العدل واجب

منذ 2019-06-18

إنَّ العدلَ منْ أُسُسِ السعادةِ والاستقرارِ والهناءِ والسَّكنِ، وكما يُريدُ المرءُ أنْ يَعدِلَ معَهُ غيرُه، فلْيَعْدِلْ هوَ معَ مَنْ تَحتَ يَديهِ مِنْ زَوجاتٍ أوْ أولادٍ أوْ غيرِ ذلكَ.

قال الله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129].
هذهِ الآيةُ الكريمةُ نَزلتْ فِي حقِّ الزوجِ المعدِّدِ الذي لديهِ أكثرُ منْ زوجةٍ تأمره أن يقارب العْدلَ بينهنَّ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}، وهناكَ خللٌ في فهمِ هذهِ الآيةِ عندَ كثيرينَ، فيظنونَ أنَّهُ يجوزُ الميلُ اليسيرُ، وليسَ في هذهِ الآيةِ أيُّ دَلالةٍ علَى ذلكَ، لكنَّها تُراعِي واقعاً إنسانيًا، فالإنسانُ مَهْما حَرِصَ علَى العدْلِ فَيَصْعب أنْ يأتيَ بالعدْلِ التامِّ غيرِ الناقصِ،

إذِ الضَّعفُ والتقصيرُ منْ طبعِ البشرِ، والميلُ اليسيرُ إذا لمْ يكنْ لليد فيه حيلة ولا بسببِ تفريطٍ أوْ تساهلٍ فإنَّه معفوٌّ عنْهُ، أمَّا تَعمُّدُ الميلِ فهذَا ظلمٌ، والظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ، وهوَ محرَّمٌ كمَا في الحديثِ: "يَا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظلمَ علَى نفسِي وجعلتُه بينكمْ محرّمًا فلا تظَّالَمُوا".

والعجيبُ أنَّ بعضَ الناسِ يعرفُ أنَّه لوْ أخذَ رِيَالًا بغيرِ حقٍ منْ أيِّ إنسانٍ فإنَّه ظلمٌ لا يجوزُ فيتورَّعُ عنْهُ، وهذَا الشّعور محمودٌ ولا شك، لكنَّه لا يُبالِي أنْ يَقَعَ في الظُّلمِ والميلِ في حقِّ زوجِهِ أو إحدَى زوجاتِه أوْ في حقوقِ أولادِهِ، معَ أنَّهُ لا فَرْقَ بينَ الحالَينِ فذاكَ ظلمٌ محرمٌ، وهذَا ظلمٌ محرمٌ أيضًا.
 

إنَّ مِنْ صورِ الميلِ والظلمِ المحرمِ الذيْ يقعُ فيهِ بعضُ الأزواجِ، أنهُ إذَا أحبَّ إحدى زوجاتِه أكثرَ منْ غيرِها، فضَّلها بالعَطايا والهَدايا والأموالِ والمسكنِ والمطعمِ والملبسِ، وغيرِ ذلكَ، ومِنْ صورِهِ أيضًا أنْ يُفضِّلَ أولادَها علَى أولادِ الأُخْرَياتِ، بالعطاءِ والمنحِ وسائرِ الحقوقِ الواجبةِ للأبناءِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حذَّرَ مِنْ هذَا، كمَا في حديثِ بشيرِ بنِ سعدٍ عندما نَحَلَ ولدَه النُّعمانَ بنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه نِحلةً وجاءَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَه علَى مَا أعْطاهُ، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَكُلَّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ هَذَا»؟ قَالَ: لَا، قَالَ: «أَلَيْسَ تُرِيدُ مِنْهُمُ الْبِرَّ مِثْلَ مَا تُرِيدُ مِنْ ذَا»؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ»، وفي بعضِ ألفاظِ الحديثِ: «فَإنِّي لا أَشْهَدُ عَلى جَورٍ»، وفي لفظٍ آخَرَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»، وَهذَا لا يَعنِي أنَّه يجوزُ أنْ يميلَ في عطائِه ويُشهِدَ آخَرِين، بلْ هوَ منْ بابِ الردْعِ والتهديدِ، لأنَّه بيَّنَ أنَّه جَوْرٌ، وَهُناكَ نَهْيٌ عنِ الجَورِ والظلمِ والبَغِي والعُدْوانِ.

 ولا شكَّ أنَّ الميلَ لإحدَى الزوجاتِ إنْ تَعدَّاه إلَى ميلٍ وتفضيلٍ لأولادِها عنْ بقيةِ الأولادِ فهُوَ ظلمٌ فوقَ ظلمٍ، وهوَ منْ أسبابِ وقوعِ العداواتِ بينَ الأبناءِ، حيثُ يَرَى بعضُهم أنَّ والدَهم قدْ فضَّلَ إخوانَهم عليْهِم فيُبغضونَهم ويَحقِدونَ عليهم وقدْ يسعَوْنَ في إضرارِهم، وهذَا مِنْهم ظلمٌ أيضًا، إذْ لا ذنبَ لِإخوانِهم في ذلكَ، إنَّما هوَ ذنبُ الوالدِ، إلاّ إذا رضوا هم بهذا الظُّلم وأقروه.
 

 قدْ يقولُ قائلٌ كانَ الواجبُ علَى الإخوةِ الآخَرينَ أنْ يرفضُوا أيَّ ميلٍ لهمْ دونَ إِخوانِهم، وهذَا صحيحٌ إنْ تعلَّقَ الأمرُ بعطاءٍ ماديٍّ، فلوْ أعْطَى هؤلاءِ أَلْفَ رِيَالٍ ولمْ يُعطِ الآخَرينَ، أوْ أعْطَى الآخَرينَ أقلَّ منْ ذلكَ، فهُنا يجبُ علَى الابنِ أنْ يَرْفُضَ هذا الأمرَ وأنْ يَعْتذِرَ لِأبيهِ بالأسلوبِ المناسبِ ويُذكِّرَهُ بحَديثِ النُّعمانِ ويطلبَ منهُ التسْويةَ في العَطايا، ولكنْ قدْ يكونُ الميلُ أحيانًا معنويًا بالتقاءِ الأبِ بأبنائِهِ منْ زوجةٍ وجلوسِه معَهم أكثرَ منَ الآخَرِين، فهُنا لا يَنبغِي لهمْ أنْ يَقومُوا ويتركوا الأبَ، أو يقولوا لهُ لا نَجْلِسُ معَكَ حتَّى تَجلِسَ مَعَ إخْوَانِنِا، فهذا عقوقٌ ويترتبُ عليهِ مفاسدُ عظيمةٌ، ولكنْ يَنْصَحُونَ الأبَ ويَتَلَطَّفُونَ معَهُ، وَيقولونَ اتقِ اللهَ فِينا جميعَا، وفي الوقتِ نفسِه يُبادِرُونَ بصِلَةِ إخوانِهم والإحسانِ إليْهم.
 

 والعدلُ مطلوبٌ معَ الجميعِ، حتَّى معَ الزوجةِ ولوْ كانتْ واحدةً، فتُعطَى حقوقَها ولا تُظْلَم، فإن حدثَ تقصيرٌ أوْ خللٌ غيرُ مرادٍ ولا مقصودٍ ولا متكررٍ، وإنَّما هوَ ميْلٌ عارضٌ، سواءٌ معَ الزوجاتِ أوْ معَ الأولادِ، أوْ حتَّى معَ الزوجةِ الواحدةِ، فهُنا يأْتِي التصافحُ والتغافرُ، وعلَى الزوجِ أنْ يُبادِرَ باسترضاءِ مَنْ وقعَ عليهِ مثلُ هذا الظلمِ غيرِ المقصودِ.
 

ومما يَنبغِي ملاحظتُه أنَّ الاسترضاءَ ليسَ بالضرورةِ أنْ يكونَ بالتسويةِ، وإنَّما يُمكنُ أنْ يكونَ بفعلِ ما يُرضِي كلَّ طرفٍ، فبعضُ الزوجاتِ قدْ تَرْغَبُ في السَّفَرِ أكثرَ مِنَ الأخرَى، وأختُها ربَّما تَرغَبُ في المالِ أكثرَ مِنَ السَّفَرِ، فيأتي زوجُهما فيُرضِي هذهِ بالمالِ ويُرضِي هذهِ بالسَّفرِ، بِشَرطِ أنْ يكونَ التراضِي بينَهما حقيقيًا وعنْ طِيبِ نفسٍ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، فبعضُهم قدْ تقولُ له زوجتُه أنا راضيةٌ وهيَ ليستْ راضيةً، لكنْ تقولُ: ماذَا أفعلُ؟ لوْ قلتُ لهُ لستُ راضيةً لفَعَلَ وَفَعَلَ، ولهَدَّدَ وتَوَّعَدَ، وربَّما هَجَرَنَا وربَّما طَلَّقَنَا، فليسَ هذا هوَ الرِّضا الشَّرعيُّ، إذ الرضا الشرعيُّ ما كانَ مِنْ قلبٍ صادقٍ.

وأخيرًا، فَبرَغْمَ أنَّ المخاطَبَ بالآيةِ هوَ الزوجُ، إلّا أنَّ المرأةَ قدْ تُقَصِّرُ في حقِّ الزوجِ لانشغالهِا بأعمالِ المنزلِ أوِ الأولادِ وغيرِ ذلكَ، فهذا نوعٌ منَ الميلِ والظلمِ، فعليها أنْ تَحْرِصَ علَى العدلِ، وعلى القيامِ بحقوقِه وما يُحقِّقُ سعادتَه، فإنْ وَقعَ تقصيرٌ عارضٌ فتُحاوِلُ أنْ تَسترضيَهُ وتُعَوِّضَه، وتُبيِّنُ له سببَ هذا التقصيرِ وتَعتذرُ عنْهُ.
 

إنَّ العدلَ منْ أُسُسِ السعادةِ والاستقرارِ والهناءِ والسَّكنِ، وكما يُريدُ المرءُ أنْ يَعدِلَ معَهُ غيرُه، فلْيَعْدِلْ هوَ معَ مَنْ تَحتَ يَديهِ مِنْ زَوجاتٍ أوْ أولادٍ أوْ غيرِ ذلكَ {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}.

ناصر بن سليمان العمر

أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا