ومضات تربوية وسلوكية:المقال السادس عشر
قال صلى الله عليه وسلم: « {إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي غيره} » [مسلم]
{بسم الله الرحمن الرحيم}
تذخر بطون الكتب بالعديد من الأفكار الذهبية والعبارات المحورية الجديرة برصدها وتدوينها للوقوف على كنوز مفكرينا وكُتابنا العظام، وللانتفاع بالفائدة المرجوة منها، ولذلك حرصت خلال جولتي بين دفوف الكتب أن أرصد هذه الثروات الفكرية والتربوية والتحليلية، وأنقلها بنصها كما وردت فيها أو باختصار طفيف في بعض الأحيان، هذا كي يستفيد منها القاسي والداني، سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها الكبير والصغير، وأن يكتب لكاتبها وجامعها وقارئها الأجر والمثوبة إنه نعم المولى ونعم النصير.
(العقل والعاطفة)
وإذا نجحت إحدى الأفكار في تغيير سلوك البشر فذلك لأنها تنطوي على عناصر عاطفية إلى جانب العناصر المنطقية، ولم يقو المنطق ( وحده ) يوما من الأيام على تقويض حصون الجهل والكسل.
كان زعماء المعتزلة من هذا النمط، من الناس الذين يعيشون على الكلام والجدل، وعلى الفكر المحض، فأصبحت قلوبهم قاسية، فلم يعيشوا هموم الناس، ولا تلفقوا راية الجهاد، وانحصروا في متعة ( التنظير ) وليس هكذا تقوم الأمم، وتنشأ الحضارات، وإنما بالإيمان العميق بالمبادئ التي أتى بها الأنبياء، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وبالشهداء الذين يضحون بحياتهم في سبيل الله، ونحن نرى اليوم من يسمون أنفسهم بالمفكرين أبعد الناس عن الالتزام بالأخلاق الإسلامية أو الالتزام بالمبادئ التي يكتبونها، فما إن تسنح لأحدهم الفرصة المادية حتى يتحول عما يدعو له.
إن التربية الصحيحة هي التي توازن بين العقل والعاطفة وتقرب بينهما، فالعاطفة الصادقة هي التي تصل الإنسان بمصدر القوة الحقيقي، وإذا أردنا التغلب على الصعاب التي تعترضنا فإن الإيمان الذي ينبثق من أعماق نفوسنا هو الذي يفعل ذلك. [كتاب ( تأملات في الفكر والدعوة )، محمد العبدة ،دار الجوهري للنشر والتوزيع عمان – الأردن ص 77-78]
(لزوم الرفق ومجانبة الغلظة والعنف)
سواء في الدعوة أو الرد أو النقد أو الإصلاح أو المحاورة، فإن استعمال الرفق ولين الخطاب ومجانبة العنف يتألف النفوس الناشزة ويدنيها من الرشد ويرغبها في الإصغاء للحجة
ويتأكد هذا الأدب في مثل هذه الأحوال العصيبة التي نحتاج فيها إلى تلك المعاني التي تنهض بالأمة وتشد من أزر الدعوة
ولقد كان ذلك دأب الأنبياء، قال تعالى في خطاب هارون وموسى عليهما السلام { {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} } [طه:44]
ولقن موسى عليه السلام من القول اللين أحسن ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال تعالى: { {فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} } [النازعات: 18- 19]
قال ابن القيم رحمه الله: «وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون { {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} } [النازعات:18- 19] فأخرج الكلام مخرج السؤال والعرض، لا مخرج الأمر وقال: { {إلى أن تزكى} } ولم يقل: «إلى أن أزكيك» فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكي دون غيره، لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال: {وأهديك إلى ربك} أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك
وقال: { {إلى ربك} } استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرا وكبيرا " اهـ
ولهذا فإن الكلمة التي تلقى أو تحرر في أدب وسعة صدر تسيغها القلوب وتهش لها النفوس وترتاح لها الأسماع.
ولقد امتن ربنا جل وعلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن جبله على الرفق ومحبة الرفق، وأن جنبه الغلظة والفظاظة فقال عز وجل: { {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} } [آل عمران:156]
ولقد كانت سيرته عليه الصلاة والسلام حافلة بهذا الخلق الكريم الذي من ملكه بسط سلطانه على القلوب.
وكما كان عليه الصلاة والسلام متمثلا هذا الخلق فقد كان يأمر به ويبين فضله.
قال صلى الله عليه وسلم: « «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي غيره» » [مسلم]
وقال صلى الله عليه وسلم: « «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» » [مسلم]
ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن قال لهما: « «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» » [البخاري]
قال الإمام أحمد: «يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب، فيكون يريد ينتصر لنفسه»
وكان يقال: «من لانت كلمته وجبت محبته»
وخلاصة القول أن الرفق هو الأصل وهو الأجدى والأنفع وأن الشدة لا تصلح من كل أحد، ولا تليق مع كل أحد، فقد تلائم إذا صدرت من ذي قدر كبير في سن أو علم وكانت في حدود الحكمة واللباقة واللياقة
أما إذا صدرت ممن ليس له قدر في سن أو علم أو كانت في غير موضعها وتوجهت إلى ذي قدر أو جاه فإنها – أعني الشدة – تضر أكثر مما تنفع، وتفسد أكثر من أن تصلح. [كتاب (معالم في التعامل مع الفتن) الشيخ / محمد بن إبراهيم الحمد، مكتبة الرشد ص 23-28]
(خصومة العظماء)
قام رجل في أيام صفين إلى معاوية -رضي الله عنه- وقال له: اصطنعني فقد قصدتك من عند أجبن الناس وأبخلهم وألكنهم.
فقال معاوية: من الذي تعنيه؟
فقال الرجل: علي بن أبي طالب.
فقال معاوية: كذبت يا فاجر، أمَّا الجبن فلم يك قط فيه، وأمَّا البخل فلو كان له بيتان بيت من تبر وبيت من تبن لأنفق تبره قبل تبنه، وأمَّا اللكن فما رأيت أحداً يخطب أحسن من عليّ إذا خطب، قم قبَّحك الله.
ومحا معاوية اسم الرجل من ديوانه. [14/210]. [كتاب (الحديقة)،تأليف العلامة محب الدين الخطيب]
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: