لِكَيلا يَنامَ مُستمِعوك...!

منذ 2019-03-04

قال مالك بن دينار رحمه الله: ( إِنَّ العالم إِذَا لَمْ يَعْملْ بعلمه زلّت موعظته عَنِ القلوب كَما تَزل القطرة عن الصفَا ).

ويكشِفُ منبرَنا النؤومُ وحالُه// إذا كان شيخٌ في الغرابةِ يخطبُ
ويخضبُ ألفاظا له بليونةٍ// لكأنه ذاك الصموتُ المهذبُ
فتنزاح أفهامٌ لنا وبصائرٌ// لتغشى غطيطا كان بالأمس يُشجبُ

في ديوانية حوارية مع بعض طلاب العلم وخطباء الجوامع، أثار بعضهم مشكلة (نوم الناس) في الخطبة، وأن الخطيب الماتع اللاهب هو من يحمل الناس على الإصغاء بلا نوم، والانتباه بلا شرود، واليقظة بلا غفلة، لا سيما وقد أضحى الخطيب في تحدٍ حضوري وجودي، من جراء سهر الناس وتأخرهم، واندماجهم في السرعة، وبالتالي يضيقون من التطويل والإسهاب المنفر، وهم قد وصلوا المسجد متعبين ومنهكين...!
ويمكن الإسهام هنا من خلال نقولات الحكماء، والتجربة المنبرية الواقعية، ونؤكد على المقدمات التالية :

١/ الإلقاء الملتهب: الرافض لليونة والهدوء وطريقة المحاضرات التقليدية، كما في الوصف النبوي لأدائه عليه الصلاة والسلام: ( علا صوته واشتد غضبه، واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ).

وواللهِ لولا همةٌ وسخونةٌ// لخالطنا النومُ والنوم مركبُ
وَلَكِنْ نروّي الحرفَ من حر دمِّنا// لتحيا بِنَا الآمال والنّاس تشربُ

ومن المؤسف أن بعضهم يتناول موضوعات ساخنة فيميتها ببروده الأدائي، وتعاطيه الهادئ،،كموضوعات الفتن واليوم الآخر، والاستعداد للموت، وتفشي المعاصي والمناكر وأشباهها ..!
٢/ روعة الموضوع : وعملية التجديد المستمرة وفن اختيار العناوين، بحيث يلامس الإيمانيات والأخلاقيات والهموم والشجون بطريقة شرعية بلا مغالاة أو جفاء ، مجددا ومنوّعا، ومتراميا في باحات المعرفة الشرعية المتوهجة . 
٣/ المدخل الجذاب: وما يسمى ببراعة الاستهلال، وهي علامة الشد والجذب المبدئية حين صعود المنبر واستجلاب وجدانهم لدقائق معدودات، وربما احتاجت استغراقا ذهنيا مخصوصا، خلاف الموضوع وجمعه وتحريره، ويعده بعضهم أوعر من اختيار الموضوع...!
فحينما تطرق موضوع( قيام الليل ) مثلا،،،! فكّر كثيرا ما المدخل المناسب له، وليس المدخل التقليدي الذي يستعمله جل الخطباء...؟!
نحو:
• حديثنا اليوم عن قيام الليل.
• إن فضيلة القيام لا تخفى على أحد..!
٤/ الاعتدال الزمني: فلا تطويل مفرط، ولا تقصير مخل، بل القصد القصد تبلغوا، ويخطئ بعضهم وقد وفق لموضوع آسر، يفسده بتطويل وإطناب، فينام الناس، ويكتنفهم الشرود والسرحان، فيبدد الوقت ويضيع فرصة الموضوع المنير والمناسب...! وفي الهدي النبوي (كانت خطبته قصدا) عليه الصلاة والسلام، وجعل الإيجاز من علامة فقه الخطيب( إن طولَ صلاة الرجل وقِصَرَ خطبته مئنة من فقهه ). أي علامة .
٥/ تجنب التكرار : سواء للموضوعات بلا حاجة، أساليب، وكلمات، وأشعار ،.... وكم حفظها الحضور، وودّوا استبدالها بأخريات...!
٦/ الاستشعار المعنوي : بتحسس المعاني والأحرف وتلمس منعطفاتها، بما يعني الصدق والاهتمام، وتجريد النية لله تعالى، وأنه لا حظ لغير المخلصين المخبتين..!
٧/ الملامسة الواقعية: وتعني نوازلهم ومشكلاتهم، والتي يرغبون حلها، أو إطفاء نار لهيبها، أو تقديم الأملِ والعلاج فيها،،! فليس حسنا عندهم تجاهلها أو غض الطرف عنها،،! وأعظم من ذلك القضايا المدلهمة ونوازل الأمة الفتاكة، فيضيق كثيرون من إهمالها، فمثلا سابقا: الرسوم المسيئة للجناب النبوي، وسقوط بغداد، واقتحام الأقصى، وأشباهها، وخطب المواسم كرمضان والحج، لا يقبل الناس هجرها، فعلى الخطيب الاهتمام بذلك، ولو التعريج عليها إيماءً وإلماحا..!
٨/ التجديد اللفظي والأسلوبي : والذي يتخذ الحلل الجديدة، وينتقي المفردات الرائعة والصانعة الدفء للمستمع والراحة، والخالية من التعالي والتجريح ، والنائية عن الوحشية والإغراب من نحو: أساليب الاستفهام وضرب الأمثال، والجذب القصصي، والاستشهاد الشعري الرائق، والوبيص البلاغي القرآني والتراثي وشبهها من العناصر التجديدية، السالبة لوجدان المستمع .
٩/ الارتجال المهيب: إذا صحِبه حُسنُ الوقفة والنظرة والهيئة والعبارة، بحيث يمتلئ الجامع من نظراته وعباداته واستلاباته، ولكن يشترط له الضبط والتدقيق، لكيلا يحصل الاسترسال فيمل الناس،،! وهو أرجح وأحكم من الرأس المُطرق في الأوراق المكتوبة، لا سيما إذا طال الإطراق، وأخذت شكل القراءة العلمية وليست الجَهْورية اللاهبة، والمستدعية للعقل الإسلامي.
ومن خلال تجربة العبد الفقير المنبرية بان رجحان الارتجال المنظم على الإبقاء المقروء، وقد عاش هو التجربتين ونوقشت المسألة في كتاب( هيبة المنبر ) فعد إليه ان شئت،،،!
ومع ذلك لابد من عامل الحرارة في الإخلاص وتطلب الصدق، ونعتقد أن كل عمل بدونهما خالي البركة والتأثير، وهو العاشر هنا.
١٠/ الإخلاص النابض: والذي يجري من موضوعاتنا مجرى الدم، فيتجلى الصدق، وتشع الخشبة، وتتصاعد المرضاة، ونبذ الشهرة والظهور ومراءة الناس،،، عافانا الله وإياكم من ذلك، قال في الحديث ((
«من يسمّع يسمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به » )).
فاجعل مع كل موضوع رائع أخلاطاً من صدق وخشية وابتهال وتبتل، لعل الله أن يحدث بعدها أثرا وفضلا، وبركة ودُرا، و زهرا ونَميرا ( وأما ما ينفع الناسَ فيمكُث في الأرض ) سورة الرعد .
قال عمر بن ذر لأبيه : يا أبة ! ما لك إذا تكلمت أبكيت الناس ، وإذا تكلم غيرك لم يبكهم ؟!
فقال : ( يا بني ! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة )...!
ومثل ذلك مما يحمل على العمل والتخلق السني الواعي، قال مالك بن دينار رحمه الله: ( إِنَّ العالم إِذَا لَمْ يَعْملْ بعلمه زلّت موعظته عَنِ القلوب كَما تَزل القطرة عن الصفَا ).
ولعل ببعض هذه المقدمات العشر، يدرك الخطباء إنما ينام الناس إذا أحسوا بالآتي :
• استهانة الخطيب بالتحضير والإعداد .
• ضعف أدائه وعدم حرصه .
• تعامله مع الخطبة كوظيفة يود الانفكاك في أسرع الأوقات .
• تكراره الموضوعات والأساليب والألفاظ .
• انفصاله عن موضوعاته حال الإلقاء .
• التطويل الممل والقاتل لأذهان الناس وجسومهم .
• ارتقاء أسلوبه ومجانبته لمستوى عقولهم .
• عدم ثقة الناس في علمه وطرحه، واعتقادهم أنه ليس إلا مجرد قارئ، لا يعيش جوهر الداعية الصادق .
• عدم ملامسته لمشكلاتهم وحاجاتهم ...! والله الموفق.

١٤٤٠/٦/٢٥ه

حمزة بن فايع الفتحي

رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير