تنبيهات لتقويم الأقوال والمقالات (3-3)

منذ 2019-07-08

فالوصيَّةُ: أنْ يَلزَمَ المسلمُ غرْسَهم، وأنْ يَهتديَ بهدْيِهم؛ اتباعًا واقتداءً، لا جُمودًا ولا تَقليدًا، هذا ما كان عندي مِن الوصايا والتَّنبيهاتِ.

تنبيهات لتقويم الأقوال والمقالات

مِثال تطبيقي: (مقال: سماع الصحابة في أعراسهم للمُوسيقى للدكتور العوني)

الدكتور منصور بن حمَد العيدي

 

ومِن الأوهامِ عند بعضِهم: اعتقادُهم أنَّ مُستخرَجَ أبي عَوانةَ هو مُستخرَجٌ أيضًا على كتابِ أحمدَ بنِ سَلَمةَ، وهذا أيضًا غيرُ دقيقٍ؛ ولذا يقول محقِّقُ الكتابِ: "يَختصُّ الاستخراجُ في الموضعِ الذي يقولُ فيه أبو عَوانةَ: "مِن هنا لم يُخرِّجاهُ"  بكونِه على صحيحِ مسلمٍ، وأبي الفَضل أحمدَ بنِ سَلَمةَ، وأمَّا ما سواهُ فالاستخراجُ فيه مُختصٌّ بأصلِ مَوضوعِ الكتابِ على صَحيحِ مُسلمٍ وحْدَه"، هذا هو الأصلُ أنه مُستخرَجٌ على صَحيحِ مُسلمٍ وحْدَه.

فأرجو الآنَ أنه قد تَبيَّن لك أنَّنا لا نَملِكُ نصًّا صريحًا عن الطَّبَريِّ ولا عن أبي عَوانةَ يُفيدُ صِحَّةَ الحديثِ، وأنَّ فَهْمَ ذلك مِن كلامِهم أمرٌ خاضعٌ للاحتِمالِ، أما نَسبةُ التصحيحِ لابنِ سَلَمةَ فبعيدٌ جدًّا.

ستَقول لي: ماذا عن المعاصرين؟ ألم يُصَحِّحوه؟ ألم يقُلِ الوادعيُّ: رجالُه رجالُ الصحيحِ، ألم يقُلِ الأرناؤوطُ وأصحاب كِتابِ الاستيعابِ: صحيحُ الإسنادِ؟!

فأقول جوابًا عن ذلك: إنَّ الدكتورَ العوني يَعرِف جيدًا أنَّ هذه العباراتِ لا تُفيدُ الحكْمَ على الحديثِ لا بالصحةِ ولا بالحُسْنِ؛ فعِبارة "رجالُه رجالُ الصحيحِ"، وعبارة "صحيحُ الإسنادِ"، هاتانِ لا تُفيدانِ الحكْمَ على الحديثِ لا بالصحةِ ولا بالحُسْنِ، وسأبيِّن ذلك لك باختصارٍ، وهو أنَّ الحديث الصحيحَ هو ما اجتمَعَ فيه الشُّروط الخمسةُ: (عدالةُ الرُّواةِ - ضبْط الرُّواة - اتِّصال السنَدِ ظاهرًا - السلامةُ مِن الشُّذوذ - السلامة مِن العِلَّةِ).

فإذا قال العالمُ -لا سيَّما من المتأخِّرين- عن حديثٍ: إنه صحيحُ الإسنادِ أو حسَنُ الإسنادِ، فقد ضَمِن لك الشُّروطَ الثلاثةَ الأُولى (العدالة - الضَّبْط - الاتِّصال)، لكنَّه لم يَضمَنْ لك الشَّرطينِ الآخَرينِ: الشَّرْطَ الرابعَ والخامِسَ؛ لماذا؟

لأنَّهما يَحتاجانِ إلى جهْدٍ مُضاعفٍ، وخبرةٍ واسعةٍ، وقُدْرةٍ على جمْعِ الطُّرقِ وتَحليلِها، فرُبَّما لا يُسعِفُه الوقتُ لذلك، وفي الوقتِ نفْسِه لا يُريد أنْ يُحرِمَ القارئَ من الفائدةِ، فيقولُ عنه: الحديث صحيحُ الإسنادِ، أو حَسنُ الإسنادِ، فكأنَّه ضمِنَ لك الشروطَ الثلاثةَ الأُولى، لكن لا تَحكُم أنت -كما لم يَحكُمْ هو- على الحديثِ بالصِّحةِ أو الحُسْنِ، إلا إذا توفَّرت الشُّروط الخمسةُ، فتَنبَّهْ لهذا.

وأضعَفُ مِن عبارةِ (صحيح الإسنادِ - حَسن الإسنادِ)، قولُهم: رجالُه رجالُ الصحيحِ؛ لأنَّ هذا لا يفيد تحقُّقَ الشرطِ الثالثِ؛ وذلك لأنَّه ليس كلُّ رجالِ الصحيحِ يُقبَلُ حديثُهم في كلِّ الأحوالِ، فقدْ يُقبَلُ في حالٍ دون حالٍ، وفي الأمر تَفصيلٌ لا أُريد الإطالةَ عليك فيه، وبالإمكانِ مُراجعة كتاب اختصارِ عُلوم الحديثِ لابن كثير (ص43).

فأرجو أنْ يكونَ قد تبيَّن لك بهذا أنَّ قولَ الوادعيِّ: "رجالُه رجالُ الصحيحِ"، وقولَ الآخرينَ: "إسنادُه صحيحٌ"، لا يعني أنهم يُصحِّحون الحديثَ؛ وإنما فقط حسَّنه الوادعيُّ بقولِه: حديثٌ حسنٌ فقط، وأظنُّ به -رحمه الله- أنه لم يقِفْ على عِلَّتِه.

وهنا أريدُ أنْ أنَبِّهَ القارئَ الكريمَ لأمْرٍ مهمٍّ؛ وهو: لو فرَضْنا أنَّ الطَّبَريَّ وأبا عَوانةَ وابنَ سَلمةَ قد صحَّحوا الحديثَ، أو لو فرَضْنا أنَّك مُقتنِعٌ تمامًا بأنهم قد صحَّحوا الحديثَ، بل وافقْتَ وآمنتَ بكلِّ هذا؛ فهل يعني هذا أنَّ الطَّبَريَّ وأبا عَوانةَ يُبِيحانِ الموسيقى والمعازفَ... إلى آخِره؟ الجوابُ في التنبيهِ التالي:

التنبيهُ الثامنُ: رِوايةُ العالِمِ الحديثَ لا تَعني الأخْذَ به.

يَنبغي أنْ يُعلَمَ أنَّ رِوايةَ العالِم الحديثَ ومعرفتَه به لا يَستلزمانِ أنْ يأخُذَ بمدْلولِه، فقد يأخُذُ به، وقد لا يأخُذُ، وإذا لم يأخُذْ به فهذا يعودُ إلى أسبابٍ مُتنوِّعةٍ؛ منها: أنه يَرى أنَّ هذا الخبرَ ذو دَلالةٍ مُحتمِلةٍ، أو يكونُ له تفسيرٌ يُخالِف فيه غيرَه، وقد يَرى العالِمُ أنَّ هذا الحديثَ مُعارَضٌ بما هو أقْوى منه، وفي ذلك تُذكَرُ القصَّة المشهورةُ للإمامِ مالكٍ؛ إذ قِيل له: إنَّك لا تأخُذُ بخيارِ المجلِسِ وقد ذكرتَ الحديثَ في كتابِك، فقال -رحمه الله- مَقولتَه المشهورةَ: "حتى يَعلَمَ الجاهلُ مِن أمثالِك أنِّي عن عِلْمٍ تركْتُه".

يُريد -رحمه الله- أنه لم يأخُذْ بالحديثِ مع عِلْمه به؛ وذلك أنَّ مالكًا -رحمه الله- رأى أنَّ عمَلَ أهلِ المدينةِ على خلافِ هذا الحديثِ، وأنَّ عمَلَهم أقوى مِن هذا الحديثِ الآحاديِّ.

قدْ نَعلمُ يقينًا أنَّ العالِمَ لم يأخُذْ به إذا ثبَت عنه نصٌّ يُخالِفُ مَضمونَ الخبرِ، وهنا يُستحسَنُ أنْ نَعرِفَ موقفَ الطَّبَريِّ وأبى عَوانةَ من مَسألةِ المزاميرِ، وما يُمكِن أنْ نَعرِفَ به فَهمَهم لهذا الحديثِ حديثُ الكَبَرِ والمزاميرِ والعُرْسِ، وهنا لا حاجةَ أنْ نُؤكِّدَ أنه لا مَجالَ هنا للحديثِ عن مُوسيقى ومعازفَ؛ لأنَّ الحديثَ ليس فيه لا هذا ولا ذاك، وإنما في الحديثِ فقط ْكَبَرٌ ومزاميرُ، فيا تُرى ما مَوقف العالِمَين من الكَبَرِ والمزاميرِ؟

أقول: الواقعُ المقطوعُ به أنَّ كلًّا منهما مُتشدِّدٌ جدًّا في هذا الأمْرِ، وكلًّا منهما أشدُّ مِن الآخَرِ من وجْهٍ ما؛ أمَّا الطَّبَريُّ فيقولُ في تهذيب الآثارِ (4/238): "لا بأسَ على الرجُلِ المسلمِ إذا رأى بعضَ ما يتَّخِذُه أهلُ الكفْرِ وأهلُ الفُسوقِ والفجورِ مِن الأشياءِ التي يُعصى اللهُ بها مما لا يَصلُحُ لغيرِ مَعصيةِ اللهِ به وهو بهَيئتِه، وذلك مِثل: الطَّنابيرِ، العِيدانِ، المزاميرِ التي لا مَعنى فيها وهي بهَيئتِها إلا التَّلهِّي به عن ذِكرِ اللهِ، والشُّغل بها عمَّا يُحِبُّه اللهُ إلى ما يُسخِطُه..."، إلى أنْ قال: "إذ كان فيها الأسبابُ التي تُوجِب لِلَّاهِي بها سخَطَ اللهِ وغَضَبَه". ثم ذكَرَ أنه لا بأسَ على المسلمِ أن يَكسِرَها، وأن يُغيِّرَ هَيئتَها، وأنَّ تَغييرَها أَولى مِن تَغيير الأصنامِ.

ثم ذكَر -رحمه الله- أنَّ هذا الذي قاله هو ما عليه السَّلَفُ، وهو ما عَمِلوا به، ولم يَذكُرْ -رحمه الله- خلافًا عنهم في ذلك، يعني في إتلافِ آلاتِ اللَّهو التي ذَكَر منها صراحةً المزاميرَ.

فالطَّبَريُّ -رحمه الله- شأنُه شأنُ أئمَّةِ الإسلامِ في مُحارَبةِ كلِّ هذه الأشياءِ، وأنَّها تُؤدِّي -على حدِّ تَعبيرِ الطَّبَري- إلى سَخَطِ الله وغضَبِه، وأنها فقطْ لصِنفينِ -على حدِّ تَعبيرِه- هما: أهلُ الكفرِ، وأهلُ الفجورِ.

أقولُ: وليستْ للصَّحابةِ ومَن تبِعَهم بإحسانٍ، فلم يَفهَمِ الإمامُ الطَّبَري مِن حديثِ جابرٍ معنى يُغضب الله كإباحة المزاميرِ، أو يَنسُبَ -عياذًا بالله- للصَّحابةِ أنهم يَستمِعون للموسيقى.

أمَّا أبو عَوانةَ فإنَّه نصَّ على إباحةِ الدُّفِّ فقطْ، متى؟ في العيدِ فقطْ لا غيرُ، فقال: بابُ بَيانِ إباحةِ اللعِبِ في يومِ العيدِ، وضرْبِ الدُّفِّ أيامَ التَّشريق، والدليلِ على أنَّها في أيامِ غيرِ العيدِ مَكروهةٌ. [(2/155) طبعة دار المعرفة]. ولم يَستثْنِ الأعراسَ.

واستدلَّ -رحِمه الله- بحديثِ أبي بكرٍ، والكراهيةُ عنده تعني أنه مَنْهيٌّ عنه، كما في (2/9).

فأبو عَوانةَ لا يَرى الدُّفَّ في الأعراسِ، فضلًا عن أنْ يَرى المزاميرَ ونحوَها مِن آلات اللهْوِ، بل الأمرُ أبلَغُ مِن ذلك، وهو: أنَّه لَمَّا روَى أحاديثَ لَعِبِ الأحباشِ في المسجدِ، قال: هذه الأخبارُ تُعارِضُ أحاديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سمِعَ رجلًا يَنشُدُ ضالَّةً في المسجدِ، فقال: ((إنما بُنِيت المساجدُ لِما بُنِيَت له)). يَذكر أنَّ هذا الحديثَ معارَضٌ، ثم قال: وقد عاب اللهُ سُبحانه مَن يَنظُر إلى اللهْوِ فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11]، فهو يرى أنَّ هذا أمْرٌ مَنهيٌّ عنه، ففَهِم مِن الآية عَيبَ مَن يَنظُرُ إلى اللهْوِ مطلقًا، ولم يُقيِّدْ ذلك بالخروجِ مِن الخُطبةِ، وإنما أتى باللفظِ العامِّ.

ممَّا يدلُّ على أنَّه -رحمه الله- يمنَعُ مِن ذلك، وتوقَّف -رحمه الله- في جَوازِ اللَّعِبِ في المسجدِ يومَ العيدِ، مع أنه ذكَرَ هذه الأحاديثَ.

 وأخشى -واللهُ المستعانُ- أنْ يأتِيَنا باحثٌ آخَرُ فيقولُ: إنه يجوزُ وضْعُ ألْعابِ (السيركِ) في المساجِدِ، استدلالًا بحديثِ لَعِبِ الأحابيشِ في المسجدِ؛ فهذا -والله أعلمُ- لا يَقِلُّ سُوءًا وشرًّا عن الذي يَزعُمُ استِعمالَ الصحابةِ المعازفَ، واستِماعَهم للموسيقى؛ استدلالًا بحديثِ الكَبَرِ والمزاميرِ.

وعلى كلِّ حالٍ، فالذي عليه العالِمانِ الجليلانِ هو المَهْيَعُ الذي عليه أئمَّةُ الإسلامِ الكبارُ، أهلُ الاجتهادِ المطلَقِ، والذي صارت عليه المذاهبُ الأربعةُ مِن منْع آلاتِ اللَّهْو، واستثناءِ الدُّفِّ في مواطنَ خاصَّةٍ.

وإذ ذكَرْنا أنَّ هذا هو ما عليه هؤلاء، فهذا يَقودنا لتنبيهٍ مهمٍّ، وهو التنبيهُ التاسعُ:

التنبيهُ التاسعُ: لِيَحرِصِ المسلمُ على الأخْذ بالشائع والمشهورِ، وأن يَترُكَ الشواذَّ والغرائبَ.

تَتابعَتْ وَصايا أئمَّةِ الإسلام للمسلمين عامَّةً، ولطُلَّاب العِلم خاصةً على الأخْذِ بما شاعَ واشتُهِرَ في النُّصوص الشرعيةِ، وما تتابَعَ عليه عُلماءُ الإسلامِ؛ رِوايةً وتعليمًا وعمَلًا، وبالمقابل حذَّروا مِن الغرائبِ والشواذِّ التي تكونُ بخلافِ ذلك، وهذا التحذيرُ لا يَكاد يَخلُو منه كتابٌ مِن كُتبِ أدَبِ طلَبِ العِلم.

قال الإمام مالكٌ: شرُّ العلمِ الغريبُ، وخيرُ العلمِ الظاهرُ الذي قد رواهُ الناسُ.

وقال ابنُ المبارَكِ: العلمُ: الذي يَجيئك مِن هاهنا وهاهنا. قال ابنُ رجبٍ شارحًا كلامَه: يعني المشهورَ.

وقال الإمام أحمدُ: لا تَكتبوا هذه الغرائبَ؛ فإنَّها مناكيرُ. وقال: شرُّ الحديثِ الغرائبُ التي لا يُعمَلُ بها ولا يُعتمَدُ عليها.

 وسرْدُ الوصايا بهذا يَطولُ.

وهذا الحديثُ الذي أبدَأَ فيه الدكتورُ العونيُّ وأعادَ، وجعَل له حَلقاتٍ في (اليوتيوب)، هذا الحديثُ الذي فيه الكَبَرُ والمزاميرُ يَظهَرُ شُذوذُه وغرابتُه المذمومةُ مِن جِهتينِ:
 

الجهةُ الأولى: مِن جِهة تَفسيرِ اللَّهو في قولِه تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11]، بأنَّها كَبَرٌ ومزاميرُ في عُرْسٍ، بينما المنقولُ عن الصحابةِ والتابعينَ وأئمَّةِ التفسير: أنَّ اللهْوَ في الآيةِ ليس له عَلاقةٌ بعُرْسٍ، وإنما كان مُصاحبًا للقافلةِ التِّجاريَّة، فهذا ما رُوِي عن أبي هُريرةَ، ومرْويٌّ عن ابنِ عباسٍ، بل مَرْويٌّ عن جابرٍ في المشهورِ عنه، ولم نقِفْ على شيءٍ يُخالِفُ ذلك عن الصحابةِ -رضي الله عنهم-، وهذا هو المنقولُ عن التابعينَ وأئمَّةِ التفسيرِ: صَفوانَ بنِ سُلَيم، ومجاهدٍ، والسُّدِّيِّ، وأبي مالكٍ، والحسَنِ البصريِّ، وقتادةَ، وزيدِ بنِ أسلَمَ، وأبي العاليةِ، ومحمدِ بن كعبٍ الكَرْزيِّ، ومُقاتلِ بنِ سُليمانَ، ومُقاتلِ بنِ حيَّانَ.

بيْنما الحديثُ الذي فيه قصَّةُ العرْسِ والكَبَرِ والمزاميرِ والجواري، لم يَجِئْ إلا في إسنادٍ واحدٍ، واختُلِفَ في وصْلِه وإرسالِه، واختُلِفَ في ألفاظِه، ثم اختلَفَ الدكتورُ العوني هل هو حديثٌ واحدٌ أو حديثانِ؟ ولذا فلا تَعجَبْ أنَّ الواحديَّ المفسِّرَ المشهورَ -مع عِلمِه بقصَّةِ العُرْس والجواري، حيث أشار إليها في كتابِه البسيطِ- قد أهمَلَه في أسبابِ النُّزول، وحكى عن المفسِّرين قاطبةً لا يَستثني منهم أحدًا: أنَّ اللهو هنا إنَّما هو لهوٌ في تِجارةٍ، ولا عَلاقةَ له بالعُرْسِ.

ولا تَعجَبْ إذا رأيت الحافظَ ابنَ كثيرٍ رغمَ أنه جعَلَ تفسيرَ الطَّبَري أصلًا له، إلا أنه أعرَضَ عن هذا الخبر ولم يُشِرْ إليه، ولا تَعجَبْ مِن أنَّ ابنَ أبي حاتمٍ قد أهمَلَ ذِكْرَه أيضًا، وحين أشار إليه السيوطيُّ في الدُّرِّ المنثورِ أهمَلَ لفظةَ "الكَبَر والمزامير"، مع أنه لا يُمانِعُ رحمه الله -كما في لُباب النُّقولِ- أنْ تكونَ الآيةُ نزَلَت في الأمرينِ، لكنه في كتابِ الدُّرِّ المنثورِ اكتفى برِوايةِ ابنِ المنذِرِ، وقال: "إن ابنَ جريرٍ رواهُ أيضًا"، وأهمَلَ لفظةَ "الكَبَر والمزامير".

وهذا الإسناد الذي رُوِيت فيه قصَّةُ الكَبَرِ والمزاميرِ، رغَم أنه مِن رِواية جَعفرِ بن محمدٍ، عن أبيهِ، عن جابرٍ، وهي سلْسلةٌ ذات قيمةٍ عاليةٍ عند المحدِّثين؛ إلا أنَّ هذا الخبرَ المرْويَّ بها قد أهمَلَه أصحابُ الصِّحاحِ، وأصحابُ السُّننِ والمسانيدِ، وما كانوا ليُهمِلُونه وهم يَعرِفون قيمةَ هذا الإسنادِ، إلا لاستنكارِهم هذا الخبَرَ، وبالمقابلِ فإنَّ سَببَ النُّزولِ الآخَرَ المشهورَ الذي يَربِطُ الآية بتلك القافلةِ التِّجارية، والذي ليس فيه عُرْسٌ، ولا مزاميرُ، ولا كَبَرٌ، قدْ أقبَلَ عليه عُلماءُ الحديثِ زَرافاتٍ ووُحْدانًا، فأخْرَجوه في كُتبِهم؛ الصِّحاحِ، والسُّننِ، والمسانيدِ، ورواهُ جمْعٌ كثيرٌ مِن الرُّواةِ، واتَّفَقوا على اعتمادِه، لا يُنكِرُه أحدٌ فيما وقَفْنا عليه، فهذا يَدلُّك مِن جهةٍ على ذلك الشُّذوذِ وتلك الغَرابةِ في حديثِ الكَبَرِ والمزاميرِ الذي طار به الدكتورُ العوني.
 

الجهة الثانيةُ التي يَظهر لك فيها شُذوذُ الحديثِ وغَرابتُه: أنَّ فيها استعمالًا للمزاميرِ في العُرْسِ، بينما المشهورُ عند أصحابِ الحديث الرُّخصةُ فقطْ في الدُّفِّ، وأحاديثُ الرُّخصةِ في الدُّفِّ مَوجودةٌ في الصِّحاحِ والسُّننِ ومَشهورةٌ جدًّا، وعلى هذا فإذا كان الدُّفُّ هو الأمْرَ المحكَمَ، بينما كلمةُ "المزامير"، وكلمة "الكَبَر" حمَّالتَا أوجُهٍ، فلا أقَلَّ للمسلمِ مِن أن يأخُذَ المحكَمَ ويذَرَ المتشابِهَ.

وهذه آخِرُ وصيَّةٍ أُوصِيك بها؛ وهي بعُنوان:

الوصية الأخيرةُ: عليك بالمُحكَمِ واترُكِ المُتشابِهَ.

مِن ابتلاءِ الله -تعالى- لعِبادِه أنْ جعَلَ النُّصوصَ الشرعيةَ على قِسمينِ: قسمٍ واضحٍ في معناه، وقسمٍ حمَّالِ أوجُهٍ، وقد يَحمِلُ معنًى باطلًا، فأما الموفَّقون فإنَّهم يأخُذون بالمحكَمِ ويعمَلون به، فإذا ورَدَ عليهم المتشابِهُ فإنَّ أهلَ العلمِ منهم -بما آتاهُم اللهُ مِن عِلم وحكمةٍ- يفسِّرون المتشابهَ تَفسيرًا يُوافِقُ المحكَمَ ويؤيِّدُه، ولا يَضرِبون النُّصوصَ بعضَها ببعضٍ؛ فإنَّ هذا فِعلُ مَن وصَفَهم اللهُ بأنَّ في قُلوبِهم مرَضًا.

وهذا الحديثُ الذي زُعِم فيه استماعُ الصحابةِ للموسيقى لم يكُنْ أهلُ العلمِ مِن المحدِّثين والفقهاءِ -ولا سيَّما أتباع المذاهبِ الأربعةِ- لم يكونوا -بحمْدِ اللهِ- غافلينَ عنه، جاهلينَ مَدلولهَ، حاشاهم! لكنْ كان عندهم مِن العِلم والحكمةِ ما يُحسِنون التعامُلَ به.

فهو عندهم مِن جِنس المتشابهِ الذي يُطوى ولا يُرْوى؛ لِما فيه من العِلَلِ، ومنعًا مِن إساءةِ فَهمِه، وإثارةِ الفِتنةِ به، وفي الوقتِ ذاتِه يَحمِلونه على أحسنِ المحاملِ التي فيها تَوقيرُ أصحابِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وفيها تفسيرُه بما يُوافِقُ أحاديثَ الرُّخصةِ، فلا يَضرِبون النُّصوصَ بعضَها ببعضٍ، ولا يُحرِّفون الكَلِمَ عن مَواضِعِه.

فالوصيَّةُ: أنْ يَلزَمَ المسلمُ غرْسَهم، وأنْ يَهتديَ بهدْيِهم؛ اتباعًا واقتداءً، لا جُمودًا ولا تَقليدًا، هذا ما كان عندي مِن الوصايا والتَّنبيهاتِ.
 

واللهَ أسألُ التوفيقَ للجميعِ، وآخِرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين.