مع القرآن - كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ

منذ 2017-11-18

{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}  {الروم 30 - 32}

أمرنا سبحانه بإقامة الدين على الحنيفية السمحة الواضحة التي تتلخص في التوحيد الخالص لله و نبذ الشرك في الأقوال و الأفعال الظاهرة و الباطنة .

هذا هو الأصل و الذي لا يختلف فيه و لا حوله أهل الإسلام .

و من وسائل الوصول إلى الله و الثبات على منهجه :

أولاً : الإنابة و التوبة بعد كل ذنب .

ثانيا: التقوى التي تتلخص في فعل المأمورات و ترك المحرمات .

هذا أصل الإسلام

و أي تفرق و تنازع بين أبناء الأمة حول مسائل خفية و أمور معقدة لا يعلمها إلا أصحابها الذين ابتعدوا عن العذر و التسامح و ارتموا في أتون التعصب و حب الذات و نبذ المخالفين و كأنهم نسوا أو تناسوا أنهم إخوة لهم فالدين ..فهذا من عمل الشيطان يحرك به أهواء من أطاعوه و إن كانوا من أعلم الناس إلا أنهم وقعوا في الجهل وولغوا في التعصب فباتوا كأجهل الخلق .

و العمل على جمع الكلمة و توحيد الصف المسلم حول كلمة التوحيد و أصل الدين هو من أفضل الجهاد في سبيل الله خاصة في أزمان التفرق و انتشار التعصب بين أبناء الأمة .

قال تعالى :

{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}  {الروم 30 - 32}

قال السعدي في تفسيره :

يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال: { {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} } أي: انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها. وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

وخص اللّه إقامة الوجه لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب ويترتب على الأمرين سَعْيُ البدن ولهذا قال: { حَنِيفًا } أي: مقبلا على اللّه في ذلك معرضا عما سواه.

وهذا الأمر الذي أمرناك به هو { {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } } ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها، فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم، الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة.

ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"

{ { لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} } أي: لا أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه، { {ذَلِكَ} } الذي أمرنا به { {الدِّينُ الْقَيِّمُ} } أي: الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه، { { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} } فلا يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه.

{ {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ } } وهذا تفسير لإقامة الوجه للدين، فإن الإنابة إنابة القلب وانجذاب دواعيه لمراضي اللّه تعالى.

ويلزم من ذلك حمل البدن بمقتضى ما في القلب فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة، ولا يتم ذلك إلا بترك المعاصي الظاهرة والباطنة فلذلك قال: { { وَاتَّقُوهُ } } فهذا يشمل فعل المأمورات وترك المنهيات.

وخص من المأمورات الصلاة لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى لقوله تعالى: { {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } } فهذا إعانتها على التقوى.

ثم قال: { {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} } فهذا حثها على الإنابة. وخص من المنهيات أصلها والذي لا يقبل معه عمل وهو الشرك فقال: { {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} } لكون الشرك مضادا للإنابة التي روحها الإخلاص من كل وجه.

ثم ذكر حالة المشركين مهجنا لها ومقبحا فقال: { { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } } مع أن الدين واحد وهو إخلاص العبادة للّه وحده وهؤلاء المشركون فرقوه، منهم من يعبد الأوثان والأصنام. ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين ومنهم يهود ومنهم نصارى.

ولهذا قال: { {وَكَانُوا شِيَعًا} } أي: كل فرقة من فرق الشرك تألفت وتعصبت على نصر ما معها من الباطل ومنابذة غيرهم ومحاربتهم.

{ { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} } من العلوم المخالفة لعلوم الرسل { {فَرِحُونَ} } به يحكمون لأنفسهم بأنه الحق وأن غيرهم على باطل، وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا كل فريق يتعصب لما معه من حق وباطل، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق بل الدين واحد والرسول واحد والإله واحد.

وأكثر الأمور الدينية وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمة، والأخوة الإيمانية قد عقدها اللّه وربطها أتم ربط، فما بال ذلك كله يُلْغَى ويُبْنَى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية أو فروع خلافية يضلل بها بعضهم بعضا، ويتميز بها بعضهم عن بعض؟

فهل هذا إلا من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها للمسلمين؟

وهل السعي في جمع كلمتهم وإزالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك الأصل الباطل، إلا من أفضل الجهاد في سبيل اللّه وأفضل الأعمال المقربة إلى اللّه؟

#أبو_الهيثم

#مع_القرآن

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

المقال السابق
هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ
المقال التالي
ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ