أنياب العلمانية!

منذ 2017-12-20

الملاحظات السلبية على التعليم الأجنبي كثيرة، وإنما أردت أن ألقي الضوء على بعدٍ معين غير الذي يتردد في ساحة المتدينين.

بسم الله الرحمن الرحيم

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

في آخر ثلاثة مقالات حاولت عرض رؤية عن تربية الأبناء من خلال استعراض مشروع أسري خاص، وانتهيت إلى أن أحدنا لا يستطيع أن يربي أبناءه  كما يريد، وأن العدو الحقيقي للمشاريع التربوية الأسرية هو العلمانية التي تضرب مخالبها في كل شيء، تأخذ منا أبناءنا وتربيهم.. تغرس قيمها فينا وفيهم رغمًا عنَّا وعنهم، ولا نستطيع دفعها، بل ندفع من أموالنا ووقتنا لاكتساب معارفها. فمن منا يستطيع أن يمنع أبناءه من المدارس ثم يحيا حياة طبيعية؟!. بل إن حالنا الآن أننا ندفع أبناءنا لمؤسسات العلمانية لتعلمهم وتربيهم!!


وقفت يعتصر قلبي على غرسي وهو يُقلع من أرضي ويغرس في أرضٍ أخرى، ويُروى بما لا أرتضيه!!


وقفت أنظر لهذا المشهد النكد في المدارس وحظائر التعليم (الدروس الخصوصية):

غلظة بعض المعلمين، وسوء خلق بعضهم، وخلو البيئة التعليمية من التربية وتحولها إلى سوقٍ تجارية، حتى كاد يختفي من يهتم بغرس القيم والمبادئ الإيمانية. والطالب يكد طول اليوم بين مدرسة لا تؤدي دورها كما ينبغي ودرسٍ خصوصي جاء رغمًا عن الجميع يؤدي دور البديل بلا إمكانات، ويعود الطالب للبيت منهكًا مشغولًا يبحث عن راحةٍ أو ترويح، ولا تستطيع غير تركه!!


حلم الشباب يُمزق بأنياب العلمانية (مؤسسات العلمانية)!! 

ورحت أبحث عن حل.


ثانية رحت أفتش عن تجربةٍ ناجحة أقلدها أو أطورها، وثانية اشتغل النقد الفكري للتجارب التي واجهتها!!


ووجدت ثلاثة نماذجٍ عملية للجادين الرافضين لهذا الواقع الأليم: المدارس الإسلامية، والتعليم المنزلي، ومحاولة الإفادة من التعليم الأجنبي (الحضانات والمدارس الدولية).


كان لابد من الاشتباك مع التفاصيل ليعلم ماذا يحاول أن يفعل كل فريق، ثم لابد من الصعود لأعلى ليظهر حال هؤلاء في سياق الواقع، وهل ثمة ترابط بينهم، بمعنى: هل نحن أمام ظاهرة اجتماعية متعددة الجوانب تتشكل في مواجهة أنياب (مؤسسات) العلمانية؟، أم أننا أمام حركة عشوائية لم تتمثل في ظاهرة بعد؟!، محاولة للإجابة على سؤال: أين يقف المعترضون على الواقع؟!


والصورة العامة للمشهد تبين أننا أمام دافعين رئيسيين لرفض التعليم النظامي، أحدهما: رفع قيمة الفرد والثاني: الحماية من الغزو الثقافي. الذين نظروا لحماية الفرد من الغزو الثقافي بعضهم اتجه لإقامة مدارس إسلامية، وبعضهم اتجه لتقليل التواجد في المدارس النظامية عن طريق ما عرف بالتعليم المنزلي؛ والذين رأوا الحل في رفع قيمة الفرد اتجهوا لتقليد المشاريع التربوية الناجحة دوليًا بعد خلطها- أو بدون خلطها- ببعض الثقافة الإسلامية. والسؤال: هل تنجح هذه النماذج لتحقيق الهدفين: حماية الفرد من المنظومة العلمانية ورفع قيمته اجتماعيًا لينفع نفسه وأمته؟.. السؤال: هل يستطيع أيٌّ من هذه النماذج افتكاك أبناءنا من أسر العلمانية؟، هل يستطيع أي منها أن يعيد توطين معارفنا واقعًا في حياة الناس؟


التعليم المنزلي إرهاق زائد للبيت، وخاصة إن كانت الأم عاملة، وهو الغالب على النساء الآن، ويواجه تحديات أهمها: أنهم يضطرون للدروس الخصوصية بكثافة وفيها اختلاط (مجيء المدرس/ المدرسة للبيت)، وإنهاك مادي، ولو مارست الأم التدريس فلن تكون كالمدرسة أو كالمدرس الخصوصي، وغالبًا ما يتعرضون لمخلب حاد آخر من مخالب العلمانية وهو ألعاب الأطفال وأفلام الكرتون، والغالبية تستسلم للألعاب والأفلام وخاصة الذين يسكنون الشقق ويبحثون عن شيء يجمد الأطفال ويقضي على (شقاوتهم) في الشقة؛ وفوق هذا كله لا يُعلمون إلا المناهج الدراسية، ما يعني أن حصاد هذا النوع من الرفض العملي لواقع التعليم هو توفير وقت الطلاب للعب وسماع أفلام الكرتون في الغالب،  وقد ينجح إذا ما طبق الرؤية التي سأقدمها في المقال القادم إن شاء الله.


المدارس الإسلامية، تضيف الانضباط الخلقي، وبعض تعاليم الإسلام، وهو أمر لا أقلل من شأنه ولكنه لم يرق لمستوى افتكاك أبناءنا من مخالب العلمانية. فأقصى ما تفعله هذه المدارس هو الانضباط السلوكي وقت الدراسة. ولكنها –أيضًا- يذهب جل جهدها في خدمة أهداف العلمانية.


والطريق الثالث يسعى لرفع مستوى الأبناء من خلال الدفع بهم إلى الحضانات والمدارس الدولية، بدعوى أن مستوى التربية والتعليم في هذه المحافل التعليمية متطور؛ وثمة عدد من الملاحظات على هذا الطريق، بعضها يتعلق بالسياق وبعضها يتعلق بالمحتوى، وهذه أهم ملاحظتين على السياق العام:


الملاحظة الأولى:

تتعلق بالأموال الطائلة التي تنفق في هذا الاتجاه: وأضرب مثالًا بالأموال التي تنفق للحصول على شهادة التوفل بأنواعه والآيلتس، وتقدر بمئات الملايين من الأمة الإسلامية، وتجمع هذه الأموال من الطبقة المتوسطة والفقيرة في الغالب ولا يتم تدويرها في مشاريع إنتاجية. والسؤال: ما المقابل لكل هذا الجهد والمال؟!، هل يؤدي هذا الجهد والمال إلى تعلم اللغة حقًا؟، ومن يتعلم اللغة هل يستفيد بها في نقل ما ينفعنا أم أن غاية القلة التي تتقن اللغة أن يعمل موظفًا لتحصيل فوائد شخصية؟


وإذا كان النقل عنهم ضرورة في بعض الأشياء وخاصة فيما يتعلق بفهم حالهم وأهدافهم الكلية والتحولات التي تحدث بينهم والتحولات التي يحدثونها هم دوليًا.


وفيما يتعلق بتعلم اللغة من أجل النقل عنهم، فإن النقل فعل نخبة متخصصة تخرج من سياق واعٍ هادف. تخرج لتتعلم شيئًا محددًا من غيرنا أو عن غيرنا؛ بما يعني أن تعلم اللغة لا يلزم الجميع وإنما يلزم قلة قليلة، تنقل ثم تطرح بيننا ما قد جلبته من عندهم ونأخذ منه ونترك، ونطوره في إطارنا الثقافي وضوابطنا العقدية. وقد مضى قرنين على تعلم لغتهم وثقافتهم، وماذا حصلنا؟

والمقصود هنا أن التعليم الأجنبي يمثل نزيفًا حادًا للمال والجهد ولا يؤتي ثماره المرجوه.


الملاحظة الثانية:

حين تتدبر المشهد التعليمي وتحاول البحث عن الأهداف الكلية (السياسات) التي تحاول الاستراتيجيات تحقيقها باستخدام المؤسسات التعليمية، وخاصة هذه التي نتوجه لها الآن (التعليم الأجنبي)، تجد أن التعليم الخاص يستخدم كأداة من أدوات تقسيم المجتمع إلى طبقات، ويستخدم كأداة من أدوات توزيع الثروة، وأوضح مثال على ذلك الجامعات الخاصة التي تهدر التفوق الدراسي كشرط للمنافسة في السوق بعد التخرج (انظر قطاع الصيدلة والطب والهندسة).


والملاحظات السلبية على التعليم الأجنبي كثيرة، وإنما أردت أن ألقي الضوء على بعدٍ معين غير الذي يتردد في ساحة المتدينين (أعني أن هذا النوع من التعليم ينشر قيمًا تعادي عقائدنا)، أريد أن القي الضوء على أن هذا النوع من التعليم يستخدم في تحريك المال تجاه فئة ضد فئة مما يساهم في ترسيخ الطبقية في المجتمع. وبالتالي فإننا نخسر الكثير مقابل القليل. وأننا دخلنا في معادلة لم تثمر لنا رقيًا بذواتنا، لم ننتفع منها شخصيًا وبالتالي لم ننفع بها أمتنا، وغاية ما يرجى من التعليم الأجنبي هو الحصول على وظيفة جيدة ضمن مؤسسات العلمانية المحلية أو الدولية.


وأريد أن أقترب من هذه ظاهرة (رفع قيمة الفرد بتلقي المناهج الأجنبية المستوردة) من مدخلٍ آخر، أريد أن أجيب عن سؤال يبحث عن العلاقة بين متغيرين: تطوير الذات والمناهج التي تدرس في التعليم الأجنبي وغير الأجنبي؛ ولكن الكلمات المخصصة لهذا المقال قد نفدت، وإن شاء الله في المقال القادم...