المستعجلون

منذ 2018-07-03

أولئك الذين لا يطيقون الانتظار ولا يتصالحون أبدا مع التمهل ولا يسمعون بكلمات مثل تؤدة أو تأني أو صبر

تعالى نفير تلك السيارة الغاضبة من خلفي بينما أقود سيارتي بسرعة متوسطة كما هي عادتي
انتفضت فزعا وتلفت حولي وقد ظننت أن هاجس نومي أثناء القيادة قد تحقق أخيرا وها أنا ذا أدفع ثمن انتقاصي من حق جسدي لأستيقظ على حادثة مروعة
لكن يبدو أن أجلي لم يحن بعد
لم أكن نائما إذاً
أي خطأ ارتكبته إذاً ليضطر صاحب السيارة التي تكاد تلامس ظهر سيارتي لأن يزجرني بنفيره المتواصل بهذا الشكل المرعب
أنا أرتدي حزام الأمان ولا أتحدث عبر الهاتف أثناء القيادة إلا عبر سماعة في أذني ولا أقلب صفحات التواصل أو أتناول إفطاري بينما أقود وكذلك لا أتذكر أني يوما كسرت إشارة أو تجاوزت عن يمين السيارات أو سرت عكس الاتجاه
لا أزعم أنني سائق مثالي لكنني فعلا لا أحب أن أجعل لأي مخلوق فرصة لأن يضعني في موقع الاتهام أو أجعل نفسي مستحقا للعقوبة
لا أحب ذلك ولست مضطرا إليه
إذا فما الذي يزعج رفيق الطريق الذي صدع رأسي بنفيره المزعج؟
يبدو أن الخطأ ليس مني 
إنه فقط أحد أولئك القوم الذين لا أعد نفسي غريبا عنهم ولكن في مواضع وظروف أخرى
إنهم المستعجلون
قوم هم نقيض لذلك النمط الذي أبدع الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله في وصفه ضمن سطور مقاله الماتع المتأخرون
مقال جميل هو، أنصحكم بقراءته ويدور عن أناس هم أبعد ما يكونون عن ذلك الذي يصر بلا كلل ولا ملل على تجاوز سيارتي

الطريق ضيق ولا يسمح بالتجاوز لكنه مع ذلك ينهرني بنفيره ليؤكد لي ضمنيا أن علي التصرف وليس عليه أن يتحمل تلك الكيلو مترات التسعين التي أحرص على عدم الزيادة عنها
لابد أن أتصرف ولو بأن أقفز بسيارتي في تلك الترعة المجاورة ليتمكن هو من الإقلاع بطائرته المتململة

تمكنت بصعوبة من تفادي السقوط في الترعة بينما أحتل تلك المساحة الترابية الضيقة على جانب الطريق ليتمكن أخيرا من تجاوزي
لا بأس... لعل بجواره زوجه التي تصرخ بألم نظرا لمداهمتها بآلام الطلق أو لعله طبيب مستدعى لإنقاذ حياة مريض يصارع الموت أو أن ثمة كارثة ستحدث لو تحمل تلك الدقائق العشر التي سيتأخرها إذا سار بسرعة طبيعية
لألتمسن له سبعين عذرا ولأكونن من حسني الظن ولا داعي لأن أنسى التلويح بيدي له وهو يطير إلى جواري لعله يدرك أنني مقدر لتلك الظروف القهرية التي تدفعه لمثل هذه العجلة

طبعا لم يلتفت لتلويحي ولم يعرني أي انتباه أصلا فقد كان منشغلا فعلا بتلك القيادة الخطرة التي هو بلا شك مضطر إليها
هكذا قلت لنفسي بينما ألملم شتاتها المذعور وأحاول العودة إلى الأسفلت لأكمل رحلتي ذات السرعة التسعينية البطيئة

لم تمر ربع الساعة إلى وقد احتجت إلى بعض القهوة لأستطيع إكمال طريقي من دون تحقيق هاجسي الأزلي الذي هو كما تعلم النوم أثناء القيادة
ما إن أدركت محطة وقود تحوي استراحة وكافيتريا حتى جنحت إليها مبتغيا أكسير اليقظة الشهي... الكافيين الحبيب
لحظة
إنه هو.. 
لا يمكن أن أخطيء سيارته الفارهة بارك الله له فيها
ليس كل يوم تمر مثل هذه الموديلات في إقليمنا الهاديء
كما أن وجهه قد انطبع في ذاكرتي
هو صاحبنا المتعجل
إذا فهو ليس مضطرا
جلسته المتكئة وهو يحتسي مشروبه الساخن وضحكاته التي تتعالى مع أصدقائه لا يمكن أن تتوافق مع زوجة تعاني آلام الوضع أو مريض يحتضر منتظرا إياه
لا يوجد مضطر للعجلة يجلس بهذه الأريحية والاسترخاء
جززت على أسناني حتى كدت أسمع صوت تهشمها وغلى الدم في عروقي وتكورت قبضتي على نفسها تود أن تجرب أخيرا شعور اللكمات

- لماذا أفزعتني إذا وكدت تغرقني في الترعة أيها ال.... 
استطعت بحمد الله كظم غيظي واسترجعت وحوقلت واستدرت مغادرا وقد تطاير النعاس من جفوني دون الحاجة للكافيين بعد هذا الدش البارد الذي تلقيته
إنه كما قلت أحدهم
أحد المتعجلين
أولئك الذين لا يطيقون الانتظار ولا يتصالحون أبدا مع التمهل ولا يسمعون بكلمات مثل تؤدة أو تأني أو صبر 
وعلى عكس العادة والحكم المشتهرة فإن أولئك يجدون في التأني ندامة وفي العجلة كل السلامة ولا يبتلعون بسهولة حقيقة كون التؤدة خير في كل شيء إلا في عمل الآخرة
قد يسلمون بتلك الأخيرة لأنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكن حالهم ومقالهم دوما يشهدان بعكس ذلك التسليم

كثيرا ما ألقى أحد هؤلاء بكل عصبية يجاوز ذلك الطابور الطويل الذي كدت أهرم فيه وكادت البقية القليلة السوداء من شعري أن تشتعل شيبا بينما أنما أعسكر في منتصفه بأدب وهدوء
فجأة يقتحم صاحبنا نافد الصبر وضرب بتاريخ الطابور عرص الحائط وسار بكل ثقة نحو الشباك أو ماكينة الحساب أو مكتب الموظف الذي نتمنى الوصول إليه
والويل لك كل الويل إذا حاولت سؤاله أو سؤالها عن سر تلك الثقة التي من خلالها قرر أنه أحق منا ومن ساعات انتظارنا
حينئذ إما ستواجه سيلا من عصبيه العجولة التي قد تتحول بسهولة إلى وقاحة وربما بذاءة ولسان طويل وربما يد طويلة بدورها
وإما سيكون متحضرا أو تكون راقية وتكتفي بمواجهتك بسيل من المبررات الرهيبة والمعاذير المفزعة التي تحتم عليها هذا التجاوز ثم لا يلبث الأمر إلا ويتحول لحالة من إشعارك بالذنب والخسة أن جرؤت على السؤال أصلا 
المهم أنه في النهاية سيمر وسيسبقك وسيعتبر وتعتبر أنه هذا حق طبيعي في الحياة 
لكن الموقف سيشتعل حتما لو وجد في الطابور شخص من النوع نفسه وشهد ذلك الفعل من زميله العجول 
وهو لن يسمح أبدا بهذه المهزلة التي يعد أخطر ما فيها أنها ستعطله وهو كما تعلم متعجل جدا ولا وقت لديه
هنا ستكون مبررات هذا في مواجهة مبررات ذاك وسيتراشقان بالظروف والانشغالات وربما بالركلات واللكمات

أذكر أن أحد هؤلاء يوما زار عيادتي وعلمت بوجوده من تلك الجلبة التي تعالت من الخارج
سألت السكرتيرة عن تلك الضوضاء فأخبرتني أن فلان الفلاني وصل الآن ورأسه وألف سيف أنه لن ينتظر وسيدخل الآن قبل كل الموجودين
وطبعا في الموجودين نفس الطراز ولم يسمحوا له

سألتها بدهشة ولماذا يصر؟ أهو متألم بشدة مثلا فلا يستطيع الانتظار؟ حتى لو كان كذلك وجل من يزور عيادة أسنان كذلك أصلا فلماذا لا يستأذن بهدوء خصوصا أننا لا نعتمد نظام الكشف المستعجل والأمر حينئذ يكون بالتراضي
المفاجأة أنه اقتحم علي غرفة الكشف وهو يلومني بشدة على تركه كل هذه الدقائق بالخارج؟

هل أعرفك من قبل؟ 
هل حضرتك متألم جدا؟ 
هل هناك ظرف قهري كارثي؟ 
لا
لا
لا
هكذا كانت الإجابة في كل مرة
إذاً فما كل هذا العشم وما كل تلك الجرأة؟ 
أنا فلان الفلاني صاحب المنصب الفلاني وأنا مستعجل
هذه فقط هي حيثيات صاحبنا 
منصبه
والأهم أنه مستعجل
فكيف يصبر إذا وكيف يكون كبقية البشر ينتظر دوره؟ 
إنه منهم
وهم كثر
بل الحقيقة أنني وأنت بصور مختلفة نكون على القارب نفسه
قارب العجلة
"خُلق الإنسان من عجل" وهو غالبا يريد العاجلة ويؤثرها ولا صبر له عليها
وحين يأتي عمل الآخرة وذكرها "وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ" 
نقيض ما أراده الله من سعي ومسارعة في هذه ومشي واكتفاء بعدم نسيان نصيبنا من تلك. 
عجلة كعجلة موسى عليه السلام حين " وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ"
هذا هو المراد
وذلك ما لا يتقنه إلا القليل
قليل يعلمون ألا ملجأ لهم إلا عنده فيفرون منه إليه
أما أصدقائي المتعجلين فحدث عن عجلتهم ولا حرج
عجلة ليتها كانت فيما هو خير
في عمل الآخرة