طريق الإسلام

الشماتة

منذ 2019-07-11

قال ابن رجب نقلا عن بعض السلف: أدركت قوما لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس؛ فذكر الناسُ لهم عيوبا، وأدركت أقواما كانت لهم عيوبٌ فكفوا عن عيوب الناس، فنُسيت عيوبهم (جامع العلوم 2/291).

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فمن المعاصي الأخرى التي لها عواقب في الدنيا ويجب الحذر منها:

إظهار الشماتة بالناس

 

وهذا مرض اجتماعي متأصل في بعض القلوب المريضة نتيجة لأصابتها بمرض الغرور والحسد.

 والشماتة تعني: الفرح ببلية من يعاديك أو تعاديه.

فما عاقبته في الدنيا يا ترى؟

روى وائلة بن الأسقع  رضي الله عنه  قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم   « «لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ» » [رواه الترمذي] .

 لماذا (ويبتليك؟)، قال المناوي –رحمه الله-: (ويبتليك) حيث زكيت نفسك ورفعت منزلتك وشمخت بأنفك وشمت به أهـ . فعقوبة إظهار الشماتة بالناس أن الله قد يبتليك بنفس الذنب.

ولا تكون الشماتة إلا نتيجة حسد أو غرور بالنفس واحتقار للآخرين.

لذلك قال الغزالي: والحسد والشماتة متلازمان (إحياء علوم الدين).

وروى معاذ بن جبل  رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : " «من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله » "  رواه الترمذي وقال حديث غريب [حسنه الأرناؤوط في جامع الأصول 11/742]. أي من عيّر أخاه بذنب تاب منه؛ لأن الذي يعير أخاه بذنب يصيبه إعجاب بنفسه لسلامته مما عيَّر به أخاه ، وهذه آفة أخرى يجب التنزه منها والحذر منها. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

ولقد نصح رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أحد الصحابة رضي الله عنهم أن لا يعير أحدا ولو كان المقابل هو البادئ بذلك.

فقد روى جابر بن سليم  رضي الله عنه  قال «رَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ، لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ، قَالَ: " لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ " قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ، أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ - أَوْ فَلَاةٍ - فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ، رَدَّهَا عَلَيْكَ»، قَالَ: قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ، قَالَ: «لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا» قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا بَعِيرًا، وَلَا شَاةً، قَالَ: «وَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّهَا مِنَ المَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ، فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ »   [رواه أبو داود والترمذي] .

وهذا هو الشاهد من هذا الحديث ( «وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ، فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ» ).

وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: « «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» » [رواه الترمذي] .

فلا تعيّر أحدا على ذنب ارتكبه؛ لأنك لا تأمن أن تقع فيما وقع فيه، ولا تعيّره على نسبه وأصله، فإن ذلك من أمر الجاهلية وقد يُذلك الله، فقد روى عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: «مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلَامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» » رواه مسلم.

لذلك كان السلف يتجنبون الشماتة بأحد خشية أن يبتليهم الله تعالى بما شمتوا به.

  1. _ قال البغوي في شرح السنة: وقال إبراهيم: إِنِّي لأرى الشَّيْء، فأكره أَن أعيبه مَخَافَة أَن أبتلى بِهِ (13/141).
  2. وقال أحدهم: قد عبت شخصًا قد ذهب بعض أسنانه، فانتثرت أسناني! (صيد الخاطر)
  3. وقال ابن مسعود  رضي الله عنه : البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً.
  4. وقال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه ، لخشيتُ أن أصنع مثل الذي صنع (الجزاء من جنس العمل 2/288).
  5. - وورد عن ابن سيرين -رحمه الله تعالى- أنه عيّر رجلاً بالإفلاس فأفلس بعد ثلاثين سنة (الجزاء من جنس العمل 2/288)، وقصته أن محمد بن سيرين حُبس بدين ركِبه ، قال المدائني : كان سبب حبسه أنه أخذ زيتا بأربعين ألف درهم فوجد في زقٍ منه فأرة فظن أنها وقعت في المعصرة، وصب الزيت كله، وكان يقول إني ابتليت بذنب أذنبته منذ ثلاثين سنه، قال فكانوا يظنون أنه عيّر رجلا بفقره (الجزاء من جنس العمل 2/289).
  6. وقال ابن رجب نقلا عن بعض السلف: أدركت قوما لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس؛ فذكر الناسُ لهم عيوبا، وأدركت أقواما كانت لهم عيوبٌ فكفوا عن عيوب الناس، فنُسيت عيوبهم (جامع العلوم 2/291).

فالسعادة كل السعادة أن يشتغل المرء بعيوب نفسه دون عيوب غيره، وأن يدعو الله تعالى أن لا يشمت به أحدا، حيث روى عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  كان يدعو قائلا : (ا «للَّهُمَّ احْفَظنِي بالإِسْلاَمِ قائِماً واحْفَظْنِي بالإِسْلاَمِ قاعِداً واحْفَظنِي بالإِسْلاَمِ راقِداً وَلَا تُشْمِتْ بِي عَدُوّاً وَلَا حاسِداً اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألُكَ مِنْ كُلِّ خَيْر خزائِنُهُ بِيَدِكَ وأعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرَ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ»  ) رواه الحاكم . ‌

وقد ذكر المناوي في فيض القدير أن قوله  صلى الله عليه وسلم  ( وَلَا تُشْمِتْ بِي عَدُوّاً وَلَا حاسِداً )  أي لا تنزل بي بلية يفرح بها عدوي وحاسدي، وفي الصحاح الشماتة: الفرح ببلية العدو، والحسد تمني زوال نعمة المحسود. 

بل كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يتعوذ حتى من شماتة الأعداء، حيث روى أبو هريرة  رضي الله عنه  قال: " «كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ» "  متفق عليه.

ودرك الشقاء: أي الأسباب المؤدية للهلاك، أو أن يدركني شقاء في الدنيا والآخرة.

وجهد البلاء: قيل هو كثرة العيال وقلة المال.

وشماتة الأعداء: أي فرح العدو ببلية تنزل بعدوه.

والشماتة تنم على احتقار بالمقابل، فقد روى أبو هريرة  رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال « «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» » [رواه مسلم] .

والمرء يقبل التقويم ولا يقبل التعيير؛ لأن في الأول نصيحة وفي الثاني شماتة وفضيحة.

 قال الدوري: قال لي الكسائي: كنت أقرأ على حمزة فجاء سليم بن عيس (شيخ القراء) فتلكأت، فقال: حمزة تهابه ولا تهابني؟ قلت: أيها الأستاذ أنت إن أخطأت قومتني، وهذا إن أخطأت عيرني (نزهة الفضلاء 718/5).

ولذلك قال ميمون بن مهران: من أساء سرا فليتب سرا، ومن أساء علانية فليتب علانية، فإن الله يغفر ولا يعير، والناس يعيرون ولا يغفرون (الحلية 4/92).

فلا تعير عاصيا أو لا تشمت بعاصي؛ لأنك لا تأمن أن تقع فيما وقع فيه، فلا يأمن كراّت القدر وسطوته إلا أهل الجهل كما قال ابن القيم، وقد قال  صلى الله عليه وسلم  « «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا عَثَرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ، وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ» » [رواه ابن حبان] .

إنّ أكثر من ابتلي به الناس في وقتنا المعاصر هو ما يقوم به بعض ضعاف النفوس على صفحات الإنترنت في منتديات عديدة من فضح ونشر لأسرار الناس وكشف لمعايبهم وإظهار الشماتة بهم وتتبع سقطاتهم سواء كان ذلك صحيحا أو كذبا، ولا شك أن من يقع في ذلك فإن عقوبته أن يفضحه الله ولو بعد حين؛ لأن النبي  صلى الله عليه وسلم   قد قال: ( «من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» ) وقال: (( «لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك» ).

جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم