أسباب النفور العلمي ...!

منذ 2019-07-13

قال سفيان الثوري رحمه الله:( يا معشر الشباب ، تعجلوا بركة هذا العلم ، فإنكم لا تدرون لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه ، ليفد بعضكم بعضاً ).


نفروا عن العلم المتين وأُترفوا//في مجلسٍ لاغ وغيرِ مكينِ
اللاهثون وراء دنيانا التي//قعدت لكل ملوّث ومَهينِ


تتكاثر الدروس العلمية وتتغازر ثمراتها، في بلادنا الحبيبة،(طلب العلم فريضة على كل مسلم ) ويهتم فضلاء بها اهتماما كبيرا، وجعلها بعضهم وظيفته في الحياة، ولكن أهل محلتهم لا يهتمون بذلك، ولا يحفظون لذي الفضل فضله، فيحصل التخلف والزهادة العلمية، والانصراف إلى متاع دنيوي، أو عبث اجتماعي،! أو ماجَريات السوشيال ميديا، وثمة مؤسسات لا ترفع بذلك رأسا، ولا تقيم لها وزنا،،،،! وتندهش إذا حدثك بعض المثبطين عن النهضة، وضرورة الانتشال من الواقع التاريخي الحزين، وإذا مفردات النهضة عنده مغلوطة،.. مغلوطة بامتياز،،! 
وفي السابق كان يقال ( أزهد الناس في عالم أهله وجيرانه ).

وقد تعاظم ذلك في هذه الأعصر المتأخرة حتى زهدوا في الأباعد والأكابر ، والله المستعان ...!
والظاهر أن مسألة النفور العلمي وأسباب عدم التفاعل الإيجابي مع الدروس العلمية وحلقات المشايخ راجع للأمور التالية :

١/ التوسع الترفي: في الملذات من دنيا فاتنة، بمختلف مطاعمها ومشاربها وزيناتها، وملاذها، فإنها إذا ملكت المرء أردته تابعا لها، فيدور في كنَفها، ويبيت لا يسلو بغير مطارحتها. ((
{فلا تغرنكم الحياة الدنيا } )) سورة لقمان . وفِي الحديث(( «إن الدنيا حلوة خضِرة» )) وقلة العلم تحمل على الافتتان بهذا الاخضرار، وفِي حديث آخر رائع جميل (( اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخرة )). وقال تعالى( {ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ) [سورة طه] .
قال الواحدي رحمه الله : إنما يكون ماداً عينيه إلى الشيء : إذا أدام النظر نحوه ، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه..!انتهى. فكيف حال من يمد ويطيل ويستمتع ويلين..؟!

٢/ التهوين العلمي: إذ لا يدرك عظمة العلم ولا فضل حملته، أو شرف عائدته وثمرته.! ويتناسى نصوص العز وقلائد المجد والشرف، والتي جعلت خلفاء أعاظم أمثال المنصور والمأمون يتوقون لمجالس العلم والتحديث..! قال تعالى(
{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ) [سورة الزمر] . وفِي صحيح مسلم: ( «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» ).

قال سفيان الثوري رحمه الله:( يا معشر الشباب ، تعجلوا بركة هذا العلم ، فإنكم لا تدرون لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه ، ليفد بعضكم بعضاً ).
والذي لا يستشعر هذه الرفعة حسا ومعنى ، لا يمكن أن يسعى لها..! بل سيكون التهوين حليته، والتقليل شعاره.

٣/ الصرف العلائقي : كأصدقاء وأحباء، لا هم لهم إلا مجرد التلاقي ،ويَصُدُّون عن طلب أو جد أو فضائل، والعبرة عندهم جلوس طويل، وأحاديث ترفيهية دون تغيير أو إصلاح..! ولذا تخيّر جلاسك، وانتقِ سمّارك، وفِي الحديث : ((
«فلينظر أحدكم من يخالل» )).

٤/ الجفوة المشيخية : من خطاب لاذع، أو خُلق جانف، أو شرح مطول، وأساليب صارمة، تنفّر الطلاب، ولا تهبهم الود والصبر والانشراح، ((...
{لانفضوا من حولك} )). ويشبه ذلك كثرة الانتقاد والتسفيه والتقبيح لهممهم وعزائمهم ، والتباعد عن حسن الدعوة وفقه المخاطبة . وصح حديث: (( « إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله » )). ولئن جاز ذاك في العصور الأولى، فلا يصح تنزيله على واقع متراجع، قلت فيه الهمم، واختلفت الأمنيات ..،! 

٥/ التوجه الحزبي: والأدلجة المَقيتة، والتي تقلل من فضلاء، ليسوا على شرطهم، ولا تحفل لدروسهم ومناشطهم...! فاحضر لفلان، ولا تحضر لعلان،،، وخذ من علان، ... ولا تأخذ من فلتان...! وتسمع التقليل أحيانا من كبار المشايخ، وحملة الإتقان والإبهاج العلمي،،،! والسبب توجه حزبي فئوي سمِج، يعمل على التفرقة، ويشيع التحزب والتشتيت والله يقول في محكم البيان ((
{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكم} )) [سورة الأنفال ] . فقد يبدأ أولا بالتهميش، ثم التقليل، وبعد ذاك التحذير الصريح...! مما يعني تعثرا قلبيا، وخللا داخليا، وقد كان من دعاء أهل الإيمان( ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ) سورة الحشر. فلا أطيب ولا أحسن للمؤمنين من سلامة القلب، وطهارة النفس..!
٦/ الانهماك الدنيوي : زينة وتفاخرا وعيشا وامتلاكا، بحيث لا يبقى في قلبه موضع لصلاة ومحافظة، فضلا عن علم وحضور درس واستفادة، فيصيب من الشهوات ما يصيب، ويتعلق بها تعلقا يحول دون الانضباط للعلم ودرسه ومنائره . وقد يخلط معها مكروها وشبها توصله لمستنقع الحرام المعوق للسلوك السليم قال تعالى: (
{ فلما زَاغُوا أَزَاغ الله قلوبهم } ) [سورة الصف] .
والانشغال المعيشي إذا لم يقنن ويضبط صرف عن العلم، وهمم بالمستقبل والعيال، قال الإمام الشافعي رحمه الله( لو مُلفت شراء بصلة لما فهمت مسالة ).
ومما ينسب له شعرا قوله:

لا يُدرِكُ الحِكمَةَ مَن عُمرُهُ/ يَكدَحُ في مَصلَحَةِ الأَهلِ
وَلا يَنالُ العِلمَ إِلّا فَتىً/ خالٍ مِنَ الأَفكارِ وَالشُغلِ
لَو أَنَّ لُقمانَ الحَكيمَ الَّذي/ سارَت بِهِ الرُكبانُ بِالفَضلِ
بُلي بِفَقرٍ وَعِيالٍ لَما/ فَرَّقَ بَينَ التِبنِ وَالبَقلِ

٧/ الخجل الاجتماعي : بحيث يخجل أن يراه الناس متعلما، أو حاملا كتابا، أو مسترشدا لأمور دينه، ويعتبر ذاك نقصانا اجتماعيا من ذاته ومكانته...!
٨/ التعالي النفسي: وما يخالطها من كبر فاتك، وغرور ماسك، يحول دون التعلم وطلب الفائدة، والسؤال عما يشكل، قال تعالى: (
{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} ) [سورة الأعراف] . وقال مجاهد رحمه الله: ( اثنان لا يتعلمان: مستحٍ ومستكبر ).

٩/ التزهيد المصلحي: والمستند إلى علم وحجة، تقوم على تأجيل العلم والاعتناء بالدعوة أو تربية الشباب أو الدخول في خضم عمل مؤسسي شاق، أو تفهم العلم على شكل ضيق من حيث وجود المؤسسات، وأن الإمامة والخطابة كافية في رفع الجهالة عن المجتمع، ودرء البدع والمخالفات...! أو كفاية الأمة انتهت بالكليات الشرعية، ولم نعد تحفز الآخرين إلى العلم والتفقه،،،!
والأنكى استناد ذلك لرؤية علمية دعوية تنظيرية، تعتقد الوعي والصواب، وفِي الحقيقة فيها من الجهالة والاجتزاء والهشاشة ما فيها، وتجعل كل عاقل غيور يمج مثل ذلك ويأنفه،،،!

١٠/ المحيط الملوث: من خلال أصدقاء كسالى، وجلاس متبسطين، يتوقون للترويح وليس للجامع الصحيح، ويعشقون الأخبار العامة، وليس الكلمات التامة،،،،! وولع بالموديلات وليس بالمرويات، ويتهافتون على المآدب، وليس كنوز المكاتب..!
ومن ثم يحصل النفور، ويتسع الاستثقال، ويتراكم التخلف والله المستعان ....!

١١/ التصور السلبي: من أن العلم صعب، ومسائله معقدة، تحتاج إلى عقل سيال، أو عبقري نهام، أو فذ خارق، يحتمل طوله، ويصبر على شدائده، وقد كفانا الله ذلك- زعموا- بأناس تخصصوا للعلم، وأبدعوا فيه، ولا يضيرنا نحن ابتعادنا قليلا عنه، واشتغالنا بأشياء أخر...!

١٢/ الاتهام الذاتي : من عدم الصلاحية، أو ذهاب القدرة، أو غياب الآلة..! ويطلق عبارات معوقة....: لا أستطيع الحفظ، وأضيق من حمل الكتب،،،،، ولا أحب الارتباط،...! والتقنية ما أبقت شيئا،،،! وكل شيء في النت،،،! وقد ينشأ ذاك من تلوث المحيط أو مربين استحواذيين، لا همَّ لهم إلا التجميع الفارغ، والتلاقي المصدي...! 

١٣/ التجريف الشبابي: القائم على قتل الطاقات، وتسطيح العقول، وادخار الحراك لمقاصد باهتة، أو شخصية، لا تحسن البناء ولا صقل الشخصيات، ولا حفزها للمسلك الأحكم، والطريق الأدق الأقوم ..!
وبالتالي تُقتل الهموم الجادة، ويذهب الزمان، وتنطفئ اشعاعات الإبداع والمقدرة الذاتية وتتلاشى مع مرور الأوقات، بسبب محاضن غير واعية، أو مربين محدودي الفقه،،! ولم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال والرجوع لأهل الخبرة والدراية، بل نصبوا أنفسهم أوصياء تربويين، فانتهينا إلى ما انتهينا إليه من الضحالة والعزوف..،! 

١٤/ الإلهاء الإعلامي: عبر شاشات ملونة، وبرامج مشغلة، وأنباء محتشدة، ومعلومات دفاقة، وثرثرات متداولة، وتسالٍ متفنن فيها...!تحمل الغث والسمين، وأقل جرائمها التزهيد في الكتب والقراءة واعتماد السماع والتلقي بدون أدنى تفكير أو مراجعة، ،،،! ولا تخلو من أصوات محرمة وصور خليعة لها آثارها على الأرواحِ والله المستعان.

ومن الإلهاء الطاغي هذه الأيام متابعة الماجَريات اللحظية والتغريد اليومي في مواقع التواصل الاجتماعي( تويتر ) مثلا، والتفاعل الواتسي.....! إلى درجة اللصوق وعدم التزحزح، مما يزهد في الانتفاع العلمي والتفكير فيه...!

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .

حمزة بن فايع الفتحي

رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير