رسالة إلى ضابط شرطة مصري

منذ 2011-07-03

لابد من فتح نقاش شعبي ونخبوي من أجل إعادة تأهيل رجال الشرطة واستعادة دورهم الهام في حفظ أمن البلاد، لأنه لا تنازل عن مكتسبات الثورة، ولا عودة لأيام الباشوية والسادة والعبيد، كما أنه لا تنازل ولا هوادة مع هذا الانفلات الأمني...



ـ لا يختلف اثنان من المتابعين للشأن المصري أن الانفلات الأمني هو أهم مشكلة تواجه مصر شعبا وحكومة في مرحلة بعد الثورة، إذ أن الانفلات الأمني هو كعب أخيل الذي جر كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وحتى الرياضية التي تكاد أن تعصف بالثورة المباركة وتهدر كثيرا من انجازاتها، والانفلات الأمني أخذ مع الوقت يتطور ويتحور في أشكال جديدة لم تكن موجودة في بداية الثورة، ومشاهد كانت غير مألوفة على البلاد من قبل، من تصفية الحسابات وإنهاء الخصومات بقوة السلاح والعشيرة ، وهجمات جماعية للمجرمين على الأحياء والشوارع، وكل ذلك بعيدا عن سلطة الحكومة وهيبة الدولة التي تمر بمنعطف خطير هذه الأيام، والسؤال الذي يتردد ليل نهار على لسان المواطن المصري : متى نشعر بالأمن والأمان مرة أخرى ؟ ومتى يتوقف هذا الانفلات الأمني ؟


ـ المشكلة الحقيقة وبمنتهى الصراحة أن هذا الانفلات لا يبدو أنه سيتوقف قريبا، بل ستظل البلاد في حالة انفلات أمني ممنهج ومنظم ومرتب حتى بعد انتخابات البرلمان والرئاسة في الشهور القادمة، بل أكاد أن أجزم أن الانفلات الأمني ربما يستمر سنوات إذا لم تكن هناك حلول عملية وجذرية لهذه المشكلة التي صنعها من يطلب منهم اليوم حلها!؟.


ـ نعم عزيزي القارئ أنا أعرف أنك تقول مثلما سأكتبه الآن، أن السر الحقيقي وراء الانفلات الأمني هم ضباط ورجال الداخلية أنفسهم، فكلنا يعلم أن أداء الداخلية في ظل نظام الحكم البائد كان مليئا بالخروق والمخالفات، ففي خلال ثلاثين سنة من حكم مبارك وزمرته تتطور الأداء الأمني لرجال الشرطة من حماة الشعب والمدافعين عن الحق إلى حماة النظام والمدافعين عن الفساد والمفسدين، بل إن أداء ضباط الداخلية في العشر سنوات الأخيرة كان أحد أهم أسباب ثورة الشباب في 25 يناير، فبطش أجهزة الأمن بالمعارضين من شتى الأطياف والتنكيل بأسرهم وذويهم والاستبداد الوظيفي الذي مارسه رجال الداخلية، وبالأخص ضباط أمن الدولة، وتركهم المجال مفتوحا للصوص والمفسدين والمجرمين يمرحون في البلاد كيف ما شاءوا، في حين التركيز كل التركيز على مراقبة المساجد والتصنت على رموز المعارضة، وعقدهم الصفقات المشينة مع البلطجية والشبيحة للاستعانة بهم أيام الانتخابات ضد التيار الإسلامي، كل هذه الممارسات القمعية جعلت الصدور مشحونة ومتقدة تجاه كل ما هو شرطي،


ـ والسبب الحقيقي لهذه الكراهية المفرطة من جانب المصريين لأجهزة الشرطة أنه عندما تولى حقيبة الداخلية السفاح حبيب العادلي أدخل مفاهيم جديدة على أداء رجال الداخلية، ووسع من صلاحياتهم لدرجة جعلتهم فوق القانون والمساءلة، وجعل الأنف الأمني مدسوسا في كل شئون الحياة اليومية في مصر، وكلمة الأمن هي الكلمة الفاصلة في اتخاذ معظم قرارات الشأن المصري، وذلك في ظل دعم سياسي غير محدود من مبارك الذي شعر بالامتنان من نجاح العادلي وزبانيته في القضاء على تهديدات المعارضة الإسلامية، والحفاظ على كرسي السلطة بلا خصوم سياسيين، وهذا التوسيع في الصلاحيات والتكبير في السلطات، أثر على عقلية الضابط المصري، وجعله يشعر حقيقة لا ادعاء أنه فوق الجميع، وأنه من أسياد البلد وغيره هم العبيد الذين ليس لهم إلا قطع اليد لو طالت على أسيادهم، كما قال ذلك صراحة مدير أمن البحيرة" مجدي أبو قمر " المقال والمحبوس على ذمة اتهامه بقتل المتظاهرين أثناء الثورة، وليس هذا رأيا شاذا أو فرديا لهذا المتكبر المتغطرس، بل شعورا جمعيا راكزا في العقلية الشرطية في مصر، فالضابط المصري تغيرت عقليته بصورة كبيرة وامتد هذا التغير حتى طال المناهج الدراسية التي تدرس لطلاب كلية الشرطة، وأصبح طالب كلية الشرطة يتعامل مع جيرانه وأصحابه على أنه أعلى وأكبر وأهم منهم،حتى أصبح ضابط الشرطة في العقل الجمعي المصري رمزا للطغيان والتكبر والاستعلاء والسلطة المطلقة، أصبح كل ضابط شرطة في نظر الشعب بمثابة " مبارك صغير" في جبروته وتكبره وسلطاته الواسعة، وتنادى الشعب المصري بأجندة خاصة مفاداها بأن لا تصاهر ضابطا ولا تجاوره، لأنك حتما ستكتوي بناره، ومن ثم لما قامت ثورة 25 يناير انفجرت براكين الغضب ضد الشرطة، خاصة بعد انتصار الثورة، مما باعد الهوة وعمق الفرقة بين الشعب والشرطة .


ـ تغيير الشخصيات والأسماء شيء هين بسيط، ولكن تغيير الأفكار والعقليات والسلوكيات أمر شديد الصعوبة يحتاج إلى فترات طويلة ربما تمتد لعدة سنوات، لأنه تغيير بطيء بطبعه، ويحتاج لحلول جذرية وبناء من جديد للأساسات التي تقوم عليها هذه العقلية، لذلك وحقيقة كان غالب ضباط الداخلية ـ إن لم يكن جميعهم ـ يشعرون بالمرارة والأسى على رحيل مبارك والعادلي، فهم يعلمون جيدا أن معظم الشعب يكرههم وهم يتخوفون من انتقام الشعب أو انتقاصه لهم، وأيضا هم يرفضون بشدة للنظام الجديد الذي يجعلهم في خدمة الشعب بعد أن كانوا أسياده، يرفضون نظاما يجعلهم سواسية مع باقي الشعب المصري، وهذا ظهر جليا في حدوث عدة وقائع لضباط الداخلية تكشف عن أنهم ما زالوا في أوهام الماضي، ويفكرون بنفس العقلية السقيمة، و أخرها ما أقدم عليه ضابط شرطة بدرجة ملازم أول ـ أي صغير السن 25 سنة تقريبا ـ بالأمس من إجبار مواطن مصري في قويسنا بالمنوفية على تقبيل حذاء سائق سيارة الضابط لأنه تجاوزه في المرور ! أي أن عقلية إذلال المواطن المصري ما زالت راسخة في عقل ضباط الداخلية ورغم تحويله للمحاكمة والتحقيق من جانب وزير الداخلية، إلا أن هذه الإجراءات المشكورة لا ترقى لدرجة تغير العقليات والأفكار السادية التي تسيطر على ضباط الشرطة .


ـ هذه العقلية السقيمة والأفكار البالية هي الآن التي تقف وراء مشكلة الانفلات الأمني بقوة، فمنذ الأيام الأولى للثورة ظهر مصطلح "الغياب الأمني " حيث صدرت أوامر لرجال الشرطة بالانسحاب المتعمد في محاولة لترك الشوارع نهبا للخوف والقلق. وهو أمر طبيعي بالنسبة العقلية الشرطية، فقد اعتادت نسبة كبيرة من المواطنين على مقايضة حقوقها السياسية بالأمن والاستقرار وبعض المكاسب الاقتصادية المحدودة مثل الدعم، ولكن برغم صدور قرارات عودة رجال الشرطة إلا أنهم لم يعودوا بأغلبهم، وسط حالة إضراب -غير معلنة وغير رسمية- ففي آخر الإحصاءات التي أعلنت عنها وزارة الداخلية أن 40% من ضباط الشرطة رافضين للعودة إلى أعمالهم، خوفا من غضب الشعب الموجوع من جرائمهم السابقة، أو رفضا للأوضاع الجديدة، في حين أن من نزل إلى العمل يرفض التعاطي مع أحداث الانفلات الأمني، وكثير منهم يرفض الانتقال من مكانه لمواجهة المجرمين أو نجدة المواطنين الأبرياء الذين يعانون من هجمات عنيفة من البلطجية والعصابات المنظمة، ولسان حال كثير من الضباط : دع الشعب يكتوي بنار الانفلات الأمني ليتأدب ويعرف قيمتنا وقدرنا، فلا يتطاول علينا مرة أخرى ! .


ــ والحل لهذه المشكلة العويصة يمكن في اتخاذ قرارات جوهرية وحاسمة وأيضا رادعة لأن استمرار الانفلات الأمني سيعرض البلاد بأسرها لفوضى شاملة لا تعيد الحكم البائد، بل تأتي بالاحتلال والقوات الخارجية إلى بلادنا، والحاجة إلى الأجهزة الأمنية حاجة ماسة وضرورية لا يستغني عنها شعب ومجتمع، ومصر في حاجة إلى قرارات قوية ليست من جنس ما قامت به حكومة عصام شرف الناعمة من رفع الحوافز بنسبة 100%، أو إطلاق اسم "شهيد" على من سقط من رجال الشرطة في الثورة، أو غض الطرف عن عودة مجرمي أمن الدولة للعمل في قطاع الأمن الوطني، ولكن قرارات حاسمة وجديدة وأفكار خلاقة تنهي حالة الجفاء والكراهية المتبادلة بين الشعب والشرطة، البلاد في حاجة لدماء جديدة وأجيال جديدة من رجال الشرطة، بعقليات جديدة وأفكار سوية خالية من معقدات الحكم البائد، وفك الاشتباك بين إصرار كثيرين من رجال الداخلية على العمل بالمفاهيم الجديدة والرفض الشعبي لهذه الأفكار والممارسات .


ــ من هذه الخطوات قبول استقالة كل من تقدم بالاستقالة من رجال الشرطة فلا خير فيهم ولا حاجة للشعب في خدماتهم، والمحاكمة الفورية والجريئة لكل من تورط في جرائم فساد سياسي أو أخلاقي أو وظيفي منهم، والتخريج الفوري لدفعات جديدة لكلية الشرطة وتفعيل دور أكاديمية الشرطة التي تعطلت أيام حبيب العادلي، وإلغاء العقيدة الأمنية التي تربى عليها الضباط والتي تعادي الحريات العامة وتقدس السلطوية وترى في الأجهزة الأمنية وصيا على أفكار وتصرفات المواطنين في مواجهة أخطار متوهمة، وإعادة هيكلة وزارة الداخلية وتوزيع إدارتها المتخصصة على الوزارات التابعة لها مثل شرطة الكهرباء والسياحة والآثار والأموال العامة وهكذا، والاهتمام بأمن المواطن أولا وأخيرا، وترقية واستعمال الضباط الشرفاء وهم ليسوا بالقلة كما يعتقد المصريون، في المناصب الهامة والحيوية داخل الوزارة، رجال من عينة اللواء البطران ـ رحمه الله ـ الذي رفض الاستجابة لأوامر مبارك والعادلي بفتح السجون، وقتل على يد أحد رجال العادلي وهو يدافع عن سجن الفيوم ليمنع المجرمين من الخروج، وأخيرا مد جسور الثقة المتبادلة بين الشعب والشرطة بتفعيل دور الرقابة والمتابعة الشعبية لأداء أجهزة الشرطة، وذلك عن طريق أعضاء منتخبين من كل حي ومنطقة للاجتماع مع رجال شرطة الحي والمنطقة بصورة دورية لمناقشة أهم المشاكل وكيفية تذليلها.


وأخيرا أقول أنه لابد من فتح نقاش شعبي ونخبوي من أجل إعادة تأهيل رجال الشرطة واستعادة دورهم الهام في حفظ أمن البلاد، لأنه لا تنازل عن مكتسبات الثورة، ولا عودة لأيام الباشوية والسادة والعبيد، كما أنه لا تنازل ولا هوادة مع هذا الانفلات الأمني، وهذه كانت رسالتي لكل ضابط شرطة في بر مصر، ثم همسة ليست رقيقة في أذن وزير الداخلية وحكومة شرف: لقد تم إحراق قرابة 100 قسم شرطة أثناء الثورة وبعدها، والفاعل كما أثبتت معظم التحريات والتحقيقات هم من رجال العادلي، ورغم مرور خمسة شهور حتى الآن إلا إن هذه الأقسام ما زالت خربة، فلماذا لم يبدأ العمل في بنائها وتجديدها حتى الآن ؟ هل هناك أصابع خفية داخل الوزارة تكرس لحالة الفوضى والانفلات الأمني ؟ أم أنه ضعف في التمويل وعدم وجود مخصصات للوزارة التي كانت تحصل على خمس الميزانية العامة للبلاد ؟! ولماذا تم بناء الكنائس المتضررة في إمبابة وغيرها فورا وخلال أيام وجيزة في حين بقيت هذه الأقسام خربة مهدمة حتى الآن ؟ ربما تكون الكنائس واسترضاء الأقلية القبطية،أهم وأولى في نظر الحكومة من أقسام الشرطة، ولكن فليثق عصام شرف أن الانفلات الأمني أخطر وأهم مشكلات الوطن، وباستمراره سيستمر كل المشكلات والأزمات المصرية، ومنها قطعا مشكلة الفتنة الطائفية .



الأربعاء 29 يونيو 2011 م

شريف عبد العزيز

shabdaziz@hotmail.com
 

المصدر: موقع مفكرة الإسلام