمكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِم وَمَا يَشعُرُونَ} [الأنعام: 123].. {قَد مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَأَتَى اللّهُ بُنيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ مِن فَوقِهِم وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِن حَيثُ لاَ يَشعُرُونَ} [النحل: 26].. {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل/51]{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ * وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال/30].

 

• ومنها: أن هناك ما هو أسوأ من ارتداد مكر الماكرين عليهم في دنياهم، وهو صرف قلوبهم عن الهداية عقابًا لهم، حيث يضلهم الله ويعمي أبصارهم: {بَل زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكرُهُم وَصُدٌّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ} [سورة الرعد: 33]. وأشد من ذلك: خسارة الآخرة بعد انحسار آثار مكر الماكرين في الدنيا{قَد مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَأَتَى اللّهُ بُنيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ مِن فَوقِهِم وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِن حَيثُ لاَ يَشعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ۖ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ۚ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة النحل].

 

فإلى متى يظل بعض المسلمين يموتون كمدًا ويذوبون حزنًا، متغافلين عن أن الله يمكر بالماكرين، وأنه لا يصلح عمل المفسدين ولا يهدي كيد الخائنين، وأنه محيط بالكافرين، وأنه ولي المؤمنين الذي يحب الصابرين ولا يضيع أجر المحسنين؟!..

 

لنُحْسِن ظننا بالله، حتى تجري لصالحنا مقادير سننه وعجائب قدرته، فهو سبحانه القائل في الحديث القدسي: «أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» (رواه الطبراني وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1905)). ليكن من دعائنا ما علَمَنا نبينا: ربنا أعنا ولاتُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر بنا..