ليس بالشغف وحده يحيا الإنسان

منذ 2018-09-18

حقيقة أنه ليس بالشغف وحده يحيا الإنسان وليس بزواله تتغير الأشياء أو تفقد قيمتها

أغلب مشاريع حياتنا التي لا تدوم ولا تتم مشكلتها الكبرى في اعتمادها فقط على الشغف
إن وُجد الشغف أقدمت واجتهدت وتحمست ثم ماذا بعد؟
سيخبو الشغف فهل ستكمل؟
هل ستستمر وتداوم؟
تدرك جيدا أنك في سن صارت الرياضة حتمية لتستمر في التقاط أنفاسك وممارسة عملك بشكل معقول من دون مفاجآت مؤسفة
تتحمس في البداية
تلتحق بأقرب (جيم) وربما تدفع اشتراك عام كامل ولو أنك ميسور ربما تشتري أجهزة رياضية باهظة
وتبدأ في حماس تُغبط عليه
لكن ماذا عن هذا (الكرش) البارز الذي يعوق رؤيتك لقدميك أثناء ممارسة رياضة الجري ويؤثر على لياقتك
لابد من التخلص منه بسرعة
إنها الحمية القاسية إذاً
فلنسارع إلى أقرب أخصائي تغذية
لابد من السيطرة على تلك الكميات المخيفة من النشويات والدهون التي نلتهمها يوميا
الهدف عظيم ولابد من تحقيقه

ثم ماذا؟
عدة مرات ويخبو الشغف
تخفت جذوة الحماسة مع أول أو ثاني وليمة دسمة يدعى إليها
لقد ثقلت الرأس 
لاداعي اليوم للرياضة فلنكمل غدا
أو بعد غد
أو الشهر القادم
الاشتراك مدفوع والأجهزة لن تطير والريجيم صار لعبتك
والهدف نبيل وسنحققه لكن لا داعي للعجلة
وهذا ما لا يحدث للأسف
لم تخب القناعة ولم تتغير صحة الفكرة
لكنك ربطتها بالشغف
فلما ذهب = ذهبت

تلك هي المشكلة

كنت مستعدا للتضحية بكل شيء لتتزوجها
وهي الأخرى كانت لا تستطيع تخيل حياتها من دونك
تخطيتما كل العقبات وتزوجتما
ودامت السعادة أيام وربما شهورا أو سنوات
ثم فجأة تنظر إليها بدهشة وتنظر هي إليك بذهول
من هذا؟
من هذه؟
أيعقل أنهما ذات الزوجين السعيدين
نعم هما 
لكنه الشغف من جديد
قد زال أو كاد
وتبقت الاختلافات التي تكون بين كل البشر
وتبدت العيوب التي لا يخلو من بعضها مخلوق

وما البأس؟
كره منها خلقا وكرهت فيه صفة ألم يجد كل منهما أخلاقا أخرى وصفات ترضيه؟

لماذا لم يستطيعا الإكمال لأجل كثير من المشتركات؟
أويعقل بعد كل تلك التضحيات وهذه المشاعر الجارفة أن ينتهي الأمر بطلاق وأن يهدم البيت الذي قام على شغف كل منهما بالآخر؟

إنها المشكلة نفسها
ربط الاستمرار بالشغف

- سأغير مساري المهني
- ماذا تقول؟ 
هل فكرت جيدا؟ 
ستضحي بكل سنوات دراستك 
المجال الذي أنت مقبل عليه لا علاقة له من قريب أو بعيد بتخصصك وخبرتك وما تعلمته في السنين الماضية
لا بأس من التغيير لكن لا تتسرع

هل تتذكر كيف نُصحت حين اتخذت ذلك القرار الحاسم؟ 
هل تذكر إجابتك في ذلك الحين؟ 
يا أعزائي المهم الشغف
لابد أن أتبع شغفي
حسنا 
ها قد فعلت ولا تثريب عليك
لكن لماذا توقفت؟ 
لماذا نقضت غزلك من بعد قوة أنكاثا؟ 
لقد كاد عملك الجديد أن يزدهر ويعوض خسارتك لعملك الآمن الذي تركته بإرادتك
أنت الآن كمن لم يطل بلح الشام ولا عنب اليمن
والسبب هو نفسه في كل مرة
زال شغفك فقررت التوقف

سيحفظ القرآن
صفحة يوميا وسيتمه بعد أقل من عامين
يا لها من صفقة رابحة
لا... فلنكن واقعيين
فلنجعلها نصف صفحة فلا أحد يطاردنا أو يضغط علينا
فلنجعلها آية يوميا
أي شيء
أين ذهبت؟
لماذا لم تكمل؟
معقول.. أهو الشغف مرة أخرى؟
حتى في هذا! 
حتى الطاعة سنربطها بالشغف؟
حتى الفضل العظيم والقربات المجمع على أهميتها وعلو قدرها سنجعلها مرتهنة بحماسة مؤقتة؟
أي منطق هذا؟ 
وأي عقل يفكر بهذه الطريقة

وماذا لو لم يأت الشغف؟!
ماذا لو فُقد؟!

هنا لا يمكن الحديث إلا عن القيمة الأهم والتي حث عليها نبينا في كلمات موجزة جامعة
قيمة المداومة
"خير الأعمال أدومها... وإن قل" 
العبرة ليست فقط في الكم ولا الإثارة والمتعة المصاحبة
العبرة في الثبات
في المسؤولية
في الحرص على ما ينفع حتى لو لم تستمتع

من هنا يبرز الوقود الأهم للحياة والمعيار الذي يتحدد عليه الثبات والمداومة
الإخلاص

نعم... الإخلاص هو معيار الثبات والاستمرار الأهم
أن يدرك المرء لماذا يفعل هذا الشيء أو ذاك
أن تبدو له القيمة الكائنة وراء الأشياء
أن يستشرف الأهداف العظيمة والغايات النبيلة والنيات الشريفة التي يؤدي إليها عمله
عندئذ يثبت حتى لو لم يعشق ولم يحرك الشغف قلبه

وهذا هو رجل أو امرأة المهام الصعبة
هذا هو من يعتمد عليه حقا
فلئن كان الشغف هو وقود الحياة وسر بهجتها ولذتها واستشعار جمالها فالإخلاص هو وقود استمراريتها وسر الإكمال في طريقها 
حتى لو لم يوجد الشغف

بالإخلاص نفرق بين الصادق والكاذب
بين الناضج والأرعن 
بين من يستطيع تحمل المسؤولية ومن لا يعتمد عليه

بين العاقل الذي يدرك أهمية الأشياء وخطورتها بغض النظر عن لذتها ومتعتها وبين الشخص الهوائي أو المزاجي الذي لا يتحرك إلا بقلبه وحسب

والحقيقة أن الإخلاص ليس نقيضا للشغف أو مضادا له وكم من شغوفين كان إخلاصهم وقودا لشغفهم كما كان شغفهم مجددا لإخلاصهم
لكن تخيل شخصا ربط كل حياته بوجود الشغف وحسب فلما رحل عن علاقته بزوجته مثلا كما ذكرنا = رحل هو معه ولم يلتفت إلى بيته أو أبنائه أو تلك القيمة العظمى التي بناها عبر سنوات
قيمة الأسرة
في هذا السياق -سياق الحديث عن الزواج- تبرز الآية الجامعة " {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} "
[سورة النساء 19]
تأمل... هذا النموذج لم يفقد الشغف وحسب بل حلت الكراهية 
ومع ذلك لم يكن التوجيه الرباني الأول هو الانفصال ولكن تمت الإشارة إلى أهمية الاعتبارات الأخرى حتى لو لم يدرك المرء بعضها
اعتبارات الخير الذي يلوح في الأفق
وهذا ما يستشرفه المخلصون
أولئك الذين يدركون حقائق الأشياء ويبتغونها حتى إن لم تعجل لهم لذاتها لأنهم ببساطة يدركون الحقيقة

حقيقة أنه ليس بالشغف وحده يحيا الإنسان
وليس بزواله تتغير الأشياء أو تفقد قيمتها