إن كنتم صادقين
فعلم آدم إذًا مختلف كيفًا وليس فقط كمًا، فبالرغم أن مصدره الأساسي الله أيضا {وعلم آدم الأسماء كلها} بيد أن الجنس البشري قادر أن يكتسب العلم الجديد بالبحث {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} ، والبناء {واستعمركم فيها}، وقادر على نقله وتوريثه وبناء الحضارات بالتدوين ( {الذي علم بالقلم} ).
في الآيات من سورة البقرة [30-33] يقول تعالى للملائكة {إن كنتم صادقين} إن كانوا صادقين في ماذا؟ أقصد ما هي الدعوى؟ وهل باستكمال الحوار كان هذا برهان من الله أنهم غير صاقين في هذه الدعوى؟
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٣١﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿٣٢﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿٣٣﴾} البقرة [30-33]
أظن والله أعلم أن "إن كنتم صادقين" ربما تكون راجعة على تعجب الملائكة من كون البشر سيكونون خلائف في الأرض، وهذا التعجب هو بحجة: "مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" و "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، إذ أنهم تعجبوا من جعل هذا الكائن المُفسِد الدموي المسمى الإنسان خليفة في الأرض مع أنه لن يتفوق عليهم في التسبيح والتقديس بل يتفوقون هم عليه في كونهم ليسوا مفسدين دمويين!
ولننظر لحجتهم في تعجبهم ونفندها:
فأولا: هم ذكروا نصف الحقيقة بصدد الإنسان وهي الإفساد وسفك الدماء، وكتموا النصف الآخر،
{قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكتُمونَ} [البقرة - ٣٣]
وهو كون الإنسان سيخرج منه الذين يخشونه بحق وهم العلماء الذين سنوضح لاحقًا بأنهم هم من يسبحون بحمده حق التسبيح ويقدسون له حق التقديس
﴿ {ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} ﴾[فاطر: ٢٨]
وثانيا :فإن التسبيح والتقديس الملائكي هو أمر جبلي تسييري وبالتالي فهو ليس من المؤهلات التي يحق للملائكة أن ينسبوها لأنفسهم بغض النظر عن غرضهم من هذه النسبة إن كان إثبات أحقيتهم بالخلافة أم لا.**
لذا فهذان التسبيح والتقديس الملائكيان ليسا هما التسبيح والتقديس اللائقين بالخليفة إذ أن الكيف مختلف، فالتسبيح والتقديس اللائقان بالخليفة يجب أن يتوافر فيه ثلاثة عناصر:
1- حرية الإرادة
2- القدرة على اكتساب العلم وبناء المعرفة عبر العصور
3- فضلا أنه ليس التسبيح والتقديس هما فقط المطلوبين من الخليفة بل السعي والعمل وتعمير الكون والدعوة إلى الله.
وبخصوص النقطة الثانية عندما أنبأهم آدم وبنوه - أو "جنس آدم" - بالعلم الذي سيكتسبونه بأنفسهم مستقبلا ***وقتها أدركت الملائكة أن علمهم تلقيني بحت وليس فيه ما شاركوا فيه بجهدهم - عن طريق السير في الأرض والتدوين بالقلم - مثل علم الجنس البشري، حينها أدركوا أن علمهم ليس العلم الحقيقي المتطلب للتسبيح والتقديس الحقيقيين. فقالوا {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} في إشارة أن علمهم مختلف عن علم آدم كيفًا وليس فقط كمًا, وإلا فإنه لا علم لآدم أيضا إلا ما علمه الله إياه! ويستحيل أن يفاضل الله بين بني آم والملائكة بأمر لم يساهموا فيه بل هو محض عطاء من الله!
فعلم آدم إذًا مختلف كيفًا وليس فقط كمًا، فبالرغم أن مصدره الأساسي الله أيضا {وعلم آدم الأسماء كلها} بيد أن الجنس البشري قادر أن يكتسب العلم الجديد بالبحث {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} ، والبناء {واستعمركم فيها}، وقادر على نقله وتوريثه وبناء الحضارات بالتدوين ( {الذي علم بالقلم} ).
إذًا هم لم يكونوا صادقين - عن سوء فهم وليس تعمدا, وبالتالي فليس معنى عدم صدقهم كونهم كاذبين، ولكن معناه أن تعجبهم لم يكن في محله - في أنهم ذكروا نصف الحقيقة بخصوص الإنسان، وأن هذا التسبيح والتقديس اللذان ذكروهما من مآثرهم ليسا هما التسبيح والتقديس المنتظران من الخليفة والذي يجب أن يتوافر فيهما شرطا حرية الإرادة والعلم الاكتسابي الناشئ عن البحث والتدين، وأيضا كون التسبيح والتقديس ليسا هما مهمة الخليفة الأولى بل إن مهمته الأولى هي تعمير الأرض والدعوة إلى الله تعالى (العبادة "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون").
(**) وأستبعد ذلك لأنه من البديهي أنه لا مسيرَ يصلح للخلافة فضلا أن التسبيح بحمد الله والتقديس له ليسا هما فقط وظائف الخليفة
.
(***) وهذا كان داعي تذكير الله لهم أنه يعلم الغيب المستقبلي "ألم أقل لكم أني أعلم غيب السماوات والأرض"
.
والله أعلم
-----
أحمد كمال قاسم
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي
- التصنيف: