موعد في الأقصى

منذ 2017-12-09

كلما تذكرت مشهد إمامة النبي لإخوانه الأنبياء، وتخيلت تلك اللحظات الفارقة فى عمر البشرية؛ كلما خفت من تلك الأمانة، و سألت نفسى: هل تحملنا ذلك الإرث وصُنَّا ذلك الفضل؟!  هل صانت الأمة قيمة إسراء نبيها وإمامته فكانت أمة الأئمة، أم أنها اختارت التفريط والإفساد فضاع منها مسراه الكريم وصارت على شفا تضييع رمزيته، وعلى إثره ميزتها وخيريتها التي أحذاها الله رب العالمين؟!

في ظلمة الليل الحالك وجُل الكون يغفو فى سكون، وبينما تمخر النجوم عباب صمتٍ سرمدى انطلقت تلك الدابة البيضاء تضع حافرها حيث ينتهى بصرها ويشق صوت أنفاسها ثوب هدأة الليل الدامس.


مشهد خارق لم يُر مثله أدهش الكون وأذهل الوجود، إنه البُرَاق.. تلك الدابة الباهرة، تحمل على متنها خير من وطئ الثرى.. تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسراه ثم إلى محل العروج به إلى السماء.. إلى حيث سيُقَلّد وتُقلّد أمته الإمامة والقيادة، وتحمل راية الاستخلاف على الأرض..


لم تمض هنيهة إلا وقد بلغت الدابة المعجزة حدود المسجد القديم... ما أعرق جدرانك أيها المسجد! كم شهدت من أحداث وتغيرات منذ أن رُفعت قواعدك..


ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لِجام البُراق فى الحلقة المخصصة له، على الحائط الذى سيتخذه اليهود بعد ذلك بقرون مبكى لهم وينسى كثير من الناس أن له اسما آخر.. حائط البراق !


الآن قد حان موعد العروج إلى السماء، لكن شدة الشوق للمسجد تقتضى ركعتين قبل ذلك.. ركعتين قبل الصلاة الجامعة التى ستصلى بعد ساعات، ويشهدها أكرم جَمْعٍ عرفته البرية.


دخل الحبيب ليصلي في الأقصى ركعتين يستفتح بهما أحداث تلكم الليلة الحافلة، و ما إن خرج حتى خَيّره المَلَك الأمين بين إنائين فهُدِي إلى الفطرة واختار النقاء.. 

 

ثم بدأ العروج إلى السماء..

صعد النبي صلى الله عليه وسلم وارتقى في كل سماء ملاقيا أهلها، حتى أقبل على مرتقًى لا يبلُغه مخلوق غيره حتى لو كان جبريل الأمين عليه السلام.


جبريل الذى رآه الحبيب في تلك الليلة العظيمة على صورته الحقيقية؛ له ستمائة جناح، تنهمر منها التهاويل؛ من الدرر واليواقيت، يسد خلقه ما بين الخافقين و يملأ الأفق على مرمى البصر!


الآن يراه عند بلوغه المنتهى المسموح = ينكسر خاشعا؛ كالحِلس البالي، وقد اقترب من حضرة مولاه جل في علاه. أيمكن لهذا الخلق العظيم أن يتحول إلى هذه الصورة؟! نعم بلا شك..

إنه الانكسار لجلال الله، الذي لا يشهده إلا من أخبت قلبه لمولاه، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف..


مشاهد عظيمة تلك التي رآها رسول الله في تلك الرحلة النورانية الجليلة، أخبار وأنباء، فرائض وواجبات، وأحداث جسام، في شرحها يطول المقام.. 

لكن ثمة مشهد آخر يَطيب للمرء أن ينتقيه من بين أحداث تلك الليلة العظيمة.. المشهد الذى كان إيذانا بتسلم تلك الأمة راية القيادة، وتحملها المسؤلية.. مشهد العودة إلى الأرض المباركة..

عاد النبي إلى تلك البقعة المقدسة ليجد نفسه على موعد عظيم.. موعد فى الأقصى.. عاد النبي ليجد إخوته فى انتظاره.. إخوته الذين ربط بينه وبينهم رابط أعظم من أُخُوّة النسب..


إنها الأُخُوّة الأعمق والأدوم والأبقى، أخوة لم يَفصم عُراها تعاقب القرون، ولم تُخْفِت جَذْوَتَها اختلافات الألسنة والألوان والأعراق، إنها أخوة العقيدة، أخوة الأمانة والرسالة والهم الواحد، عاد النبي ليجد إخوانه، منهم من لَقِيَه بالأعلى في السماوات حين عُرِجَ به، ومنهم من يُلاقيه الآن لأول مرة فى حياته، من يكون هذا الشيخ الوقور الذي لا تكاد تَفْرُقُ خِلْقَتُهُ وسمته عن سمت وخِلْقَةِ حفيده الحبيب صلى الله عليه وسلم؟! هل هو إبراهيم الخليل فعلا؟!! إنه هو بعينه.


تُرى من هذا الرجل الآخر؛ سَبْطُ الشعر، أبيض البشرة، ذو الوجه السمح، القائم المُصَلّي بهذا الخشوع المُخْبِت؟! لكأني أرى عُروة بن مسعود الثقفى فما أشبهه به! إنه المسيح عليه السلام قائم يصلي بين إخوانه الأنبياء..


ومن هذا الرجل الطويل، قوي البنية شديد الخَلْق، كثير الشعر، تبدو عليه ملامح الجدية والعزيمة؟! لكأنه موسى بن عمران عليه السلام، نعم إنه هو، وهذا الذي إلى جواره أخوه هارون عليه السلام، وها هو يوسف ؛ بوجهه الوضيء الذى يكاد نور حُسْنِه يخطف الأبصار، يقف وإلى جواره أبوه المحب الكريم؛ يعقوب عليه السلام، ثم هذا زكريا و قد اشتعل الرأس شيبا ومعه ولده البار الحنون يحيى عليه السلام، وأيوب قد خط الابتلاء علاماته على سَمْتِه الصبور، وآدم أبو البشر موجود هناك!


الكل حاضر.. الكل مجتمع، الكل موجود.. لم يتخلف أحد عن هذا المقام المهيب، ها هو نوح وإدريس وسليمان وداوود وإلياس وإسماعيل وإسحاق وصالح وهود وشعيب ولوط ويونس، هاهم جميعا يقفون فى مجمع الأنبياء والمرسلين، مجمع القمم؛ مجمع القادة الهُداة المَهديين، قادة البشرية ومصابيح هداها ومنقذيها من الضلال ومخرجيها من الظلمات إلى النور.


يقفون جنبا إلى جنب مع من شهد ذاك الجمع الكريم من الملائكة المكرمين.. فهنالك مجتمعهم الجليل الكريم.. في المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.. في ثاني بيت وُضع للناس فى الأرض.. فى الأرض المقدسة التي كتبها الله لحَمَلَةِ الأمانة والأمة المستخلفة فى كل زمان.. 


الأرض المقدسة التي تمنى موسى عليه السلام أن يموت قريبا منها لِمَا وجد من شوق جارف إليها، إنها الأرض المباركة؛ أرض الشام وأكنافها التي ظلت فى قلب النبي بعد ذلك سنين عددا، حتى جاء أمر الله وقُضي الأجل .. صلى إليها، وعني بها، وعَرَفَ أصحابه فضلها، وَوَجّه إليها السرايا والجيوش، وتوفي وقد جَهّز بَعْثَ أسامة بن زيد مُدشّنا ومُؤسسا لمستقبل لفتحها..


ياله من جَمع، و يالها من أرض، و يا له من مسجد، ويا له من لطف، وفضل؛ إذ يَسري الحبيب بحبيبه فى عام حزنه، وفَقْد زوجه وعمه، وتكالب عدوه، ليُخفف عنه، ويَجمعه بخير صحبة يتمناها كل من كانوا صادقين؛ صحبة الأنبياء و المرسلين.


و بينما هم وقوف فى الأقصى الشريف، إذ حان وقت الصلاة، وانبلج صادق الفجر، وتعالى نداء الفلاح، و اصطف خير إخوة عرفتهم البشرية، تجهزا للصلاة المشهودة، التي ستجمع بينهم لأول مرة في التاريخ المعلوم وقف الحبيب صلى الله عليه وسلم بين إخوانه عليهم السلام، وأقبل بوجهه على مولاه، وإذا بجبريل الأمين يشير إليه... تقدم يا محمد تقدم لتصلى بنا.


يا الله!!! يصلي بكم؟!! ما أعظمه من شرف! و ما أثقلها من أمانة! سيتقدم ليصلى إماما بخير مأمومين.. سيتقدم ليصلى إماما يأتم به خليل الرحمن إلى جوار كليم الله إلى جوارهما كلمته التى ألقاها إلى مريم، ومعهم آباؤه وأجداده ، من أول إسماعيل إلى آدم عليهم جميعا الصلاة والسلام..


سيتقدم الآن، كما سيتقدم بعد قرون رجل من آل بيته يحمل اسمه وشيئا من خلقه وهديه ليصلى إماما ومن خلفه المسيح عليه السلام!


الآن تم الاستخلاف ، وتحملت الأمانة يا رسول الله، وتحملتها خير أمة أخرجت للناس.. ليس بمحض فضل منها، أو محاباة لها؛ و إنما خيريتها بحسن أعمالها، وتمسكها بتلك الرسالة، وتحملها لتلك المسئولية، وأمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر.


صلى النبي بإخوانه، ليتم ذلك العرس الإيمانى الباهر، في تلك الأجواء النورانية، التي كان الحبيب أحوج ما يكون إليها فى عام الحزن.


إنه الإسراء؛ ذلكم الموقف المهيب، الذى فيه من العبر والآيات والومضات الشىء الكثير، ذلك الخطب الجلل الذي سُميت باسمه سورة من أحب سور القرآن لقلب النبى صلى الله عليه وسلم؛ إنها سورة سبحان، سورة بنى إسرائيل، إنها سورة الإسراء، وكل ما سبق أسماء لها، و من تلك التسميات ، تبرق الومضة التى أقف معها فى تلك الحلقة من العودة إلى الروح إنها حالة انتقال الاستخلاف من أمة إلى أمة... حالة تسليم الأمانة إلى الرسول الخاتم.

 
و ما يترتب عليها من انتقال القياد من قوم فُضّلوا على العالمين دُهورا فلم يَرْعوا ذاك التفضيل وتلك الأمانة حق رعايتها، إنهم بنو إسرائيل الذين أفسدوا فى الأرض مرتين، وتمردوا على مولاهم ولم يعظموه حق التعظيم، فكان الاستبدال، ومضت سنة الله، وكما جاء فى السورة: {لَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62] {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77]. 

لقد بدأت السورة بعد ذكر الإسراء بذكر طرف من حال القوم الذين حملوا الأمانة قبل أمة النبي صلى الله عليه؛ بنو إسرائيل، 
و ما أدراك ما بنو إسرائيل! كم رأوا من آيات، كم أرسل إليهم من رسل وأنبياء، وكم جحدوا وكذبوا وتمردوا، بل وقتلوا أولئك الأنبياء!!


فماذا كانت النتيجة؟ انتقلت عنهم الأمانة واستبدلوا للأبد، و نزل الكتاب الجديد على رجل من ولد إسماعيل عليه السلام، وصارت الرسالة إلي غيرهم.

 
هذا الكتاب الجديد هو الأمانة التى انتقلت، هو الرسالة التى حمِّلت للأمة اليافعة، ولذا تجد سورة الإسراء من أكثر السور التى تكلمت عن القرآن وخصائصه وقيمته وفضله، هنا مصدر الاستخلاف، هنا الشفاء والرحمة والهدى للتى هى أقوم، وهنا يظهر التمسك بالأمانة،فإذا حملت الأمة هذا الكتاب حق حمله؛ استحقت مدلول هذه الرمزية البديعة في حادثة الإسراء، وإذا هي أحسنت التمسك به استحقت الإمامة،وإذا هي عملت بمنهجه من ربانية وتسبيح وتعظيم، و التزام وصاياه وتوجيهاته؛ فهى بذلك حقا الأمة المستخلفة، أما إن فرطت فيه وأفسدت كما أفسد من سبقوها، فالاستبدال إذن لا محالة، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.


كلما تذكرت مشهد إمامة النبي لإخوانه الأنبياء، وتخيلت تلك اللحظات الفارقة فى عمر البشرية؛ كلما خفت من تلك الأمانة، و سألت نفسى: هل تحملنا ذلك الإرث وصُنَّا ذلك الفضل؟! 


هل صانت الأمة قيمة إسراء نبيها وإمامته فكانت أمة الأئمة، أم أنها اختارت التفريط والإفساد فضاع منها مسراه الكريم وصارت على شفا تضييع رمزيته، وعلى إثره ميزتها وخيريتها التي أحذاها الله رب العالمين؟!


أعتقد أن تلك أسئلةٌ ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا بينما نرتل كل حين: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
-----------------------
فصل "موعد في الأقصى" 
من كتابي #العودة_إلي_الروح طبعة 2012

Editorial notes: خاص بموقع طريق الإسلام