أمثلة من الأسباب الفكرية لانحطاط الأمة الإسلامية:المقال الأول
وهنا نجد - اختلالا مفاهيميا آخر يطل بوجهه القبيح - من خلال قصة ذي القرنين، وهو اختلال مفهوم الدافع إلى العمل! فليس معنى أن يمتلك المسلم ثروة تغنيه عن كسب الرزق ألا يعمل! لأن العمل مرتبط بالإصلاح وبالإعمار وبمفهوم الخلافة وبمفهوم العبادة الشاملة.
أ) مقدمة
إن علة المسلمين الأولى ليست في البعد عن الدين، بل هي في الخلل في فهم الدين، فلو أن المسلمين كلهم غدا لم يفرطوا في صلاة مكتوبة في المسجد فلن يغني ذلك عنا شيئا في الكارثة المحيطة بالأمة، وذلك لأن الفهم ذاته به سقم، والمفاهيم بها خلل. فمن ينتظم في الدين ويجتهد لكن بمفاهيم خاطئة هو كمن يسرع بسيارته في طريق خاطئ أملا منه أن الإسراع سيقلل من مدة الوصول، وهو غير مدرك أن الإسراع دون إعادة النظر كل حين في صحة الطريق ربما يزيد الإنسان تيها وليس أن يقلل زمن وصوله!
ب) بعض المفاهيم المغلوطة
1- أغلب المتدينين يرون أن العبادة هي أركان الإسلام الخمسة، وحسب.
وكأنهم يرون أن العبادة المذكورة ها هنا
﴿ {وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ} ﴾
[الذاريات: ٥٦]
هي فقط الشعائر التعبدية، وكأن الله خلقنا لنصلي ونصوم ونحج ونزكي وحسب
والخلل سببه أن الناس عادة لا يربطون بين مفهوم الخلافة ومفهوم الإعمار ومفهوم أن تكون كل الحياة - بكل تفاصيلها - عبادة.
.
﴿ {وَإِذ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ} ﴾
[البقرة: ٣٠]
.
﴿ {وَابتَغِ فيما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا وَأَحسِن كَما أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسادَ فِي الأَرضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفسِدينَ} ﴾
[القصص: ٧٧]
.
﴿ {قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَلا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ} ﴾
[الأنعام: ١٦٢-١٦٣]
2- غياب مفهوم أننا خلقنا للإصلاح لا لمجرد الصلاح
أغلب المسلمين لديهم مفهوم أن الصلاح كاف وليس بالضرورة أن يصحبه الإصلاح
﴿ {وَالعَصرِإِنَّ الإِنسانَ لَفي خُسرٍإِلَّا الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوا بِالحَقِّ وَتَواصَوا بِالصَّبرِ} ﴾
[العصر: ١-٣]
مع أن مجرد الصلاح هو بعيد عن مفهوم الخلافة في الأرض الذي هو قائم على تعدي الصلاح إلى الإصلاح. وأن الإصلاح هو ما ينقذ الناس من عقاب الله تعالى الذي يشمل الأمم
﴿ {وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرى بِظُلمٍ وَأَهلُها مُصلِحونَ} ﴾[هود: ١١٧]
.
وأنه لو كان الصلاح كافيا لكان تعجب الملائكة في محله من أن الله استخلف الإنسان الذي هو ليس بأمثل منهم في ميدان الشعائر التعبدية "وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لك"؟!
.
﴿ {وَإِذ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ} ﴾[البقرة: ٣٠]
.
لكن الله لم يخلق الإنسان ليكون صالحا في ذاته وحسب - وإلا فلن يزيد عن الملائكة في شيء - ولا كي يكون مفسدا - وإلا لكان تعجب الملائكة في محله - بل ليكون مصلحا، والإصلاح في الأرض مرادفٌ للخلافة في الأرض، ومرادف لإعمار الأرض، ومرادف للمفهوم الشامل للعبادة.
والإصلاح لن يتأتى إلا بالعلم التراكمي والعمل التراكمي معا، ولذلك بين الله لملائكته أن الإنسان لديه ملكة التعلم
﴿ {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنبِئوني بِأَسماءِ هؤُلاءِ إِن كُنتُم صادِقينَ} ﴾[البقرة: ٣١]
وأنه يدون ما يتعلمه بالقلم حتى يأتي من بعده ليبني عليه وليس لأن يبدأ من الصفر﴿ {اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُالَّذي عَلَّمَ بِالقَلَمِعَلَّمَ الإِنسانَ ما لَم يَعلَم} ﴾[العلق: ٣-٥]
بينما الملائكة يجب أن تُلَقّن تلقينا وليس لديهم القدرة لتوارث العلم وتنميته عبر الأجيال كما أوتي بنو آدم﴿ {قالوا سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيمُ} ﴾[البقرة: ٣٢]
3- اختلال مفهوم العمل الصالح لدى المسلمين
إن الإيمان دائما ما يقترن بالعمل الصالح في القرآن، وهذا دليل أن الإيمان وحده - كقناعة بحتة في القلب - لا يكفي، ولا يُتَصَوّر أن العمل الصالح هو الشعائر التعبدية فحسب، فالإيمان وحده كفيل أن يدفع الإنسان للحد الأدنى من العبادة وهي الشعائر، لكن ذكر العمل الصالح بعد الإيمان له دلالة كبيرة وهو الإصلاح في الأرض، وليس لمجرد الصلاح فيها.
مثلا لقد آتى الله داوود عليه السلام موهبة ومهنة الحدادة، أي أنه كان حدادا، وربما كان هذا هو معنى "وألنا له الحديد" أي وفقناه ليعلم كيف يطوع الحديد ويلينه
﴿ {وَلَقَد آتَينا داوودَ مِنّا فَضلًا يا جِبالُ أَوِّبي مَعَهُ وَالطَّيرَ وَأَلَنّا لَهُ الحَديدَأَنِ اعمَل سابِغاتٍ وَقَدِّر فِي السَّردِ وَاعمَلوا صالِحًا إِنّي بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ} ﴾[سبأ: ١٠-١١]
والتقدير في السرد هو ضبط المقادير والمقاييس ليكون العمل متقنا
ونلاحظ هنا أن الله قال "واعملوا صالحا" بعد أن أعطى القدوة في هذا، وهو عمل داوود عليه السلام، وبعد أن أمره بضبط المقادير والمقاييس "وقدر في السرد" وهذا هو الإحسان (الإتقان) في الإصلاح.
4- اختلال مفهوم العبد الصالح
إن الصورة النمطية المنطبعة في أذهان أغلب المسلمين عن العبد الصالح هو ذلك العبد الزاهد في أعمال الدنيا، المتقن للشعائر، المسبح ليل نهار، وكفى، فأين نموذج الخليفة في هذه الصورة النمطية؟!
إن الله عندما حدثنا عن عبده الصالح داوود ضرب لنا به مثلا وهو يسبح بصوت جميل تتفاعل معه الطيور وتردد صداه الجبال فيما بينها "يا جِبالُ أَوِّبي مَعَهُ وَالطَّيرَ"، لكنه ذكر في نفس الآية مهنته التي برع فيها " {وَأَلَنّا لَهُ الحَديدَ} "!
فلا انفكاك بين التسبيح وبين البراعة في مهنة الحدادة، فإتقان المهنة نابع من فقه دوره في هذا الكون.
أيضا نجد مثالا عجيبا في المهندس الماهر المجتهد "ذي القرنين"!
إن هذا الرجل الصالح لم يكتف بما آتاه الله من مواهب وملكات ورزق طيب، بل إنه قد اجتهد ليحسن من مواهبه وليسترزق الله مزيدا من رزقه، ربما لأنه يخجل من كونه عاطلا لا يحسِّن ويطور فوق ما آتاه الله
﴿ {وَيَسأَلونَكَ عَن ذِي القَرنَينِ قُل سَأَتلو عَلَيكُم مِنهُ ذِكرًاإِنّا مَكَّنّا لَهُ فِي الأَرضِ وَآتَيناهُ مِن كُلِّ شَيءٍ سَبَبًافَأَتبَعَ سَبَبًا} ﴾
[الكهف: ٨٣-٨٥]
فبالرغم من أن الله آته من كل شيء سببا إلا أنه اجتهد وأتبع فوق السبب سببا! فليس في عرف العبد الصالح أن يركن إلى الأرض ولا يعمل، بل هو يعمل ويتقن ويطور ويزيد في الخير حتى لو أن الله أغناه عن العمل وآتاه من كل شيء!
إن ذا القرنين - هذا النموذج للعبد الصالح - كان مهندسا مدنيا أغناه الله عن أن يأخذ أجر عمله الهندسي لكنه لم يترك العمل بل أصلح إفساد يأجوج ومأجوج بأن حبسهم وراء سد لا يمكن خرقه
﴿ {حَتّى إِذا بَلَغَ بَينَ السَّدَّينِ وَجَدَ مِن دونِهِما قَومًا لا يَكادونَ يَفقَهونَ قَولًاقالوا يا ذَا القَرنَينِ إِنَّ يَأجوجَ وَمَأجوجَ مُفسِدونَ فِي الأَرضِ فَهَل نَجعَلُ لَكَ خَرجًا عَلى أَن تَجعَلَ بَينَنا وَبَينَهُم سَدًّاقالَ ما مَكَّنّي فيهِ رَبّي خَيرٌ فَأَعينوني بِقُوَّةٍ أَجعَل بَينَكُم وَبَينَهُم رَدمًاآتوني زُبَرَ الحَديدِ حَتّى إِذا ساوى بَينَ الصَّدَفَينِ قالَ انفُخوا حَتّى إِذا جَعَلَهُ نارًا قالَ آتوني أُفرِغ عَلَيهِ قِطرًافَمَا اسطاعوا أَن يَظهَروهُ وَمَا استَطاعوا لَهُ نَقبًا} ﴾[الكهف: ٩٣-٩٧]
ودليل أنه لم يكن بحاجة إلى الأجر هذا الحوار بينه وبين القوم الذين استنجدوا به:
" {فَهَل نَجعَلُ لَكَ خَرجًا عَلى أَن تَجعَلَ بَينَنا وَبَينَهُم سَدًّاقالَ ما مَكَّنّي فيهِ رَبّي خَيرٌ} "
إلا أنه استمر في العمل لأنه لا يكفيه أن يكون صالحا في نفسه بل لابد له أن يكون مصلحا
وهنا نجد - اختلالا مفاهيميا آخر يطل بوجهه القبيح - من خلال قصة ذي القرنين، وهو اختلال مفهوم الدافع إلى العمل! فليس معنى أن يمتلك المسلم ثروة تغنيه عن كسب الرزق ألا يعمل! لأن العمل مرتبط بالإصلاح وبالإعمار وبمفهوم الخلافة وبمفهوم العبادة الشاملة.
إن هذا الخلل وحده كفيل بأن يهبط بالأمة إلى أسفل سافلين إن وجدت من الموارد الطبيعية ما يغني كل فرد منها على العمل، فحينها سيلجأ الناس "الصالحين" إلى المساجد ليصلوا ويصوموا كل النهار، ويقوموا أغلب الليل، وحسب.
ولا يخفى أن قريبا من هذا قد حدث فعلا مثلا في البلاد النفطية! حتى أن صديقا نابها لي هناك أخبرني عن واحد من الناس يظن الله قد سخر الغرب لهم بحيث يتكبد الغرب عناء البحث العلمي والتطور ثم يشتري العرب التقنيات الحديثة منهم بأموالهم!!
5- الأثر السلبي لمفهوم فرض الكفاية!
يحكى أن ملكا أراد أن يسبح في مسبح مملوء بالحليب، فأمر كل تجار الحليب أن يأتي كل منهم ليلا بإناء مملوء حليبا ويصبه في المسبح، بحيث يصبح الملك فيجد المسبح ملؤه حليبا! ففكر أحدهم في أنه لو ملأ إناءه ماءً وصبه بدلا من الحليب لن يظهر أثر الماء لأن الباقين سيصبون حليبا، ويكون هو قد وفر تكلفة الحليب.
أصبح الملك كي يسبح في مسبح الحليب فوجده كله مملوءا بالماء...!
إن فرض الكفاية في تعريفه هو ذلك الفرض الذي إن فعله أفراد من الأمة كفى ذلك كل الأمة، وإن لم يفعله أي فرد من الأمة أثمت كل الأمة. وذلك مثلا كامتهان كافة المهن الضرورية للمجتمع.
حسنا.. لا اعتراض ذا شأن على المبدأ، لكن يوجد إشكال في التطبيق مستفاد من قصة مسبح الحليب! فنظرا لغياب مؤسسات تقوم بحصر ما إن كان عدد وجودة العاملين في كل مجال كافيين أم لا، وتعلن نتائج هذا الإحصاء على الأمة، فإن الطبيعي أن يفترض الناس كلهم - أو جُلّهم - أن الأمة ليست بحاجة له في هذا المجال لأنه لابد أن هناك ما يكفي الأمة من العاملين في هذا المجال، لذا يمكن كل فرد أن يعمل فيما يحب لا فيما يبرع فيه بالضرورة ولا فيما تحتاجه الأمة بالضرورة. والنتيجة هو أن المسبح يمتلئ ماءً لا حليبا في العديد من المجالات الحيوية للأمة.
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي
- التصنيف: