القيمة العليا في الإسلام
الذي أفهمه أن الله أمرنا بعبادته -سبحانه وتعالى ذكره- وتعبيد الناس له، فهذه الأمة أخرجت للناس من أجل هدايتهم إلى صراط الله المستقيم
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
يطرح كثيرٌ من المهتمين بالفكر الإسلامي سؤالًا يفتش به عن القيمة العليا في الإسلام؟، وتأتي الإجابات متعددة، فبعضهم يصر على أن القيمة العليا في الإسلام هي العدل. ومفهوم العدل نسبي، فكل عند نفسه عادل، وقلَّ أن تجد من يفاخر بممارسة الظلم أو الإعانة عليه؛ أو: كل يدعي أن تمكين منظومته الفكرية من واقع الناس يثمر العدل، فالعدل مفهوم نسبي والمتفق على أنه عدل مطلق بين الناس قليل كما غيره من باقي المفاهيم.
وبعضهم يجيب بأن القيمة العليا والهدف الرئيسي للإسلام هو عمارة الأرض، يقول: استخلف الله الإنسان في الأرض لعمارتها. ويجمع هذا الفهم من نصين كريمين.. قولِ الله تعالى عن آدام عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وقول الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] . وحين تدور حول هؤلاء وأفكارهم يظهر لك معلمين أساسيين:
أولهما: أن العمارة في حسهم تعني "البناء".. بناء البيوت وإصلاح دنيا الناس.
ثانيهما: جعلوا "التعمير" ثابتًا يشد إليه غيره. بمعنى أنهم جعلوه مقصد الشريعة الأول، وبالتالي كل ما أدى إلى إصلاح معاش الناس يعد مقصدًا شرعيًا أو وسيلة تأخذ حكمه كغاية من باب (الغايات لها أحكام المقاصد)!
ولا يجادل عاقل في أهمية تعمير الأرض وإصلاح دنيا الناس كهدف من أهداف الشريعة، ولكن المشكلة تكمن في جعله الغاية من التشريع؛ وحتى يتضح الأمر أكثر دعنا نسأل: هل عمارة الأرض غاية أم ثمرة؟
الذي أفهمه أن عمارة الأرض أثر يترتب على تمكين قواعد ومبادئ الشريعة في حياة الناس، أو ثمرة من ثمرات الالتزام بشرع الله، بمعنى أن تطبيق الشرع يثمر عمارة الأرض لا أن هدف الشرع بداية هو عمارة الأرض.
الذي أفهمه أن الله أمرنا بعبادته -سبحانه وتعالى ذكره- وتعبيد الناس له، فهذه الأمة أخرجت للناس من أجل هدايتهم إلى صراط الله المستقيم.. إلى توحيد الله، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110] ، وإن فعلوا عمرت دنياهم. وتستطيع أن تصل إلى هذه الحقيقة من النصوص الشرعية، والتفكير العقلي المجرد، وواقع الناس على مدار التاريخ والواقع المعاصر.
أولًا: النصوص الشرعية:
في نص محكم البيان يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] . فجعل البركة مع الإيمان والتقوى. وسمى الله الكافر مفسدًا، بل المفسد ب (ألـ) التعريفية وكأن لا مفسد غيره، قال تعالى: {وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} ، وقال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} .
وسمى الله سعي المنافقين فسادًا مع أنهم عند أنفسهم مصلحين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} وأهل التفسير على أن الفساد هنا هو المعصية.. سمى الشيء بسببه. وجُعلت المعصية سببًا مباشرًا للفساد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] . {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30] . فوجود المعصية وجود للفساد. وذهاب المعصية حضور لعمارة الأرض..
ثانيًا: واقعنا المعاصر:
الذين يدَّعون التحضر والعمران: هل حقًا آثاروا الأرض وعمروها؟!؛ ما ثمرة هؤلاء؟ الواقع المشاهد أنهم ملؤوا الأرض بالخوف والجوع والفقر، والقسوة .. شيدوا عالمًا قلقًا مضطربًا.. متصارعًا، أخرجوا إنسانًا لا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا ولا يصل رحمًا. مع الأخذ في الاعتبار أن المجتمعات الغربية لا تُقرأ وحدها، فتقدم الأوربيين (أو دول الشمال) ورخاؤهم المادي جاء على أنقاض دول الجنوب، ولذا يقرأ مشهد العالم مجتمع ويسأل الغربيون (الشماليون) عن تخلف (الجنوب).
ثالثًا: التاريخ:
رصد الشيخ أبو الحسن الندوي بعض ما خسره الناس حين تخلى المسلمون عن قيادة البشرية في كتابه الماتع: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وأريد أن أضيء على التاريخ من زاوية سياسية، وهي أن النموذج الإسلامي أوجد مجتمعات آمنة مطمئنة تمسك بيدها تسعة أعشار ما يخصها وتديره بنفسها، وبعيدة كل البعد عن ظلم الحكام. وانحصر الصراع السلطوي بين المتنافسين على السلطة. والاستبداد لم يُعرف إلا مع نموذج الدولة القومية التي استباحت المجتمع وتحكمت في كل شيء. ومع ذلك فإن آثار الحروب السلطوية في الإسلام ضئيل جدًا حين يقارن بمثيلتها عند الأمم الأخرى، فالنموذج الإسلامي هو الأفضل حين يقارن بغيره، وخاصة في حمايته للمجتمع من ظلم الحكام.
ودعنا ندور حول هذه الفكرة وهي أن عمارة الأرض أثر من آثار الالتزام بشرع الله وليست هدفًا في ذاتها، وأن عبادة الله وتعبيد الناس لله هو القيمة العليا والهدف الرئيسي من إرسال الرسل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، من زاوية أخرى.. دعنا نسأل: هل هدف الناس هو العمران؟
اتفق المختصون من أهل البرمجة العصبية وأبوها (علم النفس) وأبناء عمومتهم (التربويون) ومن حام حولهم من الوعاظ على أن هدف الناس هو تحقيق السعادة، والسعادة هي الراحة والطمأنينة، وهي غير اللذة وغير النجاح. والراحة والطمأنينة أبداً لا تكون إلا في طاعة الله سبحانه وتعالى. {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] . {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن11] .
وفشلت الحضارة المعاصرة التي اهتمت بالبنيان وتطوير أدوات الناس في الحياة في تحقيق هدفهم الرئيسي (السعادة)، بل أخذتهم بعيدًا عنها. فغاية الناس الحقيقية عندنا وليست عند غيرنا. غاية البشرية ليست بيوتًا وطرقًا ومصانعَ ومزارعَ ـ ولا أُزَهِّد فيها أبدًا ـ بل غايتهم الأولية السعادة، وهي لا تكون إلا بالإيمان بالله.
تكمن مشكلة جعل إصلاح دنيا الناس هدفًا رئيسيًا، أو قيمة عليا، أو مقصدًا من مقاصد الشريعة العليا في الالتقاء مع الخصوم خلف العمران، وإهمال التوحيد كمنطلق وهدف، وينتهي هؤلاء في الغالب إلى حالة من التعايش في غير محلها، وينقلبون على النصوص ويؤولونها بغير معناها، وأعود إن شاء الله لأكمل في مقالٍ آخر.. لأجيب عن سؤال يتبادر للذهن مفاده: كيف تعمر الأرض بمن لا يستهدف عمارتها؟
محمد جلال القصاص
- التصنيف: