وكان له السبق كالعادة
فيكفي أن نعيش بأخلاق الإسلام؛ لتستقيم حياتنا مهما كانت شخصياتنا، أو اختلفت طباعنا، فنحن نقرأ في شتى العلوم والآداب، وقد ننبهر بها
خلال الفترة الماضية سمعت وقرأت كثيرًا عن اختلاف الشخصيات والسمات المميزة لها، فهذا عقلاني وهذه يغلب عليها العاطفة، أو ذلك شمالي وتلك جنوبية، وإذا كنت عقلانيًّا فكيف تتعامل مع العاطفي والعكس، وكيف تُقَوِّم ما اعوجَّ من طباعك لتحقِّق التوازن المطلوب.
ولكن أثناء تجوُّلي بين سطور الكتاب وجدتُ نفسي أُسافر بعقلي إلى زمن الصحابة الأبرار، كيف عاشوا في ذلك العالم المثالي في توادِّه وتراحمه وترابطه، ومدى رُقي علاقاتهم وسمو أخلاقهم دون أن يقرؤا شيئًا عن اختلاف الطباع وتباين الشخصيات، وقد كان فيهم رقيق الطباع كأبي بكر وصارمها كعمر.
وكانت الإجابة سهلة واضحة لا تحتاج إلى كثير عناء، لم يكونوا بحاجة إلى قراءة هذه الكتب، ولا حضور تلك الدورات، فكيف يحتاجونها وبين أيديهم ما هو أعظم منها؟!
فيكفي أن نعيش بأخلاق الإسلام؛ لتستقيم حياتنا مهما كانت شخصياتنا، أو اختلفت طباعنا، فنحن نقرأ في شتى العلوم والآداب، وقد ننبهر بها، ولكن لو فتَّشنا لوجدنا أن أصل كل الأخلاق هو دين الإسلام من قرآن وسنة، وسُطِّرت في حياة الصحابة والسلف الصالح تطبيقًا عمليًّا، وقد كان للإسلام السبق فيها.
لم يكونوا بحاجة إلى من يقول لهم: إذا كنت عقلانيًّا، فلا تَحرِم زوجتك وأولادك من حنانك، وأظهِر لهم حبَّك بالأقوال والمشاعر، لا بالأفعال فقط؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء أعرابيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تُقبِّلون الصِّبيان فما نُقبِّلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَ «و َأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرحْمَةَ» ))؛ [رواه البخاري] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (من لا يَرحم لا يُرحم» )؛ [متفق عليه] .
عرَفوا أن الكلمة الطيبة صدقة، ورأوا وسمعوا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يُلقي بعبارات الثناء على من أحسن، وكيف كان يحفِّز أصحابه، ويُشجعهم بجميل الكلام، فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لأشج عبدقيس: ( «إن فيك خصلتَينِ يُحبُّهما اللهُ ورسولُه: الحلمُ والأناةُ» )؛ [رواه مسلم] .
يعرف خصاله ويُبشره ويهديه تلك الكلمات الرائعة، ويثني على عبدالله بن عمر بين يدي نصحه بقيام الليل، مقدمًا النصح بقول طيب: ( «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُاللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ» )؛ [رواه البخاري ومسلم] .
ولو سمعوا كيف كان رسول الله يتغافل عن الخطأ، لتركوا النقد المستمر وتتبُّع العثرات بدعوى أن شخصية العقلاني تدقِّق في كل شاردة وواردة؛ عن أنس قال: لقد خدمتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عشرَ سنينَ، فواللَّه ما قالَ لي: أُفٍّ قطُّ، ولا قالَ لشيءٍ فعلتُهُ: لمَ فعلتَ كَذا ولا لشيءٍ لم أفعلْهُ ألا فعلتَ كَذا)؛ رواه مسلم.
يقولون: إن العقلاني شديد في معاملاته وينصحونه باللين، وتقبُّل أخطاء الآخرين وعدم التعامل معها بشدة، ولكن كيف يكون شديدًا بعد ما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( «ألا أخبركم بمن يَحرُم على النَّار، وبمن تَحرُم النَّار عليه؟ على كلِّ هيِّن ليِّن قريب سهل» )؛ [رواه الترمذي] . ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ، وَما لا يُعْطِي عَلى مَا سِوَاهُ)؛ رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم عندَ بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفةٍ فيها طعامٌ، فضربتِ التي النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصَّحْفةُ، فانفَلَقَتْ، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: ((غارت أمُّكم))» ، ثم حبس الخادمَ حتى أُتِي بصَحْفَةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصَّحْفَةَ الصحيحة إلى التي كُسرت صَحْفَتُها، وأمسَكَ المكسورة في بيت التي كسَرَتْ.
هكذا بكل بساطة لم يعنف ولم يَشتم، ويُلقِ الاتهامات ويعاقب ويخاصم، بل عالَج الموقف بكل هدوء وحِكمة.
كما روى معاوية بن الحكم السلمي، فقال: (( «صلَّيتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فعَطسَ رجلٌ منَ القَومِ، فقُلتُ: يرحمُكَ اللَّهُ، فرماني القومُ بأبصارِهِم، فقلتُ: واثُكْلَ أُمِّياهُ، ما شأنُكُم تنظرونَ إليَّ؟ فجعلوا يضرِبونَ بأَيديهم على أفخاذِهِم، فعرَفتُ أنَّهم يُصمِّتوني، فقالَ عثمانُ: فلمَّا رأيتُهُم يسَكِّتوني لَكِنِّي سَكَتُّ، قالَ: فلمَّا صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بأبي وأمِّي ما ضربَني، ولا كَهَرَني، ولا سبَّني، ثمَّ قالَ: إنَّ هذِهِ الصَّلاةَ لا يحلُّ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ هذا، إنَّما هوَ التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقراءةُ القرآنِ» )؛ «رواه أبو داود» .
ويحذرون العاطفي مِن صَبِّ جام غضبِه، والتنفيس عما يعتمل في نفسه في أول شخص يراه، كما يحذرون من غضب العقلاني، وكان يكفيهم سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( «ليس الشَّديد بالصُّرَعة، إنَّما الشَّديد الذي يملِك نفسه عند الغَضَب» )؛ [رواه البخاري ومسلم] .
يحثون العقلاني أن يهتم بغيره ويسأل عن حالهم، وكيف يحتاج المسلم أن يذكره غيره بذلك، وقد علم أن ذلك من حقوق المسلمين عليه؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ( «مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطُفهم وتراحمهم؛ مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ، تَدَاعى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمى» )؛ [رواه مسلم] .
وهذه كلماته صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وحرصه على تلمُّس حاله وقد فقد أباه يوم أُحد، وصار مسؤولًا وحده عن تركة ثقيلة من فتيات يتيمات متعلقات بعُنقه، فيسأله عن حاله كما يروي لنا جابر ويقول له:
«(تزوجتَ يا جابرُ؟)، فقلتُ: نعمْ، فقالَ: (أبكرًا أمْ ثَيِّبًا)، قلتُ: بل ثَيِّبًا، قالَ: (فهَلَّا جاريةً تلاعِبُها وتُلاعِبُكَ، تُضاحِكُها وتضَاحِكُكَ)؛ قال: فقلت لهُ: إنَّ عبدَاللهِ هلَكَ، وتركَ بناتٍ، وإني كرِهتُ أنْ أجيئَهُنَّ بمِثْلِهِنَّ، فتزوجْتُ امرأةً تقومُ عليهنَّ وتُصْلِحُهُنَّ، فقال: (باركَ اللهُ لكَ، أو قالَ: خيرًا» )،
لقد بلغت درجة حرصه أن يسأله عن تفاصيل ربما لا يهتم بها أحد، ويعتني بأدق شؤونه بكلمات تقطر بحنان الأبوة.
ولكن سعيه لقضاء حاجات الناس وسؤاله عن أحوالهم، لا يعني أن يشغله ذلك عن أداء واجباته، فالإسلام هو دين الوسطية والاعتدل؛ «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» )؛ [رواه البخاري ومسلم] .
أخبرونا أنه قد يكون من صفات العاطفي التسويف وتأجيل الأهداف، ولكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (اغتَنِم خمسًا قبل خمسٍ: حياتَك قبل موتك، وصحَّتك قبل سقَمِك، وفَراغك قبل شُغلك، وشَبابك قبل هَرَمِك، وغِناك قبل فَقرِك )) رواه أحمد.
نصحوا العقلاني بألا ينصب من نفسه قَيِّمًا ومُحللًا لأفعال الناس وأقوالهم، كما نصحوا العاطفي ألا يندفع وراء عواطفه، ويحكم على الناس من أول وهلة، وإذا فتَّشنا في سنة نبينا، لوجدنا أن الدعوة إلى هذا التوازن يبدو جليًّا من خلال الجمع بين حُسن الظن بالناس والتماس الأعذار، وبين ما قاله عمر بن الخطاب عندما جاءه رجل معه شاهد يشهد، قال: ائتِ بمن يَعرفك فجاء برجل، قال: هل تزكيه، هل عرَفته؟، قال: نعم، فقال عمر رضي الله عنه: وكيف عرَفته؟ هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل عاملتَه بالدينار والدرهم الذي بهما تُعرَف أمانةُ الرجال؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، قال: عمر رضي الله عنه: فلعلك رأيته في المسجد راكعًا وساجدًا، فجئتَ تزكيه! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك.
يقولون: إن العقلاني معتد برأيه، لا يقبل مَن يراجعه، وكأنه لم يقرأ قول الله تعالى: ﴿ {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ﴾ [آل عمران: 159]، ولم يقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو المؤيد بالوحي - وهو يستشير أصحابه ويأخذ رأيهم ويعمَل به؛ ونضرب مثالًا على ذلك عندما تحرَّك رسول الله إلى موقع ماء بدر، وبالقرب مِن مكان المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر، وهنا قام الْحُبَاب بْن المُنذِر، وأشار على النبي بموقع آخرَ أفضل من هذا الموقع قائلًا: « يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ ولا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ: "بَلْ هُوَ الرأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِن هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالناسِ حَتى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُم نُغَوِّرَ [أي ندفن] مَا وَرَاءَهُ مِن الْقُلُبِ، ثُم نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنَمْلَأَهُ مَاءً، ثُم نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ مشجعًا: "لَقَدْ أَشَرْت بِالرأْيِ"» .
بل كان يستشير زوجاته ويأخُذ برأيهنَّ؛ كما في غزوة الحديبية، فبعدما فرغوا من كتابة وثيقة الصلح، طلب رسول الله من المسلمين أن ينحروا ويَحلقوا، لكن لم يقُم أحدٌ منهم، وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم طلبه ثلاث مرات، ولم يفعلوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، فذكر لها ما حدَث من المسلمين، فقالت رضي الله عنها: يا نبي الله، أتُحب ذلك، اخرُج ولا تكلم أحدًا، حتى تنحر بُدنك (ذبيحتك)، وتدعو حالقك، فيحلقك، فخرج رسول الله، وفعل بمشورتها، فما كان من المسلمين إلا أن نحَروا وحلق بعضهم لبعض، وبذلك حُلَّت المشكلة.
وما هذا الرُّقي إلا قطرات من بحر واسع صافٍ رقراق، ففي كل شاردة وواردة، في كل همسة وكلمة، في كل فعل وقول نجد وضوحًا في المنهج الذي نسير عليه، وحرصًا على مشاعر الغير، وتقوية أواصر المحبة، ومد جسور الود بين المسلمين أيًّا كانت طبيعة العلاقات معهم في الأسرة الصغيرة أو المجتمع الكبير.
لقد علقوا أسباب كثير من مشاكلنا وارتفاع نسب الطلاق وقطيعة الرحم وفشل الكثير من العلاقات على اختلاف الطباع والشخصيات، وما علموا أن السبب الحقيقي هو البعد عن أخلاق الإسلام.
لم تأتِ تعاليم الإسلام لفئة دون فئة، أو جاءت صالحة لفريق دون فريق، ولم تصنف الأوامر بناءً على اختلاف الشخصيات، بل جاءت منهجًا ودستورًا ونبراسًا يضيء حياة كل من سار في دربها، تُقَوِّم أخلاقه وتُصلح حياته.
إن ما ننشده من توازن في شخصياتنا، وسلاسة في تعاملاتنا، وقوة في علاقاتنا، وسعادة في حياتنا، لن نجده إلا بالرجوع إلى أخلاق نبينا وتعاليم ديننا.
هبة حلمي الجابري
خريجة معهد إعداد الدعاة التابع لوزارة الأوقاف بجمهورية مصر العربية
- التصنيف: